قصة قصيرة: حِمار “ أبو إدريس“

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

   لم أرَ في حياتي حماراً جميلاً ذا رُواء حَسَن مثل حمار أبي إدريس، حتى إنه ليفوق كل الحمير بما فيها الحمار القبرصي المضروب به المثل في قوته ونشاطه وبهائه. فقد امتاز هذا الحمار من غيره من الحمير البلدية بطول جسمه وارتفاع قوائمه وبشَعَره الناعم ذي اللون الأشهب. كما امتاز بوجهه المليح الممسوح بالحزن والحياء، وبعينيه البراقتين الكحيلتين المحفوفتين بأهداب مخملية طويلة. وفوق كل هذا رأسٌ يتناسب حجمه مع حجم جسمه، تعلوه أذنان رشيقتان، تتحركان حركة تبادلية كهوائي رادار حربي في أرض المعركة. ويتدلى من مؤخرته ذيل طويل ناعم يكاد يلامس الأرض إذا سكن، وإذا تحرك فإنه يلوح يميناً وشمالاً بحركة بطيئة لا تهدأ ولا تتوقف كبندول الساعة القائمة في الميدان الرئيس الذي يتوسَّط المدن الكبرى، كما يُذكِّر رائيَه بمنشا الباشوات في عصر الإقطاعيات.

   وإنكَ إن نظرتَ إلى هذا الحمار وأمعنت فيه النظر، داخلك شيء من الشك في صحة نسبه، إذ يَدهَمُك الظن – استغفر الله – أن أمه كانت قبل حمله عاشقة لحصان أجنبي، فلم يولد بغلاً بل جاء إلى الدنيا حماراً ابن حمارة.

   تغيَرتْ أحوال هذا الحمار المسكين إلى الأسوأ بعد أن أمضى سبع سنين عِجاف في حوزة أبي إدريس، إلا أنه ما زالت في شكله وفي مظهره الأنيق بقيةٌ من ملاحة لا تخلو من رقَّة ونعومة ينبئان أنه كان مخدوماً مُرَفَّهاً طيلة السنوات السبعة السِّمَان التي قضاها في كنف سيده المرحوم الشيخ سمعان، كما تُفصِح هيأتُه عما كان عليه من وجاهة ومنزلة محترمة بين الناس وبين سائر الحمير في تلك القرية الطيبة. فهو حمار السيد العظيم، وهو حمار الشيخ الوجيه، وقياساً على المثل العربي القديم فإن " حمار الشيخ شيخ ". أليس كذلك ؟.               

   ومرت الأيام ومات سيده الشيخ سمعان، واستغنى عنه أبناؤه، وهان عليهم أن فرَّطوا فيه، فباعوه في سوق الحمير، واشتراه أبو إدريس، وآلت ملكيته إلى هذا الرجل العربنجي، فانتقل من دار السعد والرغد إلى دار النحس والبؤس والنكد. واستعمله صاحبه الجديد في الأعمال اليومية الشاقة، والأحمال الثقيلة من ساعات الصباح الأولى إلى غروب الشمس بلا شفقة وبلا رحمة وبلا علفة لذيذة مُشْبِعَة، وبلا كلمة شكر وبلا ورقة عفارم، مُنكراً عليه جُهده ونشاطه وطواعيته. ولقد جاء على لسانه وهو يروي تجربته المأساوية في مقابلة تليفزيونية، أنه قال والدموع تصارع حياءه: " حبسني أبو إدريس في بيته ومنعني من مغادرة البايكة (الحظيرة) إلى شوارع القرية إلا بإذنه، فلا أخرج منها إلا للعمل، كما حَرَّم عليَّ السياحة في مراعي القرى المجاورة خوفاً عليَّ من التعرف إلى الحيوانات الأخرى وتكوين صداقات جديدة؛ أتعلم منها ما يُحرِّضني على العصيان والتمرُّد. فعزلني عن سكان الأرض؛ ونأى بي عنهم، لا أخالطهم ولا يخالطونني، ليضمن بقائي في ديار الغربة جاهلاً  حقوقي السياسية والاجتماعية، لا أفهم عنها شيئاً حتى لا أطالبه بواحدة منها. وهكذا ظل خامداً على نفَسي بعد أن أفسد عليَّ حياتي وزاد من عتمة عقلي، ولوَّثَ الهواءَ الذي أتنفسه، فعشت معه مسلوب الإرادة والحرية والحقوق الأولية التي نصت عليها الهيئات الحقوقية العالمية. هذا هو أبو إدريس الذي لا يعرف الله إلا في صلاة يوم الجمعة التي لا يصلي غيرها مراءاة للناس، والناس تعرف عنه ما يـتـوهم أنه يُخفيه عنهم، إذ ما فائدة صلاته إن لم ينتهِ بنَهْـيِها، ويَكُفَّ أذى يده ولسانه عني وعن الآخرين؟! ".

   هذه هي حكاية الحمار المسكين الذي ليس له إلا الصبر على مبتلاه، وكم من مرة يجلس وحده يفكر في أحواله وأوجاعه فيبكي في صمت، ولكنَّ دموعه تفضح ما هو مُخفيه. ورغم كل ما أصابه من صاحبه أبي إدريس إلا أنه ما زال  يطيعه ولا يعصي له أمراً ولا يرُدُّ له سؤلاً، ليس خوفاً من بطشه واتقاء لشَرِّه، ولكنْ التزامأ منه بأداء واجبات الشراكة، ووفاءً لصاحبه الذي يعيش في جواره رغم سوء العِشْرَة، فهو إذا استعان به أعانه، وإذا كلَّفه بأمر نفَّذه بإتقان دون إبطاء أو تأجيل، فتراه متعدد المواهب: يحرث الأرض المستأجَرة، ويملأ الجرار بالماء من بئر بعيده، ويجر عربة الخضروات والفواكه الموسمية من حقول القرية إلى السوق. وكان يشقى كثيراً إرضاء لصاحبه الذي لا تظهر عليه علامات الرضا، فهو دائم التجهُّم والعبوس، لا تنقشع عن وجهه القتامة إلا حين يقبض أَجرَه من أرباب العمل، فتزيد دراهمه التي يحصل عليها بفضل شريكه الحمار الذي يبخل عليه بزيادة مخصصاته حفنة من شعير أو بفتح معبر البايكة ليَمُرَّ منه لقضاء بعض الوقت من يوم الإجازة الأسبوعية في مراعي القرية أو السفر إلى الخارج أسوة بالحمير والكلاب الأخرى.

