امرأة من فلسطين

بقلم: الأسير كميل أبو حنيش

إنها " أم إبراهيم" والدة الأسير المناضل " نادر صدقة" المحكوم بالسجن المؤبد 6 مرات، والمعتقل منذ أربعة عشر عاماً. تمثل لنا نحن الأسرى نموذجاً للمرأة الفلسطينية المناضلة والأصيلة والمتسامحة والطيبة.

و"أم إبراهيم" الفلسطينية تنتمي للطائفة السامرية العريقة، وهي أقدم طائفة في فلسطين ومتجذرة في البلاد منذ آلاف السنين، وهذه الطائفة لها تقاليدها وطقوسها الدينية وكتابها المقدس المكون من الأسفار الخمسة الأولى من التوراة، ولا تعترف بالتوراة اليهودية.

وهذه الطائفة مقيمة فوق " جبل جرزيم" في نابلس المعروف بجبل الطور وهو مكانها المقدس وتقام عليه الطقوس الدينية منذ آلاف السنين، وهذه الطائفة تتحدث اللغة العربية وثقافتها عربية خالصة مطعّمة بالتقاليد السامرية العريقة، ومنسجمة تماماً مع المحيط النابلسي، ولها بيوتها وأملاكها ومحلاتها التجارية في قلب المدينة، وتشارك في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ولها احترامها في عموم فلسطين.

وفي العودة لأم إبراهيم والدة الأسير المناضل نادر صدقة، والذي انتمى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ أن كان فتىً في الانتفاضة الأولى، والتقينا في جامعة النجاح الوطنية وهناك تصادقنا ونشطنا معاً في إطار جبهة العمل الطلابي بسنوات التسعينيات من القرن الماضي، وكنا في بعض الأحيان نضطر للسهر والمبيت في بيت نادر القريب من الجامعة، أما البيت الرئيسي للعائلة فهو مقام على " جبل الطور" بحيث تقيم العائلة وعموم الطائفة السامرية، وقلما تقيم العائلة في بيتها الكائن في المدينة، وفي ذلك الحين قلما التقينا بأم إبراهيم في ذلك البيت، بينما كانت تربطنا علاقات صداقة عميقة مع أبنائها " إبراهيم ونادر ونور" .

وما أن اندلعت الانتفاضة الثانية حتى طاردتني قوات الاحتلال مع بضعة رفاق آخرين ولم يعد بمقدورنا الخروج خارج مدينة نابلس وهي القرى المصنفة بمناطق c وصار يتعين علينا البقاء في المناطق المصنفة A والتي وفرت أماناً نسبياً لعموم المطاردين في ذلك الحين، ولم يكن لدينا بيت ولم نجد مكاناً غير بيت نادر حيث التجأنا إليه كمكان مؤقت.

كنا بضعة رفاق سيقع على كاهلهم تأسيس المجموعات العسكرية الأولى للجهاز العسكري التي ستعرف بوقت لاحق باسم " كتائب الشهيد أبوعلي مصطفى" وكان لنا شرف الالتقاء والمبيت في هذا البيت في تلك المرحلة المبكرة من الانتفاضة، وفي تلك الأيام ستكثر لقاءاتنا بأم إبراهيم التي اعتادت أن تكثر من مجيئها للبيت بعد أن بات يساورها القلق على ابنها نادر وعلى بيتها كأي أم فلسطينية، وكان نادر منهمكاً معنا في تلك الأنشطة، وفوق كل ذلك وضع بيته تحت تصرفنا كمكان للمبيت واللقاءات والعمل.

وكانت معضلة نادر لا تشبهها أية معضلة لدى أفراد المجموعة الآخرين فنحن غادرنا بيوتنا في القرى المحيطة والتجأنا لمناطق A أما هو كان يتعين عليه مغادرة المدينة إلى جبل الطور مساء كل جمعة كجزء من طقوس يوم السبت التقليدية في الديانة السامرية، وهي طقوس الزامية على جميع أفرادها، وجبل الطور يصنف منطقة C وفي هذه الحالة فإنه من المغامرة العمل في إطار المقاومة المسلحة، ومن ثم التوجه في نهاية كل أسبوع إلى جبل الطور الخاضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، وهذا يعني أنه سيجري اعتقاله وكان علينا حسم هذه المعضلة، فإقامتنا في بيتهم امتدت أكثر من شهرين، وكان نادر واقع في ورطة كبيرة فهو من جهة بات جزءاً من الدائرة ومن جهة أخرى نحن نقيم في بيته، ولم يكن أيامها لدينا بديل للبيت، وفي ذات الوقت عليه أن يلتزم بطقوس السبت الدينية الإلزامية.

