أثبتت جمعة الغضب الثانية (15-12) رفضاً لقرار ترامب بخصوص القدس , أن الشعب الفلسطيني على قدر المسؤولية الوطنية والأمانة التاريخية , في الدفاع عن القدس المحتلة التي تعتبر مركز مقدسات الأمة في فلسطين , وقبلتها الأولى ومسرى الني صلى الله عليه وسلم ومعراجه للسموات العلي , فلقد خرجت الجماهير في كافة أنحاء الوطن المحتل وميادينه , في فعاليات متنوعة ومتعددة وحاشدة , شاركت فيها كافة شرائح المجتمع الفلسطيني , ورافق تلك الفعاليات الشعبية , الصدام والإشتباك العنيف مع قوات الإحتلال , التي تحاول عبر وسائلها الإرهابية القمعية إحباط ومنع أي حراك فلسطيني , عنوانه الدفاع عن القدس والرفض لقرار المجرم ترامب , للإيحاء بأن القرار بخصوص القدس , لن يواجه بأي إعتراض حقيقي , يؤثر على مسار الأحداث في المدينة المقدسة والمنطقة , وهذا ما أفشلته الجماهير الفلسطينية المنتفضة في حراك شعبي متواصل منذ إعلان قرار ترامب الآثم .
إرتقى أربعة من أقمار فلسطين شهداء في مظاهرات الجمعة , أضاءت دمائهم الطاهرة قناديل الأقصى , فأشرقت القدس غضباً في وجه العدو والمفرطين على حداً سواء , ودونت في صحائفها للتاريخ أن في قلب الأرض المقدسة , رجالاً يتقدمون للموت في سبيل أن تصان مقدسات المسلمين , وليبقى الطُهر عنواناً للمكان ورداءً للزمن الفلسطيني المقاوم , فلن تُمس القدس وأقصاها بأي أذى أو سوء , ما دام في هذا الشعب طفلٌ يرضع لبن الكرامة , من نشمية آمنت بأن فلسطين هي سورة في كتاب رب العالمين, لا يمكن التفريط فيها أو نسخها , لتزداد القدس رسوخاً في وجدان الأجيال , لن يغير لغتها وحروفها العربية دمية الإباحية والفجور ترامب المسخ, ولن تطمسها من ذاكرة الأمة مغامرات صبية البلايستيشن وعباد الكراسي , في عواصمنا المحتلة بالوجع والقهر والقمع والتبعية والتطبيع .
أربعة شهداء قدموا الدماء رخيصة , في سياق الدفاع عن القدس العاصمة , مركز الصراع الكوني بين الحق الإنساني والباطل الشيطاني, لقد قدم الشهداء المهر غالياً , ليستمر القلب ينبض بدقات الوعد القادم من محطات التاريخ الذي لا يكذب , ووعد القرآن الذي لا يأتيه الباطل , حيث تُسرد الحقائق بأن القدس هي عنوان الصحوة والنهضة وتمام العافية للأمة , فحرية القدس حرية للأمة , والقيود التي تكبل القدس أثرها لا تحده جغرافيا المكان , بل يمتد أثره لتجد آلام القيود تمتد مع إتساع الجسد الإسلامي الواحد , وحتى تبرأ الأمة من أسقامها ونكباتها , يقع لزاماً عليها علاج أوجاع القدس وإزالة آلامها وإنهاء معاناتها وكنس الإحتلال من ساحاتها , ليكون كسر قيد القدس مسؤولية من يطلب حياة العزة والكرامة للشعوب من جاكرتا إلى الدار البيضاء .
أربعة شهداء في جمعة مليونية القدس , وعشرات الإصابات التي أراد العدو الصهيوني أن تكون إصاباتهم قاتلة إمعاناً في القمع والإرهاب , ولكن هيهات أن تنجح آلة القمع الصهيونية , في زرع الخوف أو الرعب في قلب الفلسطيني, فلقد تزينت لوحة الشرف الفلسطيني , بأسماء جديدة من شهداء مليونية الجمعة , وهم الشهيد محمد أمين عقل 25عاما من قرية بيت أولا قضاء الخليل , الشهيد باسل مصطفى محمد ابراهيم 29 عاما من بلدة عناتا بالقرب من القدس , الشهيد ياسر سكر 23 عاما، من حي الشجاعية شرق مدينة غزة , الشهيد إبراهيم أبو ثريا 29 عاما، من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة .
