نشرت هذه المقالة في 1988/3/2 خلال الانتفاضة الاولى 1987 – 1988 وقد قامت “السفير” بحملة دعم مالية للانتفاضة.
هيا تنحوا وافسحوا الطريق، فالأطفال قادمون!
لقد اجتاحوا الدنيا، على اتساعها، وأعطوها ربيعاً جديداً، لقد احتلوا القلب والوجدان، الإذاعة وشاشة التلفزيون ومساحة الصفحة الأولى، وصارت حجارتهم ورود الموائد وأيقونات غرف النوم، وأمل المضطهدين والمعذبين في الأرض، وبطاقة الانتماء إلى عالم السذاجة والبداهة والحقائق البسيطة كمثل إن الأرض أغلى من الرجال، وإن الدم أقوى من السيف، وإن الحجارة تزهر، كما اللوز، في كانون فتكون بشارة بتجدد الحياة.
لقد كشفوا أن “الكبار” أضعف وأعجز وأبأس من أن يكونوا أطفالاً محناة أيديهم بتراب الأرض وحجارتها، مرفوعة رؤوسهم رايات لمسيرة محرم عليها التراجم كما الخطيئة المميتة!
دعوا الأطفال يأخذونكم إليهم، لو إنهم يقبلون، ولو إنكم تقدرون!
هل أنتم أقوياء لكي تتحملوا مثل هذا الحب العاصف، الهادر، الغاضب، الذي به كبروا وبه ينتصرون؟!
كيف يدعي العشق من يضن على أرضه باحتضانه، يمنحها أنفاسه فتحيلها شميم عرار وضوع نرجس وياسمين؟
هل أنتم مؤهلون لأن تخوضوا امتحاناً بالنار والذهب ووهم السلطة فلا تهنوا ولا تضعفوا ولا تبيعوا الحجارة، بعد القضية، لهواة “الانتيكة” ممن يتهافتون الآن لشراء سلامة إسرائيل المتصدعة بأي ثمن؟!
الأطفال يلدون الشهداء، والشهداء يلدون المزيد من الأطفال، والأرض تلد المزيد من الحجارة، الحجارة أكثر من الجند. الأرض أصلب من الدبابة وأبقى. تعبر الدبابة، تجرح الغيار، ثم تمضي، ويمضغ التراب آثار الحديد ثم يستحيل حجارة للأطفال الآتين لكي يبنوا التاريخ الجديد!
لكم نحتاج كبراً لكي نصير أطفالاً؟!
كم يحتاج “الجنرال” العربي من القوة والكفاءة والكبر لكي يصير بقدرة طفل وبدقته في تصويب حجر مقلاعه (ولا رادار يساعده، ولا خبرة له بالكومبيوتر والالكترونات!)؟!
لقد ألغى الطفل العربي، الجندي العربي، فلقد أتى ما عجز عنه أو ما لم يمكن من أن يأتيه.
وفضح الطفل العربي عقم “الثوري” العربي، وعجز المفكر العربي، والحزب والتنظيم المعقد اسمه والشعار!
لأنه طفل فهو لا يخاف. لا هو يخاف المحتل ولا سيد المحتل وسنده.
بالبداهة يعرف إن عليه أن يقاتل المحتل، المحتل قوي، لذلك عليه أن يقاتله. والإمبريالية الأميركية جبارة القوة، ولهذا فلا سبيل إلى الصلح معها إلا إذا هزمها وصار هو السيد.
ولأنه طفل فهو “يحب” و”يحب” و”يحب”، ثم إنه “يكره”
يحب أباه وأمه، أخاه وأخته، ويحب ابنة الجيران وشريكته على المقعد في الصف. يحب الأرض، يحب الشمس، يحب الشجرة والورد الجوري وزهر البيلسان، يحب البحر والنهر وساقية الماء ذات الخرير المطرب، وذات الظلال التي تخفيه حين يسبح وعندما توافيه حبيبته، في الموعد السري قبيل الغروب. يحب الفراشة والنحلة والسنونو والشحرور وهديل الحمام برنة الشجن فيه.