وفي تلك الأثناء ظهرت أم إبراهيم بشخصيتها القوية على المسرح، ولم تكن مسرورة لما يجري في بيتها فهي تدرك معضلة ابنها وتخشى عليه التورط، وفوق كل ذلك كانت ظروف العائلة والطائفة لا تسمح بهكذا مغامرات وكانت تتشاجر معنا ثم تمضي غاضبة، وكان علينا أن نحل هذه المعضلة وقررنا التالي علينا إخلاء البيت فوراً وأن نعفي نادر من أي نشاط في إطار المجموعة لإبعاد الأنظار عنه لفترة من الزمن حتى نساعده في التوفيق بين هذه الإشكاليات ونترك الباقي للزمن.

ومضت الأيام وبعد عام ونصف جرت عملية الاجتياحات المعروفة بالسور الواقي، وأعادت " إسرائيل" احتلال مناطق A وتمكنها من قتل وأسر الآلاف من المقاومين، هذا الأمر أدى إلى انحسار الانتفاضة ولم يتبقَ سوى عشرات المطاردين الذين تركزوا في البلدة القديمة من نابلس ولم يلبث نادر أن انضم إلينا بعد أن حسم قراره نهائياً، علماً بأنه لم يتركنا لحظة واحدة طوال تلك المدة الماضية، وبقيت العلاقة معنا في إطارها السري، وهذه المرة التحق نادر بالمقاومة التي شاءت لها طريقها القاسي أن تكون شبه علنية وما يُسجل له أنه التحق بالمقاومة وهي في أصعب ظروفها ما يعكس أصالته وصدق انتماءه.

كنا في منتصف عام 2002 حين وصل إلينا نادر في البلدة القديمة، وحسم أمره وحين سألته ماذا عن طقوس السبت؟ أجابني بحسم " للثورة طقوسها" ثم أضاف " بعد كل هذا الكم من الشهداء والدمار لم يعد بمقدوري أن أقف متفرجاً ومكتوف الأيدي" وهكذا كان، بات نادر جزءاً من العمل الميداني المقاوم، وأصبح ملاحقاً من قوات الاحتلال.

 ومن هنا ستبدأ معاناة العائلة وتحديداً الوالدة "أم إبراهيم" التي عانت كثيراً في تلك المرحلة، وباتت تخضع لشروط العمل السري في لقاءاتها مع ابنها وتحركاتها ومضايقات أجهزة الأمن الصهيونية، حيث استمرت رحلة مطاردة ابنها قرابة العامين إلى أن تمكنت قوات الاحتلال من اعتقاله في آب 2004. ثم تبدأ حكاية معاناة أخرى مع " أم إبراهيم" فهي  منذ 14 عاماً تزوره في السجون من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وستتابع بقلقٍ مسلسل التنقلات والعقوبات والإضرابات التي شارك فيها ابنها بالسجون، ومع ذلك لم تتذمر يوماً وستغدو أكثر انتماءً للقيم والمبادئ التي يحملها نادر ويناضل من أجلها، تلك المرأة التي عايشت التجربة والشهداء والأسرى ومسلسل المعانيات والتضحيات، وباتت جزءاً أصيلاً من الحكاية.

وأم إبراهيم التي جمعت في شخصيتها القوى والصلابة والذكاء والمرح وروح الشباب والدعابة والأصالة كلها سمات امتزجت لتصنع هذه المرأة الرائعة التي لم تكن أماً لنا فحسب بل كانت بمثابة صديقة عزيزة لنا جميعاً طوال تلك السنوات.

