قبل سبعين سنة، الا قليلاً، وذات غروب عاصف، وتحت مطر متقطع، توقفت في قلب قرية رشميا، قضاء عاليه، “بوسطة” مليئة بالنساء والاطفال، وتجمهر حولها سكان تلك القرية، نساء ورجالاً وفتية، والكل يبكي، ثم أخذت النساء يقصدن إلى البيوت فيعدن منها بالبطانيات واللحف، وكميات من الخبز، مع ما تيسر من المؤن الشتوية: اللبنة والزيتون والجبن البلدي والمربيات.
كانت والدتي في طليعة النساء الباكيات، وقد عادت إلى البيت وانا خلفها وقد حملتني بضعة من الارغفة في حين حملت لحافاً وبطانية ومخدتين وهي تشهق بالبكاء ودموعها تغطي وجهها فلا تكاد تتبين طريقها إلى حيث وقفت البوسطة..
أذكر انها كانت سنة 1949، وعشية عيد الميلاد من تلك السنة..
وأذكر ان النساء بتن يتهامسن بأن البوسطة تحمل أعداداً من اللاجئات الفلسطينيات والابناء الصغار وبعض الطفلات.. وان ازواجهن سيلحقن بهن في الايام التالية، وبعد أن يقرر لهن أين يقمن مع اولادهن: افي الدير ام في مدرسته،
كنت اعرف أن والدي، العريف في الدرك، قد ذهب قبل حين، في مأمورية إلى الجنوب، ضمن مجاميع من الجنود، حماية لحدود لبنان، ولحسن استقبال اللاجئين الوافدين من فلسطين..
ولكنني عرفت من اقراني، صباح اليوم التالي، أن البوسطة التي جاءت مساء اليوم الماضي، لم تحمل الا لاجئين او لاجئات من الفلسطينيين المسيحيين..
ستمر سنوات قبل أن انتبه إلى تقسيم اللاجئين الفلسطينيين على اساس طائفي: فالمسيحيون إلى مخيم مار الياس، والى مخيم ضبيه، اما المسلمون فقد تم توزيعهم على صبرا وشاتيلا، ومخيم تل الزعتر، حيث كانت ثمة مشاريع تعد لمنطقة صناعية عند أطراف المتن الجنوبي بدءاً بالنبعة وصعوداً حتى المكلس.
ولان نسبة المسلمين من اللاجئين هي الاعظم فقد تم توزيع اكثريتهم على مخيمات البداوي ونهر البارد، شمالي طرابلس، وعلى الثكنة الفرنسية العتيقة في مدينة بعلبك، فضلاً عن بعض المخيمات في منطقة صور وضواحي صيدا (عين الحلوه)..
ولقد تمت المقارنة، يومئذ، بين معاملة الانتداب الفرنسي للاجئين الأرمن الذين قدموا أو استقدموا من تركيا عبر سوريا ليعطوا أخصب منطقة في سهل البقاع، هي عنجر، التي تزهو اليوم بأحلى المقاهي والمطاعم، على النهر، ويقصدها اللبنانيون والسوريون من مختلف مدنهم والمقاهي للغداء والعشاء وحفلات الطرب.. وبين هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين الذين القوا كيفما اتفق!
وكانت بين النتائج المباشرة لتلك الهزيمة العربية المدوية في فلسطين ان انشغل رئيس الجمهورية في لبنان،الراحل بشارة الخوري بتجديد ولايته.
وان انقلابا اميركيا قاده في سوريا الزعيم حسني الزعيم، الذي انجز امرين: تسليم مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الراحل انطون سعادة الى السلطات اللبنانية التي حاكمته بطريقة فضائحية وحكمت عليه بالاعدام في محكمة عسكرية استثنائية وتم إعدامه فجرا..