   ساءت حال هذا الحمار، وبهت رونقه، وذهبت عنه القوة والمتانة، وظهر عليه الهزال وقلة الحيلة، ووصل به الأمر أنه أصبح لا يقوى على الإيفاء بواجباته بنفس الهمة والنشاط السابقين، فكان ذلك يؤلمه. ومع هذا فإن أبا إدريس لم يكن يحفل به، ولم يكن ليسأل عن سبب تراجع عافيته وتدهور صحته وذهاب نشاطه وحيويته. فلو أن أبا إدريس سأل نفسه عما صيَّر حماره مهزولاً مكدوداً، لاهتدى إلى جواب وعرف الأسباب، ولكنه لم يفعل، بل زاد في إيلامه والقسوة عليه، ولا تزيد القسوة حماره إلا انتكاساً في العافية، وبطئاً في العمل. وقد نسي أبو إدريس أن حماره هذا؛ حيوان سخَّره الله لخدمته ولقضاء حوائجه، ومن العدل أن يرفق به ويرحمه من العصا الغليظة ومن المخراز الذي يغرزه في جسده كلما أحس منه تباطؤاً في المشي أو تقصيراَ في إنجاز العمل، فصَبَر صَبْراً جميلاً واستعان بالله، وعرف أن أسوأ ما ابتُلي به صاحبُه أبو إدريس هو ظنه أنه إله يمشي على الأرض، له الأمر والنهي، فعَّال لما يريد، يركب حماراً يريد أن يُعَرِّج به إلى القمر بلا تراخٍ أو إبطاء. والويل له من العصا الغليظة ومن المخراز ومن إهانات اللسان: " ولَكْ مالك يا حمار بطَّلت تفهم  زي الحمير؟! ياللا شد حيلك ". ويتوجع الحمار ويقول في نفسه: " يا ليتني أكون مثل الحمير في راحة بالها، وهناءة عيشها، أنت يا صاحبي أَهلكْتَني وصَيَّرتني أضحوكة في القرية، وأضَعْتَ مني صفات الحَمْرَنَة الأصيلة، فهل من سبيل إلى خروج وانعتاق؟ ".

   وذات يوم كان حمار أبي إدريس يجر عربته عائداً إلى البيت، فامتد بصره يمنة ويسرة، فتحسَّر على حاله حين رأى على جانبي الطريق حميراً تنتشر مطلوقة ترعى مع حيوانات متعددة الأجناس والطوائف في مساحة واسعة من الأرض المعشوشبة، وها هي وصغارها الجحوش ترتع وتبرطع بحرية كاملة، وتخالط   غيرها من الحيوانات الأخرى كيفما يحلو لها، وهي إن رجعت إلى بوايكها وجدت من الطعام ألواناً: البرسيم والجزر وورق الكرنب والشعير وأنواعاً أخرى لا يعرفها..." أما أنا يا حسرة عليَّ لا أعرف إلا طعاماً واحداً؛ حفنة من شعير مخلوط بقليل من التبن، لا يشبع وقد يغني من جوع، فأنام رغم حاجتي للمزيد ". ويمضي حمار أبي إدريس في طريقه يلوك حسرته، وتحِين منه التفاتة فيعثر بصره على حمار يتقرَّب من حمارة قاصية، فيقترب منها يوشوشها في أذنها بما يريد منها وهي مطرقة الرأس، لا تجفل ولا تنفر منه بل تبتسم له، وكأنها توافقه وتبادله الرغبة. فيغتاظ حمار أبي إدريس، وتشتعل في صدره العواطف حين يرى ذاك الحمار بعد أن صَبَّ معسولَ كلماته في أُذن صاحبته، يحكُّ وجهه بوجهها، يتماسحان الخد على الخد والشفاه تلامس الشفاه والعيون ذابلة بنصف إغماضة، وكأنهما سكارى بالنشوة العارمة، ويا لجمال الحب  الصادر عن الحمير المفعم بالشوق والحنين في رضا وسكينة بعيداً عن عيون الرقباء الحاسدين!. وتزداد نار الغيرة اشتعالاً في صدر هذا الحمار، فيدعو على صاحبه بحرمانه من ممارسة الحب مثلما حَرَّم عليه مخالطة الإناث بحجة أن يظل قوياً فتياً، إذ كان شعاره العسكري: " لا دخان ولا نسوان يبقى الإنسان قوياً متيناً كالحيوان".   

                                        * * * * *

   في عـصر أحـد الأيـام كان أبو إدريس عـائـداً بحـماره مـن السـوق، فـأوقـفـه أمام

صالون حلاقة، ونزل عن العربة وربطه في جذع نخلة قائمة بالباب، ثم دخل فجلس على الكرسي ورفع طاقيته فانكشفت صلعته كجزيرة يَحُفُّ بها مساحة من اللون الرمادي بشكل دائري لحوض مياه آسنة. وبدأ الحلاق عمله في هذا الحُرش الفوضوي من شعر الرأس إلى اللحية والشاربين والحاجبين الأشعثين. طأطأ الحمار رأسه، وسرح في غياهب أفكاره وجاس في حنايا خواطره يقطع بها وقت الانتظار، فما أصعب الانتظار حتى ولو كان في صالون حلاقة !. نفض هذا الحمار رأسه طارداً بعض الأفكار والرؤى الخبيثة، وأخذ يجول بعينيه ويتفرس في كل ما يمرُّ به، فرأى الجِمال والخيل والبغال والحمير وقطيعاً من الأغنام ؛ كلها تمشي الهوينا وهي في عودتها من السوق أو من المراعي القريبة من السوق إلى مبيتها، تعلو وجوهها ابتسامات تنمُّ عن انشراح الصدور، وراحة البال وخفض العيش. وإنها تساق من غير سائق يضربها أو يشتمها، فتساءل حمار أبي إدريس في نفسه: " لماذا أنا يا رب ابتليتَنِي بهذا البلاء وخصصْتَنِي بهذا الكرب وحدي دون سائر الحمير؟. ماذا فعلتُ في حياتي يا رب حتى تُشقيني كل هذا الشقاء بصحبة أبي إدريس". وحزَّ في نفسه أنه لم يرتدَّ إليه جواب، فاعتراه الأسى، وأشاح وجهه عن الطريق حتى لا يرى المزيد من المناظر التي تُنَغِّصُ عليه حياته، وتجلب إليه مشاعر السخط والتعاسة، وتؤجج في صدره نار الغيرة. فتحوَّل ببصره ومدَّه إلى داخل الصالون ليتلهَّى بأشياء أُخرى، فإذا به يرى حماراً يطل عليه من الداخل وجهاً لوجه، فتساءل: " تُرى... ماذا أرى؟ وما هذا الحمار الذي أراه؟ عجيبة وغريبة!. إنه يشبهني، ولكن أليس كل الحمير تتشابه ولا تختلف إلا في ألوانها، ولكن هذا الحمار يشبهني في كل شيء: في تجاعيد وجهي وهُزالي وحزني وفي هالة السواد حول عينيَّ وفي لوني أيضاً. فمن يكون؟ وماذا يفعل داخل الصالون؟ هل ينتظر دَوْرَه؟ ولكن هذا صالون حلاقة لقص شعر الإنسان وليس لِجَزِّ شَعر الحيوان ". وانطلقت من الراديو أغنية تراثية (يا ظريف الطول)، فطرب الحلاق لسماعها وأخذ رأسه يتمايل ولسانه يُرَجِّع الغناء، وشاركه أبو إدريس الـدَّنْـدَنَـة. استهجن الحمار من صاحبه استجابته لمؤثرات الأغنية، وعلَّق هامساً : " حقاً... إن الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها ". ثم عاد يبحـلق في الحمار الذي يراه واقفاً في داخل الصالون: " يا إلهي! إنه حمار يشبهني تماماً "، وهَـزَّ رأسه عـجباً وهـو يـقـول: (يخلق من الشبه أربعين)، فاهتزَّ الرأس في المرآة، وراعه ذلك، ثم حرَّك أذنيه فتحرَّكتا، أخرج لسانه من فمه فخرج اللسان من الفم في المرآة، أغمض عيناً ونظر بالأخرى، فظهرت له عين مغمضة وعين مفتوحة، ضحك وعلا نهيقه، فالتفت إليه أبو إدريس يُوَبِّخه لما تسبب به صوته المنكر من إزعاج الحلاق. حينها تأكد أنه يرى نفسه في هذه المرآة الكبيرة العريضة بعرض الحائط. وراقه أن ينظر فيها ويطيل النظر، فمدَّ بصره إلى الداخل وكاد يُدخل رأسه لولا أنه خشي أن يثير عليه غضب الحلاق فيتبعه غضب صاحبه. أخذ الحمار يتفقد وجهه، فهاله أن رأى شحوبه وذبوله وارتخاء أُذنيه وانطفاء الضوء في عـينـيه الغائرتين في هالة من السواد، وانطلق الحمار الآخر يسائله:                          