أجل يا " أم إبراهيم" التقينا في الفصل الأهم من الحكاية وكنا وقتها ندفع ثمناً غالياً، وكنتِ حينها تتصرفين كأي أم، أعيدكِ يا غالية إلى الأيام الأولى للانتفاضة الثانية ولم نكن حينها قد بدأنا بعد، يوم دخلتي البيت ووجدتني أنا ونادر نتهامس، ويومها أدركتِ كل شيء وبأننا ماضيين في طريق وعرة، ومن يومها توجستِ ولم تعودي تبتسمين وأنا لا أعتب عليكِ منذ التكشيرة كلما رأيتني وأنتِ شأنك شأن أي أم تخشى على حياة ابنها، ومن يومها كثرت كبسياتكِ على البيت وتتشاجرين معنا ثم تمضين بغضب، ولكنك لم تطردينا من بيتكِ ولو طردتينا في ذلك الوقت لما لامك أحد منا، ومع ذلك لم تبخلِ علينا بالطعام، وبقي بيتكِ مفتوحاً لنا وطعامكِ الشهي كان يأتينا من الطور وهو ما يعكس طيبتكِ وأصالتكِ وذوقكِ الرفيع.

لقد حيدنا لكِ نادر لأكثر من عام ونصف ولكن ماذا نفعل إذا كان ابنك قد اختار هذا الطريق منذ البداية، جاءنا ذات صيف إلى البلدة القديمة ساخراً كعادته، وبدون أية أمتعة وهكذا ببساطة انضم إلينا من دون أي تعقيدات، فالبلدة القديمة كانت ترحب بأي ثائر في ذلك الحين، وبيت الثورة دائماً يتسع للجميع.

أيتها العزيزة، يتعين عليّ أن أذكر لكِ تلك الحادثة الطريفة التي حدثت معنا في ذات الليلة التي انضم فيها ابنكِ إلينا، يومها كنا نسهر في بيت أحد الأصدقاء في البلدة القديمة، وحين غادرنا البيت في الساعة الثانية فجراً، برز أمامنا ديك شرس ولا نعرف من أين خرج إلينا كنا حينها أنا ونادر ومنذر حين وقف ذلك الديك في الزقاق الضيق ليمنعنا من المرور وكلما حاولنا تجاوزه كلما هاجمنا بشراسة، فانفجرنا ضاحكين في تلك الساعة المتأخرة، نرفع السلاح في وجهه لكنه لم يرتدع ويبدأ بمهاجمتنا من جديد، وكانت ورطتنا كبيرة فنحن في ساعات متأخرة وسط الحي، ولا نريد إزعاجاً للناس، ومن جانب آخر كنا نخجل من أنفسنا إذا استطاع ديك أن يعربد على ثلاثتنا ويسد عن وجهنا الطريق ويمنعنا من المرور، فماذا سنفعل في هذه الحالة؟ هل سنطلق النار على الديك ونرديه قتيلاً؟ كان بمقدورنا ذلك، ولكن ليس من الرجولة أن نقتل ديكاً يهاجمنا ويمنعنا من المرور، ويا لورطتنا في تلك الليلة، كان ابنكِ يسخر ويضحك قائلاً" الديك يعربد عليكم أنتم المقاتلين، وأنا لا أتحمل أي عارٍ لأنني لم أنضم إليكم بعد" ، وكنا نضحك وتحوّل الضحك إلى استفزاز وبصعوبة تجاوزنا الديك، وفي طريق العودة سيقف الديك في طريقنا من جديد وكان أكثر شراسة فكان يركض بسرعة ويزعق