قال عني الناقد مرقص في دراسة نقدية لديواني الأخير إنني شاعر موهوب وواعد وإنه قرأ ديواني الشعري الأخير “يا طلت أحبابنا” على نَفَس واحد، وأنه صعق من قدرتي اللغوية ومعرفتي النسبية الممتازة بالقواعد والإملاء، إذ لم يجد إلا خمسة أغلاط في الصفحة الواحدة فقط مما يعتبر إنجازاً عظيماً للثقافة العربية في البلاد، وخاصة في الجنس الشعري.
ويقول الناقد مرقص إن هذا تحوُّل عظيم في الصياغة الشعرية وانخفاض الأخطاء إلى رقم من خانة واحدة في كل صفحة. وإن هذا الانجاز يجب أن يسجل على اسمي.
كذلك، أشاد الناقد بمقال نشر على صفحتين في جريدة “الانفصال” واسعة الانتشار بأني برزت كشاعر حداثي، لشدة غرائبية معاني شعري وتركيبته التي لا يمكن أن يفهمها أحد بدون شرح الشاعر أو الناقد، والحمد لله أن أحداً لم يتصل معي لتلقي شروحات حول قصائدي، لأني أنا أيضاً بيني وبينكم لا أفهم ما أكتب .. وأحتاج لمن يشرح لي إبداعاتي الشعرية، التي لم أتوقع أن تجد مثل هذا التقييم النقدي الرائع. وأعتمد على الناقد مرقص لشرح ما اكتب.
وبعد هذا التقييم الذي يثلج الصدر لأن جلوسي في حفلات التكريم لي ولشعري كثرت بعد النقد البنّاء مثلاً، وهو أمر يثير الرهبة في البداية. أول مرة دُعيتُ إلى “الخيمة المدنية” وأخرى كرمتُ في “المكتبة العلمية”، وأصدرت مجلة “المغرب” عدداً خاصاً ساهم فيه 30 شاعراً وأديباً وناقداً أشادوا بتجربتي الشعرية، مرة كُرِّمتُ في نادي الأدباء، آخرها على خشبة المنتدى الشعري الذي كان سابقاً خاناً للحمير.
وقد كتب أحد المقهورين والغيورين من تكريمي عنواناً استفزازياً لخبر نشر في صحيفته: “تكريم شاعر في خان الحمير”.
ليمت في غيظه. ذلك الصحفي سيسقط بالتأكيد في امتحان الإملاء. بالتلخيص .. صرت اسماً معروفاً أنشر قصائدي في الصحافة المحلية، أحياناً أنشر نفس القصيدة في عشرة صحف محلية، أنشر في مواقع الانترنت، أغيّر صورتي كل شهر بصورة جديدة يلتقطها لي أفضل المصورين على خلفية حدائق البهائيين أو شاطئ البحر الأبيض المتوسط أو على خلفية جبل الجرمق. لكن أحسن صوري وأنا في مكتبي أفكر ويدي تحتضن ذقني وخدي الأيمن.
في التكريم في “خان الحمير” أعني خان الحمير سابقاً، واليوم مسرح المنتدى الثقافي، قال الناقد مرقص إني قد أكون الشاعر العربي الثاني، بعد أدونيس الذي سيرشح بجدارة لجائزة نوبل للأدب مما أثلج صدري لدرجة خفت أن تتجمد ضربات قلبي من حرارة الجلوس الطويل على مقاعد خشبية متعبة في حفلات التكريم.
المهم أن الناقد مرقص يقبض (1000) شيكل عن كل حلقة تكريم، هو غيور على تعريف القراء بأدبي، لا يفوت تكريماً دون أن يهل بطلعته ليتحف المستمعين بتقييمه الكبير لإبداعاتي الشعرية واصفاً شعري بالتجديد والتحديث والانقلاب والثورة على المعاني والأوزان والأساليب القديمة، لكن ليته يشرح لي، بيني وبينه، كيف توصَّل إلى ما لم يكن في ذهني، مثبتاً عبقرية نقدية نادرة .. حقاً، المبدع وظيفته الإبداع فقط وليس فهم ما يبدعه أو تحليله، هذه وظيفة الناقد بدون نقاش.