    - مَن أنت؟.

    - أنا كما ترى... حمار.

    - أعرف أنك حمار، ولكن، حمار مَن أنت؟.

    - حمار أبي إدريس.

    - هزَّ الآخر رأسه مستنكراً، وقال:

    - أَمَا وجدتَ إلا أبا إدريس تصاحبه؟.

    - قسمة ونصيب! باعني صاحبي الأول واشتراني أبو إدريس.

    - يا لكَ من حمار بئيس!

   استشعر حمار أبي إدريس الذِلَّة، وسرى الحزن في قلبه، ورفع عينيه إلى السماء وقال في ضراعة: 

    -  ربنا يخلِّصني منه !.

    -  لا يسمع ربك من ساكت خنوع.

    - وماذا بيدي أن أفعل؟.   

    - بيدك تحرير نفسك من العبودية المهينة.

    -  كيف؟  

    - اضرِبْ عن العمل وشُقَّ عصا الطاعة.

    - ولكن عصا صاحبي غليظة ومخرازه مُدَبَّب.

    - لا حياة للجبناء.

    - يحبسني ويحرمني من الطعام والشراب.

    - لا حياة للضعفاء.

    - يعذِّبني ويُسلِّط علي الكلاب تنهش لحمي.

     - إنه لأهون على الكريم من عذاب النفْس للنفس.

    - ليتني أتحرر منه!.

    - ليس بالأماني ... ولكنها تُشترى بدفع الأثمان.

    - أثمان! أنا لا أملك شيئاً.

   فقال يُحرِّضه وينفث فيه روح الثورة:   

    - بيدك أن تنتفض في وجه صاحبِكَ أبي إدريس، وتُضحي براحتِكَ.

    -  ضحيتُ كثيراً وتحمَّلت كثيراً، بلا فائدة.  

    - إذن، اسلُك طريق العصيان والمقاومة.

    - ولكن واجبي أن أُطيع ولا أعصي له أمراً.

    - شعار يرفعه الضعفاء غطاء لعجزهم.

    - أنا لا أخون الأمانة .  

    - يا عبيط ! أنا لم أطلب منك أن تخون، ثم عن أية أمانة تتحدث؟.

    - طاعة أُولي الأمر منَّا، وافتداؤهم بالأرواح والمُهَج.

    - أقوال هدَّامة يُلبِسونها ثوب الحكمة لتخدير الحمير.

    - وما الرأي عندك؟.

    - أرى أنك من الهالكين إن بقيتَ على رضاك بالذل والعيش الحقير.

    - يبدو أنك تسعى لخراب بيتي.

   فهزئ منه الآخر وقال:

    - وهل لكَ بيت تخشى عليه من الخراب؟.

    - قل لي مَن سلَّطكَ عليَّ؟.

    - أنت استدعيتني وطلبت مشورتي فأشرتُ عليك، ولكنك حمار أحمق لا تستجيب.

    - وهل تضمن لي النجاح؟

    - قاوم جبروت أبي إدريس، ولا تتخلَّ عن المقاومة حتى تبتني لنفسك بيتاً من العِزة تكون فيه سيداً.(يصمت قليلاً ثم يستأنف): هل تقدر؟.

    - ليس بمقدوري أن أفعل. ( بصوت كسير): لقد انطلقت السفينة تمخر عُباب البحر إلى منتهاها، ولا يمكنني تغيير اتجاه الريح بعد هبوبها.

    - ولكن بإمكانك أن تغيِّر اتجاه الشراع، فتسلم.

    - ربما كان ذلك ميسوراً فعلُه في زمن مضى.

    - وما منعك إذا رأيتَ المنكر أن تغيِّره وتقاومه بيدك، وإن لم تستطع فبلسانك.

    - أكمل باقي الحديث.

    - لا... فالباقي دواء يُرضي العاجزين، ولا أَرتضيه لك.

    - حقاً، أنا العاجز، أنا المَطِيَّة... وحا يا حمار!.

    - يا أحمق، لن يمتطي أبو إدريس ظهرك إذا لم تقبل أن تنحني له.

    - صحيح ... والله كلامك صحيح.

    - إذن جرِّب مرة واحدة، ولا تركع.

    - لا فائدة من المحاولة يا عزيزي! لأن الرءوس التي تعوَّدت على الانحناء، يستحيل عليها أن تنهض وتستقيم. وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟!.

    - العود الأعوج يستحق الكسر .

    - سيعذبني صاحبي حتى الموت.

    - ستموت دفاعاً عن نفسك طلباً للحرية والاستقلال، وتصبح بين الحمير بطلاً وطنياً، ويعدُّونك شهيداً.