كلما هاجمنا وبعد برهة من الوقت انُهك الديك وبعدها تسللنا من جانبه وتجاوزناه، لقد كانت تلك الليلة أول دخول لنادر في المقاومة، وأسميناها يومها " ليلة الديك" وآه يا غالية كنا استغبناكِ في تلك الأيام، قلت لنادر " أن أمك لن تغفر لي وستحمّلني المسئولية إن جرى لك أي مكروه" وحدث يا عزيزتي بعد عدة أشهر، حيث كنت أتمشى في السوق وكنتٍ أنت في مكان قريب تلتقين نادر أول مرة منذ أشهر، وكنتِ تحتضنيه بشوق حين تلاقت عيوننا، حاولت الهرب منكِ ولكنكِ لمحتني سريعاً وأشرتِ بيدكِ أن آتِ إليكِ وكنت حينها متسربلاً بالخجل وقلقاً من عتابكِ، أجل، أعترف كنا نخشاكِ حينها، لقد كنتِ قويةً ومتسلطةً، ولهذا هيأت نفسي بالهرب من جانبكِ، لكنني تفاجأتِ يومها بأنكِ لم تعاتبيني واكتفيتِ برجاء الاهتمام بنادر، وطلبتِ أن أعدكِ بذلك، ولم يكن أمامي إلا أن أعدكِ، ولقد كنت كاذباً في ذلك الوعد، إذ كيف لي أن أعدكِ بالاهتمام به، ونحن لسنا في نزهة، ونحن كنا في كل يوم في قلب معركة ولم يتأخر الوقت يا عزيزتي حتى دخلت الأسر، وبقي نادر والشباب يواصلون الطريق، هل تذكرين أولئك الشباب الذين ارتقوا شهداء الواحد تلو الآخر، هل تذكرين فادي وجبريل ويامن وأبو وطن وبشار والقذافي ونايف وعشرات الشهداء الذين تعرفتِ عليهم عن قرب؟، هل تذكرين وحشة تلك الأيام ومرارتها وهواجسها؟ وكم مرة خشيتِ على نادر؟، ولكنه سيدخل الأسر وستدخلين في فصل آخر من الحكاية، وقبل أن تدخل إلى حكاية الأسر يتعين عليّ الاعتراف يا غالية بشئ أخفيناه عنكِ قبل مغادرتنا لبيتكِ وبعدها، كنا طوال الإقامة في البيت نخبئ الرصاص والسلاح وأشياء أخرى داخل البيت، وسأعترف أيضاً أن رصاصة أفلتت ذات يوم من إحدى البنادق وأصابت السقف، ومن شدة خشيتنا منكِ قمنا يومها بإجراء بعض التحسينات لإخفاء مكان الرصاصة حتى لا تنتبهِ إليها، وكي لا تستغلي ذلك لتقليعنا والتشاجر معنا، وأعترف أيضاً أننا بعدما غادرنا بيتكِ كنا نستغل وجودكِ على الطور في عطلة السبت واعتدنا مساء كل يوم جمعة التسلل إلى البيت، وكنا نأتي بثيابنا لنغسلها على الغسالة وننشرها فوق السطوح، ونأكل ما نجده في الثلاجة من أطعمة كنتِ تعدينها ثم ننام في البيت، ونستيقظ عند ظهر يوم السبت، نشرب قهوتنا ونتناول طعامنا ثم نجمع الثياب وننظف البيت كي لا نترك أي أثر يدل علينا ثم نغادر البيت قبل عودتكِ المساء، فقد استمرت هذه العملية لأشهر طويلة قبل أن يتسنَ لنا شراء غسالة لغسل ثيابنا.