اما الهدف الأعظم فهو تمرير خطوط الشركة التابلانية الأميركية الى الزهراني قرب صيدا في جنوب لبنان، على البحر الأبيض المتوسط لتتساوى مع شركة نفط العراق التي سبق لها ان انشائها ومع مصافيها في منطقة الدعتور قرب طرابلس في شمال لبنان.
اما القوة المصرية التي ذهبت للقتال في فلسطين، والتي كان في عدادها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فقد فرض عليها الحصار في منطقة الفلوجة لشهور طويلة واستشهد قائدها البطل احمد عبد العزيز قبل فك الحصار. وكان السلاح الفاسد يتقل للجنود المصريين اذ ينطلق رصاصه الى الخلف، لذلك كان الجندي المصري بين بندقيته ووجهه ثم يرمي وهو يقول: يا رب تجي في عينه..
واما الجيش الأردني فكان بقيادة الجنرال البريطاني غلوب باشا او أبو حنيك كما كان يسميه الأردنيون.. وليته لم يكن هناك… وان كانت انجازته قد أودت بالملك عبد الله، أي جد الملك عبد الله الثاني الذي اغتيل عند عتبات المسجد الأقصى.
اما القوة العراقية المحدودة التي شاركت فلم يكن حجمها او سلاحها يسمح لها بان تكون مؤثرة..
وكان اشجع المقاتلين في تلك الحرب المتطوعون من مختلف بلاد المشرق والمغرب العربي وان كان بعضها قد انتسب فيها جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي الذي كلفت عودته من الميدان اكثر من مئتي قتيل سقطوا خلال استقباله عائدا من الميدان الذي اجتاحته الجيوش والعصابات الصهيونية.
*****
أيها الاخوة والاخوات من خريجي الجامعة التي بُنيت بالإرادة الشعبية، وبالإصرار على كسر الهيمنة الاجنبية على التعليم الجامعي، خصوصاً وان الجامعة اللبنانية كانت تخوض في الشارع معركة وجود لإثبات شرعية قيامها كجامعة لأبناء لبنان كافة، لا سيما الفقراء منهم، ولقد تم تأخير قيامها مكتملة النصاب سنوات طويلة.
كان شبيبة لبنان، بالأكثرية الاسلامية منهم، يعجزون عن تأمين أقساط الجامعات الاجنبية.
وكان طبيعيا أن يتوجه بعض ابناء بيروت إلى الزعيم الخالد جمال عبد الناصر يعرضون عليه مأساة التعليم الجامعي في لبنان، المسلم قياده إلى الجامعات الاجنبية الاميركية والفرنسية،
وكان القرار العظيم بالمساعدة على انشاء جامعة بيروت العربية، كفرع لجامعة الاسكندرية..
ولعل رمزية اختيار المكان قد عبرت عن مضمون القرار: أقيمت جامعة بيروت العربية مكان سجن الرمل الذي يعرفه الكثير من المظلومين، بالمعنى السياسي، وانا واحد منهم، لكن ذلك حديث آخر.. ولم تكن مصادفة أن نسبة كبرى من طلبتها، أقله في البدايات، كانوا من الفلسطينيين وعرب الخليج الذين كانوا، بعد، فقراء، كقطر وبعض مشيخات دولة الامارات فضلاً عن سلطنة عمان.
أيها الاخوة والاخوات،
لعلني ابتعدت، قليلاً أو كثيراً عن الموضوع،
لكنني، مثلكم، بمعنى اننا حيثما التفتنا سنجد وجه الله، ومعه وفيه فلسطين المباركة..
واسمحوا لي، أن استذكر بلا مباهاة ولا فخر بأداء الواجب، أن “السفير” قد تجاوزت حدودها كصحيفة وهي تسعى جاهدة لحماية القضية المقدسة فلسطين، في الوجدان كما في الذاكرة اليومية..
لقد حملت الصفحة الأولى من عددها الاول حديثاً خاصاً للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وكان بين مديري التحرير فيها بلال الحسن الفلسطيني وابراهيم عامر المصري، وتولى الاخراج الفنان المصري الكبير حلمي التوني وكان بين محرريها توانسة وسوريون وعراقيون ويمنيون.. بوصفها صوت الذين لا صوت لهم، جريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان.
