وصلني من صديقي ورفيقي الفلسطيني الجميل ، الشاعر الرقيق والناقد القدير محمد علوش ، ابن نزلة عيسى في الضفة الغربية ، قضاء طولكرم ، ديوانه الشعري الثالث " أتطلع للآتي " ، وكان صدر له سابقاً ديوان " سترون في الطريق خطاي " وديوان " خطى الجبل " .
محمد علوش هو أحد المبدعين الفلسطينيين الذين اعشق أشعارهم ، ولا أمل منها مهما أعدت قراءتها ، فهو ممن يعبرون عن مكنون الوطن وقضايا الشعب والناس، من خلال دوره كمثقف نوعي وكاتب سياسي ومبدع ملتزم وناقد أصيل له اسهامات شعرية ونقدية ابداعية ، وكتابات سياسية تحتضنها الصحف والدوريات الثقافية المحلية والعربية والعالمية والمواقع الالكترونية المختلفة .
وهو صاحب رسالة ثقافية وأدبية ، وموهبة شعرية ، وذو شاعرية محلقة وديباجة متمكنة من اللغة والبيان والتعبير أي تمكن ، ويدهشنا بلغته الشاعرية الناعمة ، اللغة الرشيقة الموحية ، فهي لغة من المألوف المتداول التي لا تفقد وهجها ولا صفة الشاعرية والايحاء ، وهو شاعر يصر على النزول الى النبض والذوق الشعبي محتفياً بهموم الناس البسطاء الكادحين والمسحوقين ، متعالياً على البلاط وشعر المناسبات وسلاطين الأدب وسدنة الثقافة ، ومصراً على أن الشاعر الذي في قلبه وصميمه انسان منحاز للطبقات الشعبية الكادحة الطامحة بالتغيير ، التواقة للحياة الكريمة الشريفة السعيدة الرغيدة ، والمتطلعة لمستقبل أفضل وأجمل .
أما موسيقاه الداخلية فهي صافية وعذبة ورقراقة تنساب في الروح والوجدان ، دون وسائط ، بينما نجد مضامينه ومواضيعه وموتيفاته انسانية ووطنية وسياسية مستوحاة من الواقع السياسي ، وعذابات الجماهير ، وأوجاع شعبه ومعاناته ، وهموم وطنه ، وتظل قصيدته شاهداً فكرياً وروحياً ووجدانياً وانسانياً وفنياً على تواصل نكبتنا الحضارية وقضيتنا الوطنية ومأساتنا التراجيدية ، وعلى عمق الجرح والقضية الطبقية في مجتمنا الفلسطيني ومجتمعاتنا العربية والكون الانساني .
بينما شكل القصيدة التي يعتمد عليها محمد علوش في خطابه الشعري فهي قصيدة النثر بكل ما تحمله من ثورة وتمرد على الشكل البنائي اللغوي والفني والهندسي للقصيدة التقليدية الكلاسيكية ، رغم انه اعتمد التفعيلة وغنائية الشعر العمودي في قصيدته " وأتيت أعراس الخليل " .
محمد علوش محاصر بالحزن في مدينته الفلسطينية ، ومتأجج بالغضب في آن ، لما ال اليه الوضع العربي السياسي ، ثائراً على الحكام والانظمة العربية المتخاذلة المتهادنة ، معرياً حقيقة الواقع البائس ، طامحاً وحالماً بالتغيير المنشود ، متطلعاً الى الآتي الجميل .
جاء ديوان محمد علوش في ١٣٥صفحة من الحجم المتوسط ، ويحتوي على ٤٣ قصيدة تتنوع في موضوعاتها وألوانها ، وجاء في الاهداء : " اليك طريقاً أخرى نحو الحرية للحلم الذي يجمعنا .. والى الأمل الذي يعطينا الأمل دائماً بغد أفضل " .
قدم للديوان الشاعر والكاتب والناقد الفلسطيني محمد دلة ، مؤكداً على أن محمد علوش " لم يأت الى الشعر من عتمة الايديولوجيا أو من رتابة الموروث الشعري وخصوبته ، هو هكذا جاء وحده مغامرة لغوية ملتصقة بأناه وأنا شعبه المعمد بصيرورة اللغة والتراب . فهو شاعر ينتمي بكامل ذاكرته المعشوشبة الى المهمشين والمسحوقين ، الى تراتيل أناشيدهم الصباحية وحسهم الانساني بالعدالة والتضامن وصناعة مستقبل أجمل " .