وإليكِ اعتراف آخر كانت نهاية العام 2001 قاسية البرودة، ولم تكن لدينا أغطية كافية وكان قد زاد عدد المطاردين في تلك المرحلة، ما اضطرنا لفتح بيت آخر وكان علينا أن نؤسسه بسرعة، وقد قمنا في ليلة واحد بالسطو على عدد من بيوت الأصدقاء ومنها بيتكِ وبالطبع بالتواطؤ مع نادر، فقد أخذنا من بيتكِ ثلاث أغطية شتوية وعدة مخدات، وعدداً من الأطباق والأشواك والملاعق والسكاكين.

أجل، أعترف يا غالية كنا نخشاكِ في ذلك الحين، وكلما تسللت إلى البيت كنا نضحك وكأننا أحرزنا نقاطاً عليكِ.

العزيزة أم إبراهيم، والآن نعود إلى الأسر، وبعد سنوات طويلة من الزيارة، وكان العام 2007 وهناك لمست تحوّلات إيجابية لقد تغيرتِ كثيراً وصرتِ أكثر قرباً منا وعندها التقينا مراراً في الزيارات، وأكثر ما أثار سعادتنا هو طريقة دخولك في قاعة الزيارة، فقد كنا نحن في قاعة الزيارة بالطرف الآخر ننتظر دخول الأهالي للجلوس قربهم، وقد جرت العادة أن الباب يفتح من الجهة المقابلة فيدخل الأطفال أولاً، ونحن نراقبهم بفرح. وأكثر ما كان يشد انتباهي أنكِ كنتِ تدخلين مع الأطفال وتركضين معهم بفرح وكأنكِ طفلةِ مثلهم، وكنا نضحك حين نراكِ تتراكضين مع الأطفال، وترتدين ثياب صبية في العشرينيات، وكأنكٍ لا تعترفين بالزمن، وكان نادر واقفاً يتأملكِ وأنتِ تدورين حول نفسكِ ثم يأخذ بالمناداة علينا لنتأملكِ جميعاً كيف تسنى لكِ أن تجمعي الطفولة والشباب والأمومة في شخصية واحدة؟ وكيف تسنى لكِ ابهاجنا في كل مرة؟ أما أمي المسكينة التي لا تعرف الفارق بين الديانات ولا تميز بين البشر كنت أسألها عنكِ، وكانت ترد " والله إنها منيحة أم إبراهيم وأنا بحبها" ثم تستدرك أمي قائلة: " بس لو تتحجب" وكنت أنفجر ضاحكاً وأرد عليها " لكنها ليست مسلمة إنها سامرية" لكن أمي ترى في الأديان أنها كلها تشبه بعضها ولا تريد شرحاً من طرفي للفارق بين الديانات.

وفي مرة أخرى جاءوا لزيارتنا في شهر رمضان وسألتها عنكِ أيضاً، فترد قائلة " والله إنها منيحة" ثم تستدرك قائلة " بس لو تحجبت" وأنا بدوري مرة أخرى أضحك وأرد عليها " لقد قلتِ لكِ أنها ليست مسلمة لها ديانتها ولديها صيام خاص" .

أجل يا أم إبراهيم لدى الأمومة تذوب الفوارق والأديان والمعتقدات ولم تبقَ سوى الأمومة الصافية التي لا تعرف إلا الانحياز والطبيعة المجردة للأمومة التي تنطوي على المحبة والحنان والعلاقات الإنسانية الصافية.

أنتِ يا عزيزتي سألتني يوماً " متى ستعودون؟" وكان يتعين عليّ الإجابة على السؤال الأصعب بإجابة تزرع الأمل وتشعل شمعة بدلاً من أن تلعن الظلام، وكنت أكتفِ بالقول "سنعود قريباً" وكنتِ بدوركِ تتشبثين بتلك الإجابة وتقبلينها هكذا منا بدون أي تمحيص.

كما مضى من الوقت علينا يا غالية ألا زلتِ تحصين السنوات، نحن لم نعد نحصِ السنوات، لقد تجمد الزمن لدينا ولم نعد نشعر بتقلباته، الأيام تمضِ مسرعة كما تتشابه، وسأبوح لكِ كيف صمم هؤلاء الطغاة سجونهم في السنوات الأخيرة، لم يعودوا يضربون الأسرى ويعذبوه تعذيباً جسدياً، كما كان عليه الحال في السابق، فقد باتت إجراءاتهم وأدواتهم أكثر سفالة ودهاء وباتت تصيب الروح أكثر مما تصيب الجسد، لقد صمموا السجون لكي يجعلونا نعيش بحكم العادة لا تاريخ لدينا في السجون ولا مقياس للزمن، فالأيام متشابهة، الإجراءات رتيبة، وهكذا جعلوا من زمن الأسر أشبه بالزمن الدائري.