من هؤلاء الشهداء كما أسلفنا الشهيد المكافح إبراهيم أبو ثريا , مبتور القدمين بعد إصابته بصاروخ طائرة صهيونية بتاريخ 11-4-2008م , خلال اجتياح لمنطقة شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة , الشهيد إبراهيم شاب فلسطيني يمثل صورة الإصرار وقهر واقع الإحتلال والتمرد على سياسة القمع الصهيونية، لم تقعده الإصابة في المنزل حبيس الآلام والظنون وهواجس الخوف من المجهول ، خرج يبحث عن رزقه وهو مبتور الأطراف ليأكل من عرق جبينه ولا يتوسل أحدا ، لا حكومة ولا مؤسسات ولا أشخاص على طرقات المدينة ، وعندما غضبت الجماهير وهبت لنصرة القدس ، لم يتأخر الشهيد إبراهيم وهو صاحب العذر الشرعي ، ولن يلومه أحد عن تغيبه في ساحات الفعل الوطني والإنتصار للقدس ، الا أن قرار إبراهيم كان نابعاً من إرادة الفلسطيني الأصيل المرتبط بالوطن وقضيته فلا ينفصل عن قضيته تحت أي تأثير أو عذر .
مضى الشاب إبراهيم في ميادين الرفض لقرار المجرم ترامب ، ليؤكد بجهده وجهاده قدر إستطاعته على فلسطينية القدس وعروبتها وإسلاميتها ، وكان إبراهيم مؤمناً بأن صوته وحضوره مهما من أجل حشد الجهود وتضافرها في إظهار حالة السخط والرفض الشعبي العارم على المؤامرة الصهيوأمريكية , التي تستهدف مدينة القدس وتسعى لتهويدها وسط غفلة أو تآمر بعض من ينطق بحرف الضاد , ويتلون في صورته الظاهرة بألوان عربية شرقية ومسوح إسلامية مخادعة.
صورة الشهيد إبراهيم وهو يزحف حاملاً علم فلسطين ، تضع الجميع عند لحظة فارقة , لا تراجع فيها ولا خذلان ، وهو المشهد الفلسطيني الإسطوري حيث تسكن فلسطين قلوب المحرومين المستضعفين , بل وتزاحمهم أعباء حياتهم وتنتصر بعظمتها في صدورهم على تفاصيل الوجع اليومي الذي يصنعه الإحتلال والإنقسام في زمن قضيتنا الأكثر إيلاماً ، لتكون الرسالة أن فلسطين والقدس هي جوعنا , الذي نبحث عن من يسده بعودة فلسطين ورجوعها حرة عزيزة , وإستخلاص القدس من بين أنياب ضباع الصهاينة طاهرة من كل رجس ودنس ، وطريق هذا الخلاص لن يكون الا من خلال زراعة بساتين فلسطين وطرقاتها وأحراشها سهولها وجبالها مقاومة وتضحية مواجهة وإستبسال ، فلا يزيل العار إلا دمُ ونار, ولا يرد ترامب عن وعده إلا المقاومة بالأفعال لا بالأقوال , تضحية الشهداء عظيمة ونموذجها فريد في العطاء, ومتميز بإنتمائه الصادق لفلسطين الوطن , وهذا يحتاج من الكل الفلسطيني التجرد عن كل ما يعيق الإنتماء لفلسطين وطريق تحريرها الكامل , الذي يسلك مساره خارج أوهام التسوية وخديعة التفاوض , والدماء الطاهرة التي سُكبت منذ قرار ترامب وقبله , تطلب منا أن نكون على قدر أمانة الشهداء , التي تكبر مع كل المحطات الوطنية , حيث تتواصل التضحية كأمواج البحر المتلاحقة , تذكرنا بحقنا المسلوب وتشير لعدونا الأوحد , وتزداد مع حكايات الشهداء بوصلة الوطن وضوحاً , لتأتي وصية الشهداء عنوانها واحد هو الوحدة والمقاومة , وشرحها بسيط بلا تعقيد , الوحدة سلاح والمقاومة خيار.
بقلم/ جبريل عوده