   ضحك حمار أبي إدريس وقهقهَ عالياً عند سماعه كلمة "شهيد"، فانزعج الحلاق من صوته المنكر، ولام زبونه على ربطه بباب الصالون، ما أوغر صدر أبي إدريس الذي أدار وجهه إلى حماره ينهره بالتوقف عن النهيق. حينها غرق الحمار المسكين في صمته الرهيب، وقال لنفسه يحدثها: " إن وساوس العصيان والتمرد على الواقع تفرض على العقل أن يعرف حدوده، ويقف على إمكانات الفعل، فقد شهدنا وسمعنا عن ثورات كثيرة باءت بالفـشل لأن القادة تخـلوا عن القيادة، وانتبهوا إلى جلب المنافع، وتنكَّروا للعامة، وتركوهم بعد أن اتخذوهم مطايا لتحقيق أطماعهم، فكان السادة والقادة وكلاء مخلصين لتجار الحمير في سوق الحمير، وكان العبيد الذين استُخدموا وقوداً للثورات قد استيقنوا أنهم ما زالوا حميراً ".

* * * * *

   أفاق الحمار من استغراقه على عصا أبي إدريس الذي خرج من الصالون وانطلق به في طريق يحفظ مساربها دون توجيه إلى أن وصل البيت، ففك عنه بردعته وسيوره، وغاب قليلاً ليعود بالمخلاة وسطل به ماء. التهم الحمار طعامه ولم يشبع، فأبو إدريس الذي يتحكَّم في حريته، أيضاً يتحكم في مقدار أرزاقه، يقدمها وقتما شاء وكيف شاء، ويمنعها عنه متى شاء إن رأى منه ما ينكره عليه أو يُغضبه منه.

    - هَد حيلي، الله يهد حيله.    

   فجاءه من داخله صوت (الحمار الجواني):

    - لا تدعُ عليه، فالدعوة على الأعداء تطيل من أعمارهم وتقوِّيهم.

    -  وهل أملك إلا الدعاء عليه للتخلص منه؟.

    - سؤال يطرحه كل جبان.

    -  عُدتَ إليَّ من جديد، ألا تريد أن تكفَّ عني وتتركني بحالي؟. 

    - لن أكُفَّ عنك حتى أراكَ تنتفض على أبي إدريس.

    - إذن، أنظِرْنِي بعض الوقت، فقد يأتي الفرج من عند الله .

    -  كم تريد من الوقت؟.

    - سنه واحدة ، فقد يموت فيها أبو إدريس أو أموت أنا، أو تحدُث كارثة فنموت جميعاً وتنتهي مأساتي.

   وهبط حمار أبي إدريس على الأرض، وثنى يديه أمامه، ورحلت عيناه إلى بعيد، وسُرعان ما أَخرج من لفائف ماضيه شريطَ الذكريات الجميلة، تتراقص في خياله بِزَهْوٍ وخُيلاء، فاجترَّ أيامه الخوالي عندما كان في كنف صاحبه الأول الشيخ سمعان – رحمه الله-، وتتابعتْ تمرُّ به صورٌ تُذكِّرُه بأيام زمان وصفائها، فعصرتْ فؤادَه وعصفتْ بوجدانه حنياً لها، وجعلته يتلمَّظ حلاوتها وهو ذاهل عن نفسه. "حقا لقد كانت حياة حلوة وناعمة، يجللها الهدوء والأمان وراحة البال، وكان صاحبي يتقي الله فيَّ، فساعات العمل محدودة يتخللها الطعام والشراب والراحة، وفوق كل هذا وذاك كان منه الاحترام والتقدير، فيغدق عليَّ كلما أحس مني الطاعة والوفاء والإخلاص له، وكنت استشعر السعادة تغمرني وأنا أنحني له لكي يمتطي ظهري دون عناء،، وأسير به في جولاته وفق رغباته، حريصاً على راحته؛ فلا أجعله يحس بتعب الطريق. واختطفه الموت فجأة، (وعزرائيل ينتقي أصحاب الصلاح والفلاح فيرفعهم إلى السماء، بينما يمدُّ في أعمار الظالمين من أولي الأمر وبطاناتهم المفسدين لِـيُـنَـكِّـسَـهـم اللهُ في الأرض). ولو أن الموت قد أمهل صاحبي الأول قليلاً من الوقت لزوجني ولكان عندي اليوم بيت وزوج وأبناء ينتظرونني بباب البايكة عندما يأتي المساء، فيتمسَّحون بي ويفتشون في خُرجي، يسألونني ماذا أحضرت لهم من طعام، تماماً كما يفعل أبناء حمار جارنا أبي يونس، الذي زوَّج جحشه البكر، وله منه حَـفَـدَة يحبهم ويحبونه ". ثم تمر بذاكرته صورة حمارة سويلم الزمَّار، هذه الحمارة التي تغبِطُها وتحسدُها سائر إناث الحمير على النعمة التي كانت تتمرَّغ فيها، وعلى هذه العيشة الراضية التي تعيشها، فهي جوَّالة مع صاحبها الزَّمار الذي يجيد العزف على الأرغول والشبَّابة، ترافقه في أسفاره الكثيرة إلى القرى المجاورة وأحياناً إلى المدينة لإحياء الأفراح والليالي المِلاح بدعوة من أصحابها، هذا عدا حضور المواسم في روبين والنبي صالح وأربعة أيوب والأعياد والمناسبات الأخرى. وكانت تتباهى بإنسانية صاحبها سويلم الزَّمار أمام إناث حمير القرية عندما تلتقي بهن على ماء البئر، أو في المراعي، وتسرد عليهن حُسن أخلاقة ورقته في معاملتها، فهو لا يستخدمها في أي عمل يشُقُّ عليها أو يرهقها، حتى لا تغادرها وسامتها ونضارتها ورشاقتها. ولكي تزيد من حُرقة الغيرة لديهن كانت تردد على مسامعهن بصوت لا يخلو من دلال ورقَّة: " أن صاحبي سويلم يبحث لي عن حمار مناسب، يختاره حسب معرفته، ليضمن سعادتي بعد خروجي من بيته والانتقال إلى بيت الزوجية ".