قصائد الديوان تحمل في طياتها معاني الوطن والحب والانسان ورائحة التراب وعبق الزعتر البري واالسنديان الجليلي والياسمين الدمشقي ، وأحلام الفقراء والمشردين ، وتتراوح بين الوجدانية والتأملية والوطنية ، وتحلق في سماوات الخيال البعيدة ، فيكتب لمدينته الحزينة ، ويعيش وجع الغربة ، ويستمع الى صرخات الفقراء ، ويثور بوجه المال الوحشي ، وينام على أصوات الباعة المتجولين في شوارع وأزقة مدينته الملأى بالناس الباحثين عن رغيف الخبز وكفاف يومهم ، ويفيض حبر قلمه حتى يبلغ ذروة الجنون بعد أن تأجل النهار ، باحثاً عن وطن في وطنه ، ويخاطب المسحوقين الغلابى المشردين الذين " وحدهم من يصعدون الى الله ، ومن تفتح لهم باب السماء ، وتصلي ملائكة المطر وتفرد لهم اجنحتها أمام لهيب الخيام " .
ويناجي حيفا التي تركب الموج وتنتظر لقاء العمر ، دمعة دمعة ، وشمعة شمعة ، حيفا التي غيروا وجهها وملامحها ومعالمها وشوهوا جذوة التاريخ فيها ، واغتصبوا ذاكرة المكان . ويرسل وردة الى بيروت ، الوردة المشتهاة ، ونزيف الأرز ، ووجع الضاحية ، ودمع السماء الذي يروي روح الأرض ، ويقف على حافة وضفاف الحلم ليعانق النوارس والأمواج الثائرة في بحر غزة الصمود والجرح المتواصل ، التي سقطت في الصمت وحيدة في زمن الموت ، ملفعة بالنشيد ، تحرس العرين .
ويخاطب اخوته الذين تركوه جوعاً وعرياً وأسقطوه وخذلوه وشربوا نخب دمه ، وغمروه بالنسيان ، ويفتح باب الليل العالي صارخاً وهاتفاً للعودة ، ويسكن البحر نخلاً ، ويزرع في قميص الرمل آيات الأغنيات والصلوات ، مشرعاً صدره للرصاص الذي يلتحم مع الموج والهديل ، ويأتي الى أمه أجمل ما في الكون ، التي تزرع الأمل في قلبه ونفسه ، أمه التي توقظ الحدائق كل صباح ، وتعلق قنديل النهار على شجرة الخبز ، وتشق الحلم رغيفاً ، وتبعث الرماد في عيون المستحيل ، ويأتي الى أعراس الخليل ليحتسي وجع النبيذ عنباً ، ويمشي في وديانها وجبالها صوب ما كتبته يد التاريخ يستمطر الشهبا ، متطلعاً الى الآتي بكل ثقة وايمان ، معانقاً فجر الغزالة التي تحرس الكرم والمواسم والفرح ، حالماً بالشمس التي ينسج خيوطها غزالاً في صهيل الجنوب ، وغزالاً تطارده القصيدة العلوشية .
ديوان محمد علوش يحفل بالجمالية الشعرية والصور الأنيقة القاتنة ، وبالأخيلة والأوصاف والتشابيه والمحسنات البديعية ، لزيادة عمق الجمالية والموسيقى الشعرية في جرس الكلمات العذبة ، وتأتي مفرداته فصيحة وصوره خلابة منسجمة مع موضوع القصيدة بلا ابتذال ، وبكل عفوية صادقة وشفافة .
محمد علوش شاعر غزير يواصل العطاء بتوهجه المضيء المشع بالدهشة والابهار ، انه شاعر موهوب متميز حقيقي ، يملك ناصية الكلمة واللغة ، ويقدم لنا باقات معطرة من الزهور الجميلة في بستانه الشعري العامر بكل ألوان وأنواع الورود والأزاهير .
تحية لك يا صديقي المعتق الرائع الشاعر والناقد والمناضل محمد علوش ، وثق تماماً أن الغد دوماً أجمل ، رغم الحلكة ودياجير ظلام الاحتلال ، فلا تفقد الأمل وتطلع دائما الى الآتي الجميل الذي تستشرفه قصائدك الخلابة ذات النكهة الفلسطينية الطولكرمية المميزة ، مع خالص الحب والتقدير وتحيات الوفاء ، والتمنيات لك بالمزيد من العطاء والابداع في مساقات الشعر والنقد ، ونحن في الانتظار دائماً .
بقلم/ شاكر فريد حسن