في مثل هذا اليوم وقبل 39 عاما , أي في 27 ديسمبر من العام 1978 , كان الرحيل المبكر للقائد العربي الثائر الكبير الرئيس الجزائري هواري بومدين, باسمه الثوري الحركي , أو " محمد بوخروبة " باسمه الحقيقي , والذي يمكن أن نصفه بأنه زعيم بحجم أمة .
كان الرحيل يوما مشهودا في الجزائر , وفي الوطن العربي , وقارة افريقيا , والعالم قاطبه , خسرته الجزائر , مثلما خسرته فلسطين , حيث شارك الرئيس الراحل ياسر عرفات الصديق الحميم للهواري , في جنازته المهيبة بالجزائر العاصمة وقال إنه " شهيد فلسطين" , لأن بوصلة الهواري كانت دائما فلسطين , وكان يعتبر الثورة الفلسطينية الابن الشرعي لثورة التحرير الجزائرية , أو توأمها الذي ولد بعد تحرير الجزائر بعامين , فهو صاحب المقولة المشهورة " نحن مع فلسطين ظالمة ومظلومة " , وذلك في رد على ما تعرضت له فلسطين من ظلم ومؤامرات.
تعود بي الذكرى اليوم , وأذكر حين وقفت يومها أنعي الرئيس بو مدين أمام ما يقارب خمسة آلاف طالب في جامعة عنابة باسم فلسطين , فبكيت وأبكيت آلاف الطلبة وأنا أذكر مناقب الراحل الكبير , وما قدمه لبلده ولفلسطين ولأمته العربية والاسلامية , وقارته الافريقية , ومدى الخسارة التي لحقت بنا لغياب هذا الزعيم الكبير , الذي نفتقده , وكان حقا علينا أن نذكره في هذا اليوم ولو بمقال , قد لا يوفيه حقه , ولكنها تذكرة للأجيال , التي يجب أن تعرف تاريخ قادتها العظام.
لم يكن بومدين شخصا عاديا , أو قائدا عابرا في تاريخ الجزائر , أو رئيسا كباقي الرؤساء , بل كان زعيما بمعنى الكلمة, وكان رجلا بحجم أمة , فقد تمتع الراحل الكبير بـ " كاريزما " القائد والزعيم , وكان صارما في قيادته العسكرية وفي إدارته السياسية , تسلم أول وزارة للدفاع بعد الاستقلال , وكان عليه بناء جيش قوي ومنظم يخلف جيش التحرير الذي شارك في بنائه , فكان الجيش الوطني الجزائري سليل جيش التحرير مثالا للانضباط والالتزام , من أجل تثبيت مهمة الأمن في بلاد خرجت لتوها من براثن الاستعمار , وعندما رأى أن القيادة السياسية التي تسلمت الحكم من الإدارة الفرنسية , غير قادرة على تسيير البلاد بسبب الصراعات بين أجنحة الحكم ومراكز القوى , كان القرار الأصعب ولأصوب لإنقاذ البلاد قبل وقوع الفتنه , فكان تحركه لاستلام الحكم بالحركة التصحيحية في التاسع عشر من يونيو عام 1965 , وتشكيل مجلس قيادة الثورة الذي باشر تحت قيادة الهواري في تسيير البلاد , ونقلها من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة , حيث اختار الاشتراكية منهجا اقتصاديا واجتماعيا لإنصاف أبناء الجزائر الفقراء , الذين حرموا من خيرات بلادهم , فكانت الثورة الزراعية والثورة الصناعية والثورة الثقافية , واستطاع في فترة حكمه القصيرة بناء ألف قرية زراعية لصغار الفلاحين , وأنشأ أضخم المصانع , واتجه لخطة التعريب من أجل نزع ثقافة المستعمر , فكانت المدرسة العربية التي ساهم الأشقاء العرب من مصر وسوريا وفلسطين والعراق , في تربية وتعليم النشء الجزائري لغته العربية , ودينه الإسلامي , لأن بومدين كان يؤمن بمقولة شيخ النهضة الجزائري الشيخ عبد الحميد بن باديس " شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب" ... هذا النسب والانتماء العربي الذي كان يؤمن به الطالب " محمد بوخروبة " عندما كان يتلقى علومه العربية والإسلامية في الأزهر الشريف بالقاهرة , ظل راسخا في عقيدة الزعيم والقائد هواري بومدين , وكان الاختبار الأول إثر العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في مصر وسوريا والأردن عام 1967 , واحتلال صحراء سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة , ويومها أعلن الهواري وضع كل إمكانات الجزائر الاقتصادية والعسكرية , تحت أمرة قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر , الذي كان الرئيس بومدين يكن له كل التقدير والاحترام ويرى فيه قائدا للأمة العربية , وسافر بومدين إلى موسكو من أجل إعادة تسليح الجيش المصري , وقام بدفع الديون المصرية , ووصلت القوات الجزائرية إلى الأراضي المصرية , لتشارك في حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية على جبهة قناة السويس إلى جانب الجيش المصري , الذي بدأ عبد النصر بإعادة بنائه في انتظار معركة التحرير , لكن الظروف لم تمهله , وكان الرحيل الغامض للزعيم القومي جمال عبد الناصر عندما كان يعقد قمة عربية في القاهرة , للبحث في أحداث أيلول الأسود , والمؤامرة على الثورة الفلسطينية في الأردن , والقضاء على قواعدها في الأحراش والأغوار , وإبعادها عن خط المواجهة مع إسرائيل , لينضم عبد الناصر إلى قائمة العظماء من شهداء فلسطين.