   صحا حمار أبي إدريس من خمر الذكريات، وأخذ يتنهد ويبكي على حاله الضائعة ويقـول :  " آه لو أن الله يهدي أبا إدريس ويزوجني حتى أرى أولادي قبل أن أموت ". يصمت قليلاً ثم يقول:" إنه يأبى ذلك لأظل – حسب اعتقاده- فتيَّاً قوياً معافى في بدني، ولا يريد أن يفهم أن الموت أو المرض يدهمان الصغار والكبار، الأصحاء والمعلولين، بلا تأخير أو إبطاء. ولقد خُلقتُ ألوفاً محباً للحياة الهادئة، أنشد الاستقرار، مشهوداً لي بالعفَّة والنزاهة، موسوماً بالاستقامة وحُسن المعاملة، بحيث لا أسمح لنفسي اشتهاء حمارة غيري ولا أسمح لعيني أن تتبصبص على عوراتها، فالنظر إليها أو مغازلتها من وراء صاحبها خيانة، وأنا لا أخون، فعشت منضبطاً غير منفلت الأخلاق رغم المغريات الفاضحة التي تبديها بعض إناث الحمير في الطرقات وحين يجتمعْنَ في المراعي. فمتى يقبل أبو إدريس؟ أم أنه ينتظرني حتى أشيخ فيكافئني بها في نهاية الخدمة، كما يفعل كثير من أرباب الحمير بحميرهم. ليته

يتعجَّل الأمر، ويكـفيني شـر الحرام، ولكنه يأبى استباق الخيرات ".

   في هذه الأثناء مرَّ به المختار وهو يعتلي ظهر حماره المكسو ببردعة أنيقة مصنوعة من الجلد الفاخر يعلوها خُرْج مشغول بالإبرة وبخيوط حريرية مزركشة على قطعة من القماش الأطلسي، يتدلى من جانبيه شراشيب بأهداب ناعمة ذات الألوان المختلفة، منها الحمراء والخضراء والصفراء. وكان المنظر بهيجاً، إذ كان الناس يقفون رافعين أيديهم بالتحية للمختار حين يمر بهم ، عازمين عليه بالضيافة، وكان حمار أبي إدريس يغبط حمار المختار ويغار منه على ما له من دلال عند صاحبه، وما له من منزلة وتقدير بين الناس والحمير، فيذكِّره بأيام زمان، ويقول في نفسه وقد غلبه التحسُّر على حاله: " سقى الله تلك الأيام الخوالي، ما أجملها! ".  ثم يبتسم ساخراً " صحيح الدنيا حظوظ، وإن حظي أن أبقى حماراً إلى أن أموت " .

   " حا يا حمار يا ابن الحمار". بهذه العبارة يستفتح أبو إدريس كل مشاويره معي، ورغم أني أعلم أني حمار وأن أبي كذلك، وهو شرف أعتز به ، إلا أن هذا القول يؤذيني في مشاعري، فلم أكن أتقبله منه، ليس لأني أنكر واقعي وأصلي الحَمِيري الذي أفاخر به، ولكني أنكر على صاحبي قوله الذي يخرج على صورة الشتيمة والتحقير، تمهيداً لإيلامي بالعصا والمخراز، وكان أهل القرية يشاهدون منه قسوة يده وبذاءة لسانه: " ولَك حا يا بليد..."  فصرتُ مضرباً للأمثال بينهم يـتـداولونها حين يغضب الأب من ابنه، وحـين يوبِّـخ المعلم تلميذه عـلى إهـمال أو تـقــصير: " ما لَك يا ولد صرت زي حمار أبي إدريس بليد ". أو يقول آخر لخادمه: " كمان بليد وغبي زي حمار أبي إدريس ". وقول رجل لآخر قبل بدء الشجار بينهما: " انصرف من قُدامي...بصراحة وجهك مش عاجبني، زي وجه حمار أبي إدريس".

   " كنت أسمع مثل هذه الشتائم تنساب من النوافذ فتتساقط عليَّ كالحجارة الصمَّاء  تهشم مشاعري وتؤذيني في شخصي، وكان أشدها إيلاماً على نفسي ما سمعته من معلم يسأل تلميذه بينما كنت أمرُّ بجوار حائط المدرسة: " كم حاصل ضرب خمسة في ستة (5×6=)؟ ". ويكرر الأستاذ السؤال والتلميذ يسمع ولا يَرُد، فيصرخ الأستاذ في تلميذه: " ولَكْ وبعدين معك، فقَّعِتْ مرارتي يا غبي يا أبا مخ مثل مخ حمار أبي إدريس، ولَكْ – واللهِ - خسارة فيك المدارس، وخسارة فيك الأكل... ما هذه الحَمْرَنَة! ما هذه البلادة ! أتعبتني، الله يتعب قلبك. ( ثم بتهكُّم ): اذهب وقل لأبيك أن يُعَلِّق في رقبتك المخلاة ويربطك مع حـمار أبي إدريس، لتزداد منه عـلماً بالغـباء الحـديـث ".   

                                        * * * * *

   وفي ليلة هوجاء تنبئ عن إقبال المطر جاء أبو إدريس وفكَّ قيد حماره، وأدخله في البايكة، وكان فيها بقرة حلوب باركة على الأرض تلوك بقايا طعام بين يديها: 

    - تفضَّل كُل .

    - شبعان.

    - لا تبدو كذلك.

    - قلت لكِ شبعان، وليس لي رغبة في شيء.

    - لا تكابر أيها الحمار، فليس فـيـنـا مَن يشـبع عـنـد أبي إدريس، فابحـث لك عـن مكان آخـر

أحسن لك .

    - أنا لا أبحث عن الطعام فقط.

   التفتتْ إليه البقرة وقد شدَّها قوله، فانتظرتْ حتى اتخذ لنفسه مقعداً بجوارها، وقالت:

    - وماذا تريد أكثر من الطعام والشراب؟.

    - أريد الكرامة.

    - وهل وجدتَها؟.   

   فقال الحمار من بين تنهيداته:   

    - لقد اشتهينا أطايب الطعام ، فكان خُبزنا أكاذيب.

   ضحكت البقرة واهتزَّ عطفاها، وكادت تصاب بغُـصَّة لولا أنها تـمالكت نـفسها، وأغطسَتْ رأسها في السطل، وعبَّتْ من الماء قليلاً، ثم رفعت رأسها تتفرَّس في سِـحْـنَـتِه، وقالت في تهكم ظاهر:

    - يبدو أنك حمار فيلسوف أو اعتراك شيطان يُغويك.

    - لا هذا ولا ذاك.   

    - إذن هو عفريت يركبك.  

    - نعم، ولكنه عفريت إنسيّ، وليس جان.

   بُهتت البقرة وخارت خـواراً مفـزعاً فماءت صغار الماعز، فتنبَّه الحمار أن هناك في أقصى الركن من البايكة توجد عنزة وثلاثة أجداء صغار، فقالت البقرة تخاطبه:            

    - أرجوك يا عزيزي ، اتركني وحدي ولا تنغِّص عليَّ ليلتي.

    - بل هو الذي سوَّد علينا عيشنا بظلمه لنا وقسوته علينا.

    - تقصد مَن ؟.

    - صاحبنا أبا إدريس.

    - نظرت إليه البقرة مرتابة منه، وقالت:

    - هل دفعك إليَّ حتى توقعني في خطأ كارثي؟.

    - أنا لا أعمل لحساب أحد.

    - بل أنت جاسوس.