كان من حظي، بعد شهرين أن أدعى للمشاركة في أكبر أسبوع للثقافة العربية، ظهر اسمي مع عشرة من أبرز شعراء وشاعرات شعبنا، لإحياء أمسية شعرية كبيرة، عريفها الناقد مرقص…
في الليلة الموعودة، استحممت مستعملاً صابوناً خاصاً يصنع من زيت الزيتون المعطر بزيت الغار لعل الشاعرات الأنيقات ينتبهن لسحر رائحتي، لعل وعسى… ذهبت إلى حلاق نسائي، ليصفف شعري بشكل مناسب للأمسية الشعرية، نظف لي حواجبي وشعر أنفي وأذني، غطى أظافري بمانيكور لا لون له، لكنه يعطي لمعاناً جذاباً. اشتريت قميصاً وبنطلوناً من ماركة “بييركاردان” بـ (1825) شاقل فقط، حذاء أسود صناعة ايطالية فاخرة بـ (640) شيكل فقط. لأبرز حضارياً وحداثياً اشتريت سوار ذهب عريضاً بـ (3250) شاقل فقط لأزين معصمي وأحرك يدي ذات اليمين وذات اليسار. كذلك اشتريت زجاجة بيرفيوم للرجال كلفتني (650) شاقل أيضا. يقول أصحاب التجربة أنها كفيلة بترويض أكثر النساء شراسة. لتغطية نفقاتي فرضت على والديّ أن يحصلا على قرض من بنكهما يسددانه بأقساط شهرية من معاش التقاعد. فابنهما شاعر كبير. ها أنا أقرأ لهما المقال النقدي للناقد مرقص وأخبار التكريم ولكني لم أذكر خان الحمير باسمه القديم بل باسمه الحديث مسرح المنتدى الثقافي…
صحيح أن والدي اعترض قائلاً: ”هل تريدنا أن نجوع ستة أشهر من أجل نزواتك؟ ارجع إلى عملك في التبليط واتركنا من تبليط الكلام الذي لا يطعم خبزاً، هل تظن ما تكتبه شعراً؟ كنت معلماً للغة العربية ولا أجد جملة واحدة مفيدة لديك” !!
جاهل !!
ولكن أمي كانت من صفي. قبل سفري إلى الأمسية بسيارة أجرة رشتني بالملح حتى لا أصاب بعين السوء من الغيورين.
في الأمسية الموعودة كنت الأكثر توهجاً ولمعاناً. أشد كم قميصي لأظهر جمال سوار الذهب وأحرك يدي بنصف دائرة للاتجاهين لألفت انتباه الجمهور للذهب اللامع، المؤسف أن الحضور كان قليلاً، إذ في القاعة ثمانية أشخاص… أي أقل من عدد الشعراء باثنين. إذا أضفنا الناقد عريف الأمسية نصبح (11) على المنصة مقابل (8) مستمعين.
بعد تأخر نصف ساعة التزاماً بالتقاليد القومية، قررنا أن نبدأ احتراماً للجمهور الذي جاء للاستماع.
بعد أن انتهى أول شاعرين من إلقاء شعرهما، لم يتبق في القاعة إلا شخص واحد. يا للأسف ويا للعار على هذا المستوى الثقافي المتدني لشعبنا. لكن بعد التشاور بيننا قررنا أنه احتراماً للمستمع الوحيد الباقي، أن نواصل قراءاتنا الشعرية…
بالفعل لم نتوقف، بل أطلنا وأجدنا احتراماً للمستمع الوحيد، الذي بان عليه في الساعتين الأخيرتين التعب والإرهاق، لكنه لم يغادر المقعد حباً بالأدب والشعر، فاستمرت الأمسية لأربع ساعات كاملة… احتراماً للمستمع الوحيد!!
عندما انتهينا من إلقاء قصائدنا، قررت أن أتوجه لهذا المستمع الرائع بالتقدير الكبير على حبه لشعرنا وبقائه للاستماع رغم تعبه وإرهاقه وتعبنا نحن أيضاً من كثرة ما قرأنا وأن أهديه ديواني الأخير اعترافاً بذائقته الأدبية، يا ليتني ما توجهت لأشكره.
قال لي وهو يلوح بيده غاضباً ويقذف ديواني بعيداً: ” قتلتوني ..عفت ديني.. هيك وهيك لأم الشعر .. أنا البواب، أنتظر أن تنهوا ثرثرتكم لأقفل القاعة وأذهب للنوم”.
قصة بقلم: نبيل عودة