وهو يكره الذئب والعتم والشوك والفقر والجهل والتخلف.
ولأنه طفل فهو يأخذ الأمور ببساطة: أرضك هي أرضك فاحفظها، وإذا جاء الذئب فاضربه بالحجر.
وهكذا أخذ الحجر، أخيراً، وضرب الذئب
من قبل كان إذا أخذ الحجر ليضرب رفيقاً مشاكساً ضربه أبوه،
أما حين اهتدى إلى الهدف الصحيح وأصابه بحجره فقد قبله أبوه على جبينه وأهداه مقلاعاً وكمشة تراب من تحت قبة الصخرة!
وهمه الآن أن يتبارى مع زملائه الذين لا يحصون: من يضرب حجارة أكثر، ومن يصيب عدداً أكبر من الجند المدججين بالسلاح الأميركي وبذكريات انتصاراتهم السهلة على أنظمة الهزيمة العربية؟!
لأنه طفل فهو يعرف إن اسم أرضه فلسطين، وإنه لهذا فلسطيني.
فالأرض أعطته سمرته وقوته وخبزه واسمه. وإن فلسطين تزول إذا صارت “إسرائيل”. ولقد صيروا فلسطين إسرائيل، لكنه بقي فلسطينياً، كيف تأخذ أرضه اسم غيره؟! إذا راحت أرضه فقد اسمه. صار هو لا شيء. لا أحد. صارعدماً. صار وكأنه غير موجود. ولكنه موجود، وله اسمه، وله أفكاره وأحلامه التي لها اسم حبيبته فلسطين.
ولأنه طفل فقد عرف إن إسرائيل أميركية، أي غربية، وإنه لا يمكن أن يقاتلها إذا صار هو مع أميركا، وإذا أنكر اسمه وأهله وبيته وصار غربياً. الغربي هو الغريب الذي أمامه، وهو غيره، بل هو الذي ينفي وجوده ويلغيه، إلى الحجر إذن، لضرب الذئب.
ولأنه طفل فهو لم يتوقف طويلاً عند مجيء شولتس وذهابه. ولن يتوقف غداً متى جاء شولتس ثانية. هو يعرف إنه إنما جاء من أجل عدوه. جاء لكي يساعد الإسرائيلي على الفلسطيني، جاء لكي يحرض العربي على العربي، الفلسطيني على الفلسطيني، جاء لكي يقتتل العرب فيعجز هو عن قتال إسرائيل.
ولأنه طفل فهو يرى الأمور على حقيقتها البسيطة: الملوك لا يحبون الحجارة، ولم يتعلموا حب الأرض، ولهم عروش يجلسون عليها، بينما أبوه لا يرتاح إلا إذا جلس على الأرض، ونام على الأرض، وأعطى الأرض لأن لا أحد يعطيه كما إنه لا يقبل أن يأخذ إلا الأرض.
لأنه “طفل” فهو الأكبر منان، بل هو الكبير فينا.
لأنه “طفل” فهو يكلمنا من المهد، وعلينا أن نفهم كلامه وأن نعي ا لدرس وأن نكبر لكي نصير أطفالاً فلا تجوز علينا ألاعيب الشطار والسحرة والحواة وبياعي الأرض مفروشة بجثث أبنائها.
فلنتعلم الحب… فبالحب تزهر الحجارة، وبالحجارة تبنى البيوت والأوطان.
وبالتجربة نكتشف اليوم إن شعب فلسطين الباقي في أرضه كله أطفال. فالباقي في أرضه، ومع أرضه ولأرضه لا شيخ ولا يفنى ، بل هو يتجدد باستمرار، تمده الأرض بأسباب الخلود كما تمد الجذور فروع الشجر والورد وأصناف الزهر بالنسغ فإذا الربيع في العيون والصدور والزنود جميعاًز
وفي الجنوب بدأ “ميلاد” الأطفال والحجارة،
فلنعد إلى الجنوب أطفاله والحجارة لكي يشقوا لنا، نحن في لبنان أيضاً، طريق النصر، طريق الوطن المرتجى.