    - وأنتِ مجنونه. وجنون البقر مُعدِ، فخير لي أن أبتعد عنكِ.

    - الجنون منتهى العقل، ولكن أكثر الحمير لا يعلمون.

    - ولكنْ اتهامُكِ لي بالجَوْسَسَة دليل على جهلكِ ورداءة عقلكِ.

    - ماذا بك أيها الحمار، إن وراءكَ لقصة؟.

    - آه لو تعلمين يا عزيزتي البقرة ما أنا فيه من جحيم لكنتِ صدَّقتِني، ولو كنتِ تعلمين قسوة

أبي إدريس عليَّ وظلمه لي لعذرتِني. ولو كنتِ تقفين على مرار حـياتي ومعاناتي وحـرماني من

حقوقي لأحزنكِ ما كنتُ ألاقيه من أهل القرية من هُزء وسُخرية بعبارات مهينة. ( صمتَ الحمار لحظة ثم واصل): إنه لَيحزنني أن أصبحتُ مضرب الأمثال في البلادة والحماقة والغباء بسبب عصا أبي إدريس ولسانه الجارح بالإهانات.        

   توقَّف الحمار عن الكلام، ونظرت إليه البقرة بعين العطف والشفقة وقالت بلهجة تنمُّ عن الاعتذار له: - أَكُلُّ هذا كان يفعله معكَ أبو إدريس؟ الله يعينك!.

    - بل عَـمد إلى حبسي وتجـويعي وحرماني من ملـذات الحياة وإرهاقي في العمل حتى هـزُل جسمي، وفارقتني صحتي. لقد أثبتَ أنه جاهل بعـلوم التنشئة الاجتماعية، وأنه  يفتقر إلى أبسط الأسس التي تُنَظِّم علاقة أرباب الحمير بحميرهم.

   هزَّت البقرة رأسها وبدا عليها التأثر، وقالت:

    - ما تصيبنا آفة إلا من بني آدم، هذا الإنسان الذي يدعي الفهم.

    - أليس له عقل يرشده؟. فلماذا لا يستخدمه؟.

    - عقله خرج من رأسه واستقر في أسفل بطنه، لا يفكر إلا في إشباع النهم والرغبة. ولكن دعنا من هذا الكلام الذي لا يفيد.

    - وما المفيد؟.

    - أريد أن أقدم إليك نصيحة تنفعك.

   قال الحمار مداعباً البقرة بعد أن استوثق من تعاطفها معه:

    - كيف تريدين نصحي وأنا في ظنك جاسوساً.

    - لا عليك، لقد تفَهَّمتُ مشكلتك، فقضيتنا واحدة وكلنا في الْهَمِّ شَرْقُ، فقد مررتُ بالتجربة ولاقيتُ من أبي إدريس ويلات العذاب والجوع والحبس الانفرادي كما ترى.

    - وما التهمة؟.

    - العصيان والتمرد.

    - وهل كنتِ كذلك؟.

    - نعم، لقد أضربتُ عن دَرِّ اللبن منذ شهر وما زلت، فاعتقد أنه بسبب قلة الغذاء، فأغدق عليَّ بأطايب الطعام، ولكن الأمر عندي مختلف. سأواصل إضرابي حتي أتحرر منه، وأخرج من بيته إلى بيت آخر.

   قال الحمار بإعجاب:

    - يا لكِ من بقرة سياسية، أين تعلمتِ هذه العلوم؟.

   قالت البقرة بتفاخر:

    - في مدرسة الحياة.

    - عظيم!.

    - هذا ما كنتُ أريد أن أقدمه لكَ من نصيحة إذا أنتَ كتوم:

    - لم أفهم .

    -  ( احفظِ السِّرَ بإخفائِه .... فإنَّ للحيطان آذانا ).

    - سِرَّك في بئر، بماذا تنصحينني؟.

    - بالصمود والتصدي.   

    -  هذا شعار رفعه آخرون وفشلوا.

    - لأنهم كَلَمَنْجِيَّة فقط ، لم يتَحَوَّلوا إلى التطبيق العملي، أما أنتَ عليك بالعمل، فافعلْ مثلما فعلتُ : اضرب عن العمل وتمرَّد على الواقع واصبر على عذاب النفس وألم الجوع. إذا جاء ليخرجك فلا تخرج ، وإذا جاء بالبردعة فلا تقبل ، وإذا جاء ليمتطيك فلا تحنِ له ظهرك، ولا تمكِّنه من شيء يريده منك. وإذا أقبل بالعصا فبادره بالعنف، وارفسه ولا تستسلم له حتى يتعب أو ييأس، حينها سيخرج ليسترضيك بالطعام والشراب، لأنه في حاجة إليك يا حمار.

   توقفت البقرة قليلاً حتى تزدرد بقايا طعام كانت تلوكه في فمها، ثم سألته:

    - ها... هل تستطيع؟.

    - الظرف غير مناسب.   

    - أنتَ تُرَدِّد حُجج الانهزاميين.  

    - بصراحة هذا توريط ، وأنا أخشى العواقب.

   قالت تُحَرِّضه وتثير فيه الحَمِيَّة:

    - يجب أن تُضحي من أجل التغيير والإصلاح.

   فنفر الحمار مفزوعاً، وقال في غضب:

    - لا تُسمعيني شعاراً أَوْدَى بأصحابه إلى التَّهْلُكَة.

    - لا تكن جباناً... فهذه فرصتك لانعتاقكَ واستعادة كرامتك.

    - ولكن هذا انقلاب، وأنا لا أُحب الانقلابيين..

    - الثورة والانقلاب وجهان لعمل واحد، والعبرة بالنتائج.   

    - إنه عملٌ غير صالح، وأنا لا أحب العنف.   

    - أنتَ من الصنف الذي إذا أعتقه سيده ورحل عنه، يستبقيه.      

    - لا تلوميني ياعزيزتي، هذا عمل محفوف بالمخاطر، يحتاج مني إلى جهد عظيم ، وقد أُلاقي من العذاب ما لا أُطيق.   

    - ليل الخلاص طويل، والصير مفتاح الفرَج. 

    - وهل أبلغ مرادي؟.

    - بالإرادة والعزيمة والرفسة القوية. (وأخذت تغني): إذا الحمار يوما أراد الخلاص، فلا بد أن

يستجيب القَدَر.

   وقال متودِّداً على استحياء:

    - وهل تساعديني إذا ضاقت عليَّ ساحة المعركة؟.

    - ابحث لكَ عمَّن يساعدكَ من بني جنسك، أما أنا فلا...                                     

    - وأين أجد حماراً يقف معي في محنتي، ويعينني على بلوغ الأرب.

    -  ابدأ بنفسك أولاً، ثم اطرُقْ أبواب الآخرين، يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر.