فـ”السفير”، لوحدها من دون الصحف العربية، قد أصدرت على امتداد عشرين سنة او يزيد، ملحقاً شهرياً باسم فلسطين، يضيف إلى الخدمات اليومية، كالأخبار والتحقيقات والتحليلات السياسية، المعارف الضرورية بالمدن والقرى الفلسطينية، والعادات والتقاليد في اللباس والبناء، وتاريخ الاماكن المقدسة.
كذلك فان “السفير” قد انشأت بالتعاون مع بعض الشخصيات العامة، لبنانية وفلسطينية وعربية عموماً، صندوقاً لدعم الانتفاضة الأولى، وأرسلت الحصيلة إلى قيادة الانتفاضة في فلسطين.
على أن أبهى ما تفخر “السفير” بانها قدمته خدمة للقضية، ذلك المهرجان الشعبي المميز الذي جاء اليه شادي فلسطين وشاعرها ونايها محمود درويش، وغنت فيه المطربة التي لم تغادر بروحها فلسطين، السيدة ماجدة الرومي، وحضره عشرات الآلاف من شباب لبنان وفلسطين في المدينة الرياضية في بيروت..
هذا فضلاً عن الجهد اليومي الذي كنا نبذله لمواجهة محاولة الطمس والتحريف الاسرائيلية، والعربية مع الاسف، التي كانت تبذل لتشويه القضية المقدسة..
ولقد واجهنا، بما نملك من عدة المواجهة، أي المقالات والدراسات والمحاورات المباشرة المدينة لاعتراف بعض الانظمة العربية بالكيان ـ العدو.. وكلفنا ذلك الكثير: منعنا من دخول مصر منذ صدور “السفير”، برغم صداقاتنا الغالية مع مفكريها وكتابها بعنوان محمد حسنين هيكل، ومنعنا من دخول الاردن ـ كشخص وكجريدة ـ الا في مرة وحيدة ذهبنا فيها لمحاورة الامير الحسن بعد زيارته واشنطن ولقاء شيمون بيريز، لأول مرة علناً.. كذلك منعنا من دخول قطر بعدما ذهبنا إلى امير قطر السابق، الشيخ حمد، وتحت الحاح منه، لنسمع محاولة تبريره فعل الخيانة.. ثم امتنعنا عن الذهاب إلى الدوحة واليه ثم إلى نجله المتباهي بطوله..
أما محاولات الاغتيال ونسف البيت والمطابع فأظنها ثابتة في ذاكرتكم ولا تحتاج إلى التذكير فيها.
وفي السنوات العشر الاخيرة اوقفت دول الجزيرة والخليج، السعودية ودولة الامارات، وقطر، وسلطنة عمان والكويت، اشتراكها الرمزي في “السفير”.. وما أرخص التضحية!
أيها الاصدقاء،
لعلني اطلت، هذه الظهيرة، لكنني اردت أن اغتنم مناسبة هذا اللقاء الكريم لمسارة بين اصدقاء، لا مجال فيها للتباهي، وان كان من واجبي وحقي ان اؤدي الحساب، بعدما اجبرتنا ظروف اقفال هذه الدنيا العربية الفسيحة امام حرية الكلمة وشرف الموقف على ايقاف اصدار “السفير” قبل عام تماماً.. امامكم، انتم خريجو جامعة بيروت العربية، راجياً قبول عذري عن لغة الفخر التي تمدني بها “السفير” بتاريخها، وهو بعض تاريخكم .. متمنياً دوام النجاح في كل ما يؤكد وحدة هذه الامة بقلبها الذي سيبقى نابضاً ابداً باسم المباركة بفلسطين..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة القيت في تكريم جمعية متخرجي جامعة بيروت العربية في البقاع في 24 كانون الأول 2017.