وبرحيل عبد الناصر أصبح هواري بومدين , الخليفة الحقيقي لزعامة الأمة العربية , وبدأ ثقل المسؤولية على الزعيم القومي , الذي كان يبني بلاده بيد , ويمد اليد الأخرى لأشقائه في الوطن العربي , دون أن ينسى انتماءه الإفريقي , حيث الدعم الجزائري لحركات التحرر في إفريقيا , لكن الدعم الأول والأخير كان للثورة الفلسطينية , ففتح الهواري أبواب كلياته العسكرية لتدريب ثوار فلسطين , وكان بواخره وسفنه تنقل الأسلحة إلى موانئ بيروت واللاذقية لتصل إلى قواعد الفدائيين في الجولان وجنوب لبنان, وكانت العلاقة الأخوية والثورية المتميزة مع القائد الرمز ياسر عرفات , ووقف بومدين إلى جانب فلسطين وثورتها بكل قوة ضد العدو , وضد كل المتآمرين من أبناء جلدتنا , ولا يمكن أن ينسى شعبنا الفلسطيني دعوة الرئيس الحالي للجزائر عبد العزيز بوتفليقة , الذي كان يشغل وزير خارجية الجزائر في عهد هواري بومدين , ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة , للزعيم ياسر عرفات لدخول الأمم المتحدة وإلقاء كلمة فلسطين لأول مرة من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك , في شهر نوفمبر عام 1974 , ويومها أقلته طائرة الرئاسة الجزائرية من العاصمة الجزائر إلى نيويورك.
هذه سيرة ومسيرة قصيرة نذكرها في ذكرى رحيل هواري بومدين بعد 39 عاما من وفاته المفاجئة والغامضة وهو في ريعان الشباب ( 46 عاما ) , ومازال الموت الذي غيب بومدين غامضا , وإن قيل الكثير عن قيام أجهزة مخابرات أجنبية بتسميم الرئيس بسم بطئ , لأنها كان ترى فيه عدوا لمصالحها في المنطقة , وزعيما استطاع أن يجمع حوله الأمة , وأن يقارع الاستعمار والامبريالية والصهيونية , في بلده وفي قارته ولدى أمته العربية والإسلامية , فكان قرار التخلص منه بهذه الطريق الدنيئة , ولم تفلح معها محاولات الأطباء السوفييت حينها , في علاج الجسد الذي أنهكه السم اللعين , الذي قد يكون نفس السم الذي قتل فيه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر , وربما يكون نفس السم الذي قتل به أيضا الزعيم ياسر عرفات , وهم ثلاثة زعماء لم تعرف الأمة العربية مثيلا لهم منذ قيام ثورة يوليو 1952 , وثورة نوفمبر 1954 , وثورة يناير 1965 , شهد لهم الجميع بروح الوطنية الصادقة , والقومية التي ترى في الأمة قوة ومنعة , لم يعرفوا متع الحياة , أو حياة الرفاهية , رجال كبار كبرت بهم دولهم , وقادة عظام عظمت بهم الأمة في وجودهم , وقي غيابهم , وحين شيعوا في جنازاتهم , خرجت الملايين في القاهرة والجزائر وفلسطين , في مشاهد قل أن تتكرر لغيرهم , فشعوبهم أحبتهم لأنهم أحبوها , وضحوا من أجلها , لدرجة أنهم نسوا أنفسهم , عاشوا حياة الزهد , إلى درجة أنه لم يكن لأحدهم قصر أو بيت خاص به , فبيت عبد الناصر كان بيتا عاديا في حي حدائق القبة , أما بومدين فلم يترك لزوجته بيتا تعيش فيه من بعده , ولم يبن بيتا أو قصرا لأهله , وأبو عمار لا يعرف أي فلسطيني أين كان منزله , فقد كان يبيت في بيت الضيافة , أو في مكتبه .. هكذا هم الرجال الرجال القادة الكبار .. وعندما يغيب الكبار , فكل شيء يصغر ويهون , ونأمل أن تكون للذكرى عبرة , لتنهض الأمة من كبوتها , وتعود لها سطوتها وقوتها , وبانتظار قائد عظيم يلم الشتات , ويحيي أمتنا من الموات .. سلام على بومدين يوم ولد , وبوم استشهد , ويوم يبعث حيا .
د. عبد القادر فارس