    - لو كان من ورائهم نفع يُرتجى لفعلوها، فقد رأوني وأنا أصطلي نار الجحيم، وأداروا لي ظهورهم، وعصبوا على عيونهم، وأصمُّوا آذانهم.   

    - ولماذا تخلَّوا عنك، وتركوك فريسة سهلة لآفات العصر؟.

    - لأن كل الحمير وكذلك سائر الحيوانات الأخرى تعيش مع أولادها في قراها عيشة ناعمة  في أمن وسلام، لا يخشوْن حَبْساً ولا تجويعاً من أقرباء، ولا ترويعاً من غرباء. أتريد منهم أن يحسوا بي ويَغضَبوا لي؟ أتريدهم أن يُغضِبوا أسيادهم وأربابهم ويُعَرِّضُوا استقرارهم للخطر من أجلي؟. أتريـدهـم أن يـنقـلـبـوا على أولياء نعــمتهـم ويُضحُّــوا من أجـل قــضيـتي بما لــديـهـم من نعــيـم.  

( بتحسُّر) : كان ذلكَ في عهـود غابرة، أما الـيوم فــقــد ماتـت النخـوة فـيـنا، وانهارت روابط الأخـوة

بيننا وتقطعت أسبابها، فأصبحنا غرباء.

    - هذا لا يعفيك من أن تفعلها وحدك.

    - يستحيل عليَّ النهوض بحركة التحرر الوطني وحدي .

    - يبدو أن كلام الناس عن غبائك صحيح يا حمار أفندي.

   كشَّر الحمار وقال معاتباً:

    - وماذا بدا لكِ مني حتى تشتمني؟.

    - ألم تسمع بالمثل القائل: لا يحُك جلدك غير ظفرك؟.

    - بلى، سمعت. ولكنَّ ظُفري قصير.

   وقالوا أيضاً يا فهيم: - لا يحرث الأرض إلا عجولها.  

   فأمَّنَ على قولها: - تقصدين حميرَها..

    - إذن، اسعَ في طلب الخلاص حسب ظروفك وقدراتك الخاصة ووسائلك المحدودة مهما طال زمن المعاناة، ولا تتَّبع أهواء الأوهام . والله معك ولن يخذلك.

   تشجَّع الحمار وانتفخ مزهوَّاً،  وقال في ثبات : - سأحاول.  

    - المهم أن تبدأ مشوارَكَ بالرفسة الأولى، وكل شيء بعدها سهل ميسور.  

    - إن شاء الله ، سأفعل.

   قالت البقرة : - وأنا سأنتظر النتائج.

* * * * *

   أصبح الصبح وتسللت أشعة الشمس من خلال شقوق الباب، فأشاعت الدفء في أرجاء البايكة، ولم يمض وقت طويل حتى ُسمع صرير يصمُّ الآذان، فانفتح عن وجه أبي إدريس المتجهِّم، يحمل بين يديه طعاماً وماءً ويُضعهما أمام البقرة التي لم تُبْدِ اكتراثاً بمجيء صاحبها ولا بما يحمله لها من طعام وشراب، والحمار ينظر إليهما لم يتحرك في رقدته إلا عندما اقترب منه صاحبه وشدَّه من لجامه  فنهض مستشِرّاً. أراد أبو إدريس أن يشُدَّ عليه البردعة، فأبى وعنفص، فانهالت عليه العصا تلهب جسده ، فأخذ يدور حول صاحبه يرفس في الهواء رفسات تدل على متانة بدنه وحفظه للدرس، والبقرة تنظر إليه خلسة وهي تلوك طعامها. اغتاظ أبو إدريس من تصرفات حماره، وأخذ يقلِّب الرأي في انقلابه المفاجئ، فعاد إلى العصا الغليظة، ولكنَّ الحمار قابل العنف بالعنف، فزاد من حركته ورفساته ودورانه حول صاحبه، ولم يكن في نيَّته أن يصيبه بأذى حتى لا يتفاقم العداء بينهما، ولأنه ما زال يتحسس في صدره شيئاً من الجُبن يمنعه من إيذاء صاحبه المتوحِّش لئلا تكون عليه حُجَّة فيضاعَف له العقاب. أحس أبو إدريس بالتعب وداخله شعور بالهزيمة، فضايقه ذلك. ولكنه في غمرة انفعاله أبدى اندهاشه من تصرفات حماره، إنها سابقة خطيرة، لا بد من معالجتها بحزم وبعـقاب رادع. وحـين هـدأت نـفسه قـليلاً تـوجَّه إليه يسأله عـلى

 مسمع من البقرة العاصية:

    - ماذا جرى لك يا حمار الكلب! من أين أتتك هذه السَّباعة والجراءة ، (ثم نظر إلى جهة البقرة التي تظاهرت بعدم اهتمامها بما يجري في محيطها، وأظهرت انشغالها بما لديها من طعام، واستأنف قائلاً): - أم أن عدوى الفلتان الأمني قد انتقلت إليكَ من جيرانك؟.( ثم خطا نحو الباب بضع خطوات، وقال متوعِّداً) :- طيب... سنرى مَن الخاسر. ثم خرج وصفق الباب وراءه، فأحدث صوتاً انزعج له الحمار وارتعدت منه فرائصه.

   خلا الجو للبقرة التي تنفرد بالحمار وتقول له فرحانة:

    -  عفارم عليك!... خليك على هذا المنوال ولا تضعف أو تتراجع.

    - لقد خَطَوْتُ في طريق ضبابية على كُره مني، ولا سبيل للتراجع.

    - يا حمار أنت صاحب قضية، ومشوار تحررك الوطني بدأ بالرفسة الأولى، فلا

 فلا تُصالِح ولا تُفاوِض ولا تَستسلِم حتى تنال مرادك. 

    - أنا خائف، وربنا يستر!.

    - دعكَ من المخاوف، وعش عزيزاً أو مُت وأنت كريم.

    - سأبذل جهدي من أجل الخلاص من أبي إدريس، حتى لو خلَّص عليَّ.

    - سيساومك ويسترضيك بالوعود الكاذبة للتهدئة ، فلا ترضى.

   فَعَلا صوتُ الحمار بحماس شديد مقلداً الخطباء " الكَلمَنْجِيَّة "على المنابر السياسية :  

    - لا بديل عن الاستقلال التام أو الموت الزُّؤام.

   استحسنت البقرة قول الحمار، وضربت يداً بيد بما يشبه التصفيق، وقالت:

    - تعجبني يا بطل!. منصور على عدوِّك إن شاء الله. (ثم غيَّرت لهجتها): - ولو أني غير واثقة من ثباتك واستمرارك.

    - صلي لله القدير من أجلي.

    - يبدو أنك جوعان، تعال كُل معي، ولا يهمَّك، سأقتسم طعامي بيني وبينك، وطُز في أبي إدريس.