وخذي أمر آخر يتعلق بالزيارات، فكما تعلمين نحن نراكم طوال تلك السنوات من خلف السجون ولو لاحظتِ لا نستخدم في هذه الحالة سوى حاستي السمع والبصر، وبهذه الطريقة سلبوا منا الحواس الأخرى، فقد حرمونا أن نشم رائحة الأمومة وعبقها، حرمونا أن نتذوق وجنات وجباه الأمهات، حرمونا أن نلمسهن وأن نرتمي في صدورهن، ومع الوقت تتغلب مشاعرنا وحين يسمحون لنا قبل بضعة سنوات بفرصة للالتقاء بالأمهات، والتقاط صورة معهن، وكن الأمهات مشتهيات بالشوق والحب والدموع، أما نحن فلا نشعر بأي عاطفة، واعتقدت أن مشاعري قد تحجرت لكن عندما احتضنتني أمي أول مرة بعد أكثر من عشر سنوات، كانت تعتصرني شوقاً وتبكي بينما أنا لا أكاد أشعر بأي مشاعر، وحين كاشفت أحد الأصدقاء ما حدث معي أجابني بالدهشة أنه حدث معه نفس الأمر، وإذ بالآخرين يؤكدون أنه حدث معهم كما حدث معنا، وهكذا اكتشفنا تلك اللعبة الشيطانية إنهم يسعون لقتل مشاعرنا ولكن اطمئني نحن أيضاً لدينا أدواتنا في التصدي لمثل هكذا ممارسات، فلقد اكتشفنا أنه لدى الإنسان قوىً كامنةً تعجز عن سبر أغوارها إجراءاتهم الجهنمية، نجهل كيف صارت أن نستورد من أعماقنا مشاعر إنسانية جليلة، وإرادة عصية على الانكسار أمام إجراءاتهم وإلا كيف كان بمقدورنا الاحتمال تلك السنوات الطويلة في الأسر، دون أن نسمح بإجراءاتهم المذلة أن تستوطن أرواحنا، وكيف تمكن المئات من الأسرى الذين أمضوا عشرات السنين في الأسر أن يعودوا لحياتهم، ويبدأوا من جديد وكأنهم لم يمضوا يوماً واحداً في الأسر، لقد هزمناهم بوعينا وتفوقنا عليهم بثقافة التعليم ونبلنا ونضالنا حتى صارت لديهم عقدة نقص تجاهنا، وهذا ليس كلام شعارات فمن يعرف خبايا عالم الأسر يدرك بعمق أن السجانين جميعاً من وزير للأمن الداخلي وحتى أصغر شرطي في مصلحة السجون لا يقارنون بحالة الرقي والشموخ والسمو الأخلاقي الذي وصل له الأسير الفلسطيني.

العزيزة أم إبراهيم لا تسأليني متى سنعود، دعي ذلك للزمن، ولكن ما أؤكده لكِ أننا سنعود مرفوعي الجباه، وشامخون مثلما دخلنا الأسر، لن نسمح للأسر أن يكسرنا أو ينال من عزائمنا مهما طالت السنوات.

ويا أمنا يكفينا فخراً أننا عشنا في ذات الزمن، وكنتِ أنتِ وعموم الأمهات جزءاً مشرقاً وجميلاً من الحكاية، لقد كانت الرحلة شاقة ومتعبة ولكنها كانت رائعة تحمل في طياتها كافة المعاني الجميلة بأفراحها وأوجاعها وآمالها القادمة، ظلي ارقبي عودتنا من المؤكد أننا سنعود ذات يوم ولا تنسي أن تتركي الطعام في الثلاجة لأننا لا زلنا نتسلل إلى بيتكِ حتى في أحلامنا وحتى في أحلامنا سنظل نخشى كبسياتك المفاجأة علينا، كلنا شوق لطلتكِ حتى لو كانت طاغية وسنظل نتوق لأصناف طعامكِ ولبيتكِ التي عشنا فيه أجمل الذكريات وشبابنا ومغامراتنا ولهفتنا وأوجاعنا وأحلامنا وآمالنا وشجاراتنا وضحكاتنا، سنعود إليكِ فقد مضى الكثير ولم يتبقَ سوى القليل، ولن أقول لكِ أنكِ كعادتكِ ستسخري مني وستشتميني ولكن ما أقوله لكِ أن ما حدث معنا يشبه أقدارنا ورحلتنا منسجمة تماماً مع أحلامنا، ولسنا نادمين على هذا الخيار مهما بلغت حدة أوجاعنا ولا أظنكِ أنكِ تقبلين لنا الانكسار في منتصف الطريق، ظلي كما عهدناكِ قويةً فرحةً ومرحةً ودافئةً واشتمينا كما شئتِ ولكن حاذري فلم نعد نخشاكِ ولكننا نحبكِ وسنظل نحبكِ. ونحبكِ أكثر من أي وقتِ مضى.

( انتهى)

بقلم/ كميل أبو حنيش (*)

·       من أبرز قيادات الحركة الوطنية الأسيرة، مسئول فرع الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال.