إبراهيم أبو ثريا، الفلسطيني المُقعد قتل يوم الجمعة 15 كانون الأول/ ديسمبر 2017 برصاص قنّاص إسرائيلي في مظاهرات الاحتجاج في غزة من أجل القدس. رجل في التاسعة والعشرين، يعيش في مخيم الشاطئ، فقد ساقيه منذ تسع سنوات في غارة طيران إسرائيلية على القطاع في عملية "الرصاص المصبوب" عام 2008.
إبراهيم أبو ثريا، صيّاد السمك الذي عمل أيضا في غسل السيارات، مات على كرسيه النقال، لأن قناصا إسرائيليا تصيّده من منظار بندقيته.
لن أدعوكم إلى توقّع ردّات الفعل العالمية لو قلبنا المشهد، وتخيّلنا مُقعدا إسرائيليا يهوديًا يُقتل برصاص قنّاص فلسطيني، وراقبنا ردود الفعل الدُّولية والأمريكية بشكل خاص. الموازنة غير مجدية بالطبع، ولا لزوم لها الآن، لأنها لن تقود إلا إلى مزيد من الشعور بأن الضحية الفلسطينية والضحايا العربية لا قيمة لها في عُرف هذا العالم.
ولكن مهلا، قبل أن نلوم العالم على لا مبالاته المتوحشة، تعالوا نسأل أنفسنا عن هذا الحضيض الذي وصل إليه العرب، إلى درجة أن الرئيس الأمريكي يقوم بالاعتراف بالقدس عاصمة "أبدية" لإسرائيل ومدينة لليهود الذين "عادوا" إليها بعد ثلاثة آلاف سنة! من دون أن يخشى ردود الفعل العربية على مصالح بلاده النفطية الهائلة في أرض العرب. بل على العكس من ذلك، فهو واثق من أن حلفاءه العرب لا حول لهم، وأنهم في نهاية المطاف لا همّ لهم سوى البقاء في السلطة، أما القدس وغيرها من آلام العرب، فإنها لا تعنيهم على الإطلاق.
قيل الكثير عن جنون ترامب وولعه بالتغريدات التويترية، وعن المعارضة المؤسساتية والشعبية في أمريكا لهذا "المعتوه" الذي يتعامل مع السياسة الدُّولية لبلاده وكأنها برنامج تلفزي ساخر، لكن موقفه من القدس ومن فلسطين لا يمكن أن يُقرأ إلا عبر ربطه بالتهتك السياسي والأخلاقي العربي، الذي حوّل بلادنا إلى وليمة كبرى للتوحش والموت.
ترامب بعنصرية الرجل الأبيض المتعالي الذكوري الجشع هو أفضل مرآة للواقع العربي الراهن. ترامب هو المرآة التي ينعكس عليها كل الخزي والمذلة والمهانة التي تعيشها بلاد العرب، منذ انهيار الانتفاضات الشعبية العربية تحت أقدام الثورة المضادة التي جمعت الأضداد.
من أين نجد الدموع كي نبكي إبراهيم أبو ثريا بعدما جفت دموعنا ونحن نشاهد السوريات المغتصبات في سجون النظام الاستبدادي يروين حكاية مهانة أجسادنا وأروحنا؟
وأين نجد الأسى بعدما عشنا مع الأيزيديات واحدة من أقسى تجارب الهتك الشامل لإنسانيتنا على أيدي الوحش الداعشي؟
وكيف ننتصر للقدس حين نرى كيف هُدمت حلب وحمص والرقة على رؤوس الناس؟
وكيف نأكل وأطفال اليمن يموتون جوعًا؟
وكيف نستطيع أن نحكي بعدما ابتُذل الكلام وفقد الناس القدرة على النطق وهم يُهجّرون ويغرقون في البحر وتُداس أرواحهم؟
قبل القدس رقص الرئيس الأمريكي حاملا سيفًا عربيًا مرصعًا، غرّد ثم رقص ثم عاد الى التغريد من جديد. رقص في الرياض على إيقاع طبل عربي مصنوع من 500 مليار دولار، وقاد أكبر قمة إسلامية في التأريخ قبل أن يقول للجميع إن عليهم الخضوع لإسرائيل والقبول بأساطيرها ثمنا مسبقا لحماية أمريكية إسرائيلية في الصراع الإيراني ـ السعودي، الذي أعاد المشرق بأسره إلى جاهلية المِلَل والنِّحَل.
حين استمعت الى ترامب وهو يُعلن بلسانه وأسنانه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهذا يعني أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية بأسرها سيدوم الى ما لا نهاية، تذكرت مشهد الرقص في الرياض، وتخيلت أن الردّ الرسمي العربي الوحيد المتاح هو الرقص. وهكذا كان.
رقص الحكام والعرب وسيواصلون الرقص على جثث العرب.
كل الكلام عن أن إسرائيل في حاجة إلى صفقة سلام مع هذه الأنظمة العربية التي لا تملك من القوة سوى الوهم والوهن والمال الذي يتبدد، هو كلام خطأ.
الذي يحتاج الى الصفقة هي الأنظمة العربية. مقابل السلام تقدم إسرائيل وعدا بالحماية، ما عدا ذلك فإن إسرائيل ليست معنية بسلام حصلت عليه مجانا، ولم يعد يؤرقها.
لقد تكفل الاستبداد العربي والسياسة الأمريكية بتحقيق سلام الأمر الواقع، وما على إسرائيل سوى متابعة سياسة الضم والقضم وانتظار العرب كي يفتحوا أسواقهم وبلادهم مقابل حماية وهمية لن تقدمها ولا تستطيع تقديمها.
العقبة الوحيدة في وجه إسرائيل كانت وستبقى هي إبراهيم أبو ثريا وعشرات الألوف ممن يشبهون هذا الشهيد الفلسطيني الذي لبط الاحتلال بقدميه المقطوعتين وقرر أن يقول إن الأرض هي لأصحابها، وأن حماة هذه البلاد التي تُسمى فلسطين صامدون وصابرون ومقاومون.
ليست فلسطين وحدها اليوم إلا لأن كل الشعوب العربية تشعر أنها وحدها.
غير أن فلسطين تمتاز بأن إطار معركتها هو خارج الأيديولوجيات والأساطير التي فككت بلاد العرب. هنا نحن أمام عدو واضح، لا يقول إنه يقتل العرب باسم "رسالة خالدة" او باسم انتماء ديني طائفي او باسم الدفاع عنهم، او باسم مقاومة إسرائيل.
هنا يُقتل الفلسطيني لأنه فلسطيني، وتُمحى الهُوية العربية لأنها عربية، وتُحتل فلسطين لأن الصهيونيين يريدونها دولة يهودية، ويُمارس التمييز العنصري لأن السلطة الإسرائيلية تفتخر بعنصريتها ضدَّ العرب.
ولأن العدو واضح فلا مبرر للفلسطينيين أن لا يكونوا واضحين، وشرط الوضوح هو الخروج من تفاهة الانقسام وسفاهة التنسيق الأمني وعهر المحاور الإقليمية.
المعركة طويلة
ولعل الدم الفلسطيني الذي يُراق اليوم يُعيد شيئا من الاعتبار الى دماء كل الضحايا العرب.
ترامب هو اليوم مرآة انحطاط المشرق العربي، ووسيلة التفاوض الوحيدة مع هذه المرآة تكون بكسرها.
الياس خوري