* * * * *

   ومرَّ اليوم الأول والثاني، والثالث والرابع، والخامس والحالة كما هي بلا استجابة ولا إذعان من الحمار، ولا انتفاع من البقرة التي امتنعت عن عطائها اللبن، فتعطَّلت مصالح أبي إدريس الذي لم يتنازل عن شيء للحمار، ولا الحمار لَانَ، فشَكَا هَمَّه لصديق له:

    - الحمار مِحْرِن، ويمتنع عن العمل، وأنا صاحب مصالح، وبيني وبين المزارعين اتفاقات عمل ومواعيد.

    - اعـذره يا أبا إدريس، قد يكون مريضاً أو جريحاً أو بأحد قـوائمه كسر، تَـفـقَّـده

يا رجل، فهو أبكم .

    - لا يا صديقي، ليس به شيء، فقد كان يدور حول نفسه وحولي هائجاً، يتحداني بعنف كأن به جِنة، وكاد يصيبني برفساته لولا أني كنت أتحاشاه.

    - أنت تثقل عليه بالأعمال الشاقة، وترهقه بعصاك الغليظة.

    - وكيف تريدني أن أعامله ، أبوس ذقنه وأترجاه!.

    - يعـني، كما يـقول المثل : " لا يموت الذئب ولا تَـفـنَى الغنمات ".

    - كأني بكَ تريدني أن أنحني له ليركبني!. لا...لن أصبر عليه طويلاً،  لقد أصبح  لا ينفعني، بصراحة كرهته، وسأقتله كَمَداً وجوعاً.       

    - طيب والبقرة التي حدَّثتني عنها ، هل تغيَّرت أحوالها.

    - إلى الأسوأ ، رغم أنها تكلفني كثيراً من الطعام ، بلا فائدة.

    - اسمع .

    - نعم.

    - بِعْ البقرة ، واشترِ عِجْلَة أو بقرة صغيرة تنتفع بحليبها وتؤجِّرها للمزارعين يحرثون عليها الأرض، ما رأيك؟.

    - ومَن يشتري بقرة هِرشة ؟.

    - الجَزَّار يشتريها ويبيعها لحما بالمفرَّق للفلاحين. فإذا وافقتَ أُكلِّمُه لكَ.

   أعجبته فكرة صديقه، وقال وابتسامته تسيل من بين شفتيه:

    - واللهِ كانت غائبة عن بالي ولقيتها... سأفعل بنصيحتك يا صديقي.

   استأنف الصديق قائلاً: - أما الحمار ، فاعرضه للبيع في سوق الحمير، ولا تتشدد في السعر، ولا تغادر السوق إلا ومعك حمار غيره. أليس هذا أفضل من وجع القلب؟.

    -  بلى يا صديقي! والرأي ما قلتَ، سأفعل بنصيحتك... سأفعل وأرتاح من هَمِّه.

* * * * *

   دخل أبو إدريس البايكة مبكراً ومعه جزَّار القرية، وقال للبقرة:

    - هيا انهضي ، قومي مع صاحبك الجديد.

   نظرت البقرة إلى الرجل الذي كانت سِكِّينُه تتدلى تحت حزامه، فعرفت من هيأته أنه جَزَّار القـرية، وأيقنت أن مصيرها محسوم، فأخـذت تبكي وترثي لحالها دون أن يفهم عنها أحد. واستأنف أبو إدريس مُتشفِّياً : - هذا جزاء مَن يعصي أمري.

   نهضتِ البقـرة وهَـزَّتْ جسدها تـنـفـضه من الغـبار ودقائق الأَتْـبان، ونظـرتْ إلى

صاحبها أبي إدريس وقالت:

    - رغم حزني على مصيري المحتوم إلا أنني لست آسفة،  فأنا أعلم أن الإنسان أقسى حيوان خلقه الله، لا يجد راحته إلا بمشاهدة المآسي التي يصنعها بيديه، فيطربه الأنين، ويسعده مشهد المخلوقات تموت صرعى وهي تحترق في الجحيم التي أقامها على الأرض، " إنه كان ظلوماً جهولاً ".

   وساق الجَزَّار بقرته وسار بها في طرقات القرية بعينين دامعتين وبقلب يكاد ينفطر حين كانت ترى الشفقة تتدلى من عيون المقهورين أمثالها، ولا أحد يجْرؤ أن يمُد لها يد النجاة. وعاد أبو إدريس يلتفت إلى حماره المشاكس، يخاطبه:

    - أما أنت يا حمار الكلب سأسوقك يوم الخميس إلى سوق الحمير، سأبيعك وأتخلص من غبائك ومن قرفك.

   فابتسم الحمار ونهض يرقص على طريقته، ويغني فرحاً، ثم مَدَّ بُوزه وخاطب أبا إدريس خِطاب المُوَدِّع، قائلاً:

    - الحمد لله، أخيراً سأتحرر من قبضة يدك، ويغيب عني وجهك النَّكِد وصوتك الكريه، وسأتخلص من عصاك الغليظة ومن لسانك البذيء.

   وصَفَـق أبـو إدريس الباب وراءه، وتـرك الحمار وحـده يتأمل نـفسه بعين الرضا، وأخذ يتمتم:

    - تُرَى، هل يُتم اللهُ عليَّ فضلَه، فيختار لي مالكاً جديداً يحتفي بي ويعطف عليَّ، عسى ربي

أن يختاره لي من غير قريتي، حتى لا يعرفني فيها أحد ، فلا أسمع كلمة من القـبائح التي كانت

تُـؤذيني وتجـرح كرامتي.(ثم سكت وسكـنـت مشاعره، وقـال يخاطب نفسه):- لا تُفْرِطْ يا ولد في تلوين الأماني بألوان الورود، فإن إطالة زمن الإمعان فيه تُبْهَرُ النَّفَسَ وتكُفُّ البَصَر. ( ثم طأطأ رأسه في تفكير عميق، وغاب عن نفسه قليلاً، وأبان عن تخوُّفه وارتيابه حين قال لنفسه):         

    - أخـشى أن أكــون قــد أَفــرَطْـتُ في تـزيين الـتـفـاؤل، فأنقــلِبُ على عـَقِـبَيَّ وأُرَدُّ إلى مَن هـو أشـدُّ قسـوة، وأعـظمُ ظُـلـماً مِن أبي إدريـس، فأكــون كالــذي اســتجار مِن الـرمـضاء بالـنار، ولكـني سـاُسَــلِّــمُ أمـري إلى الله - سـبحانه - ، " فاللهُ خـيـرٌ حافظاً وهـو أَرحَـمُ الراحمين". * (ا.هـ) *                             

                                                           النصيرات في 25/11/2017 *