أهداني الشاعر العربي الجليلي الفلسطيني صالح أحمد كناعنة ، مشكوراً ، ديوانه الشعري الأخير " ما جئت الا كي أغني " .
وقد جاء الديوان في ١٤٢ صفحة من الحجم المتوسط ، وضم بين ثناياه ثلاثين قصيدة متوهجة بجراح المرحلة ، مرحلة الحصار والنكوص ، وتؤرخ بلغة الشعر للأحداث ، وتغني للحب والحياة والطبيعة والجمال ، وهي أغان طربية آتية من أعماق الروح ، ألحانها رومانسية عذبة وانسيابية ذات ايقاعات موسيقية ناعمة وهادئة ، تدخل القلب دون استئذان ، وتطرب آذان السامع .
يقول شاعرنا صالح أحمد في مقدمة الديوان : " انها بعض أغنيات روحي ... وأصدقكم القول : لا فضل لي بكلماتها .. فقد فرضت نفسها علي ... وتستطيعون القول أنها كتبتني قبل أن أكتبها .. ولا فضل لي بنغماتها .. فهكذا خرجت مموسقة بذاتها ... ولا أخفيكم أنني أومن أن الشاعر الحقيقي هو من تولد الكلمات في وعيه مموسقة .. ولا أقصد بالموسيقى الشعرية ما ينتج عن الوزن والتفعيلة فقط .. بل أقصد : إن الشعر ما كانت الموسيقى روح حروفه النابضة بتلقائية مبهرة " .
ما يميز صالح أحمد في ديوانه قوة ومتانة وطلاوة التعبير ، وامتلاكه الأدوات الشعرية الفنية ، واللغة الشفافة السلسة ، كيف وهو ليس شاعراً جديداً في حدانق الابداع ورياض الشعر ، بل هو شاعر عريق ومخضرم مجيد وملهم ، يشهد له القاصي والداني بشاعريته الحقة ، فهو يكتب الشعر بتلقائية وعفوية منذ أكثر من أربعين ، وقد عرفته من خلال قصائده الأولى التي نشرها في صحيفة " الأنباء " المحتجبة .
إنها قصائد الروح للروح ، والرومانسية والوجدانية والواقعية ، وقصائد عشقية للوطن والأرض والتراب والانسانية والطبيعة الغناء والجمال الكوني والقلق الوجودي ، وقصائد القيم والفضائل والخير ، التي تنبض بمشاعر المحبة والوئام والتآخي بين الشعوب والديانات السماوية ، وقصائد الحب والحياة والانسان .
صالح أحمد شاعر يحب الحياة ، يعشق دفء رذاذ المطر ، وصوت التراب إذا ما تشقق ، ليولد ميتاً ، ويحيا أثراً ، ويسأل الروح عن حب سما لم تقله الريح موالاً لغير لم يهاجر ، ويرقص على صوت الحروف السانحة ، وينتشي برعشة الصمت المؤرق من ترانيم العنادل والصبايا العاشقات الناظرات ربيعهن من المشاعر ، ويبوح للبحر المتوج بالمخاطر ، ويبحث عن شمس بحجم يديه ، ويعانق أغنية الربيع ، ويرتمي في الصدر الذي سيعيده من أغنيات البحث عن الحب الذي لم يبق له في الليالي القاحلة ، ويضج شوقاً لتضاريس المدى والترحال سراً .
ويعرج صالح أحمد بخطاه العجفاء الى الصحراء ، ويرى من ثقب الخيمة وجعه حصاناً في المدى ، ويستظل من الخريف ببوح أوراق الحبق ، وهو يستعير من الغيوم شفاهها كي يعيد للبحر جنونه وللحلم وهجه ، ويعلنها على رؤوس الملاً بأنه سيكون أول عاشق يهدي براءته لأطفال المدينة ، وأول عاشق يهدي أصابعه وروداً لابتسامتها ، الى أن تغدو قصائده حرفاً في حكاياتها .
ثم يغرق شاعرنا صالح أحمد بندا الشهب ، ويلتهب بعمر الصمت مغناة الجياع فيكاد ينسى ما يختزنه من التياع في أعماقه ، ويعتريه الشوق الآتي من بعيد ، ولا يجد شيئاً يطفىء نار الشوق سوى أن يرنو الى الفرح الوليد .
ويغفو صالح أحمد ويصحو على حلم لم يمت في صمت نافذته ، واذا به يلوذ بأحضان الخرافة ، وينهض باحثاً عن الحقيقة في هواء التائهين ، وفجأة تمطر السماء على أفق المواجع بسمة ، وتشرب الأرض آخر القطرات من أحلامه ، وتكون المواسم غيث لقلب حبيبته ، والقدس المدينة الحزينة الباكية الشاكية تقبل آخر الدمعات من شريانه .
وتأتيه عيون الحب بغامض شوقها السري لتسقيه وتنثر عذرها ، ويسافر آخيراً في زورق بلا أشرعة ولا مرسى ، ويشطح بعيداً ليغني حكايات الغربة ويعزف على قيثارته ونايه لحن الموت ونغم النكبة الحزين .
صالح أحمد فنان ماهر في اصطياد الكلمات ، ويعرف كيف يطرز الحروف ، وينسج الكلمات ، وكيف يسبك المفردات وينقشها على صدر قصيدته ، وكيف يشذب حديقته من الشوائب والاعشاب والأغصان التي لا لزوم لها ، لتظهر بشكل مهندم وبصورة زاهية تدهش الناظر .. فلنسمعه يقول :
يا بلادي .. كم أحبك
ما عشت إلا كي أغني !
وبراءة الكلمات من شفتي تطير
في فجرك الصاحي
شفافة كفراشة من نور
وتخط فوق جبينك العالي
بلادي ... كم أحبك
ومن يقرأ قصائد ديوان صالح أحمد " ما جئت الا كي أغني " يشعر ويغبط بالانفعالية المتهيجة ، وتأسره صورها الشعرية الفاتنة الخلابة ، وكلماتها المخملية ذات الايحاءات والاستعارات والمجازات والتشبيهات والأوصاف الجميلة والدلالات العميقة المكثفة .
وقد أجاد شاعرنا صالح أحمد الأداء التعبيري البوحي النبضي المشحون والمعزز بالعاطفة والخيال والموسيقى الرائعة ، وتنوع الأغراض الشعرية ، ودقة التصوير وحرارة التعبير .
صالح أحمد يتحلى بلغة رقيقة صادقة ، فهو يكتب بلغة الحياة ، ويعيش اللغة ، ويخوض تجربة الحياة في اللغة ، وما يميزه نقاء وصفاء وبهاء اشراقي مميز ، باعتبار شعره مائياً شفافاً سلساً خصباً ، فلا جفاف لغوي ، ولا صناعة وتكلف كاذب ، ولغته وخياله يمتزجان بالجدة ، انه شاعر يمتلك اللغة والكلمات والتعابير النابضة الحية في مساحة الأيام ، وبعطي للحياة والشعر معنى جديداً حداثوياً ، ويرتقي بالقصيدة الى مستوى عال وراق من الفرادة والخصوصية والتميز.
مبارك ديوانك صديقي وأخي صالح أحمد كناعنة ، وشكراً على الاهداء الجميل ، واتمنى لك المزيد من العطاء والابداع والاصدارات القادمة ، مع خالص الود والتحية .
بقلم/ شاكر فريد حسن