سوق النخاسة السياسية “إسرائيل تعتزم شراء خمسين دولة بمبلغ خمسين مليون دولار“

بقلم: الأسير كميل أبو حنيش

كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخراً عن خطةٍ تقدم بها رئيس الحكومة "بنيامين نتنياهو" بإقامة صندوق بمبلغ خمسين مليون دولار بهدف التأثير على القرارات السياسية لخمسين دولة لضمان وقوفها لصالح إسرائيل في الأمم المتحدة وفي مختلف المحافل الدولية وهذا يعني ببساطة أن إسرائيل تعتزم شراء خمسين دولةٍ بثمنٍ بخس, أي مليون دولار ثمن كل دولة من هذه الدول المفترضة, وبقدر ما يعكس هذا الإعلان درجة الانحطاط الأخلاقي والسياسي لدولة إسرائيل ممثلةً برئيس حكومتها بقدر ما يعكس أيضاً مدى احتقار إسرائيل للدول والشعوب برمتها.

لقد جاء هذا الإعلان في أعقاب تصويت الأمم المتحدة الأخير لصالح القضية الفلسطينية ورفضها لقرار ترامب الذي اعترف في القدس كعاصمة لإسرائيل, فعشية تصويت الأمم المتحدة ظهر "ترامب" بكل وقاحةٍ غير معهودة مهدداً ومتوعداً الدول الفقيرة بقطع المساعدات الأمريكية عنها في حال تجرأت وصوتت ضد الولايات المتحدة, وهو ما أدى الى امتناع عشرات الدول عن التصويت وتغيب البعض الآخر, وهذا ما اعتبرته إسرائيل انجازاً كبيراً, وبأن تهديد ترامب قد فعل فعله وهو ما شجعها أن تتخذ قرار تخصيص هذا المبلغ التافه لشراء خمسين دولةٍ مرةً واحدة.

فموقف الأمم المتحدة الأخير شكل صفعةً قويةً لإسرائيل والولايات المتحدة معاً, فإسرائيل التي تعاني من عزلةٍ عالمية وصاحبة التاريخ الحافل بالحروب العدوانية والمجازر الصديقة الحميمة للولايات المتحدة مصاصة دماء الشعوب هي ذاتها إسرائيل الصديقة الصادقة الوحيدة لنظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا, لم توفر أية فرصةٍ إلا وعبرت عن احتقارها لشعوب العالم وللأمم المتحدة ومؤسساتها, فهل تتفاخر إسرائيل بتأييدها من جانب أسوء دولةٍ عرفها التاريخ كالولايات المتحدة وبضعةِ جزرِ صغيرةٍ تسمي نفسها دولاً تدور في فلك الولايات المتحدة؟!!

فعندما تعلن إسرائيل عن اعتزامها شراء خمسين دولةٍ مفترضة بخمسين مليون دولار إنما تعبر عن مدى احتقارها للعالم أجمع واستخفافها بكافة الدول والشعوب, ومن المفارقات أن تكلفة بطارية واحدة من منظومة القبة الحديدية في إسرائيل تساوي خمسين مليون دولار, وتكلفة الصاروخ الواحد لهذه المنظومة يساوي مليون دولار, وهذا يعني أن ثمن الدولة التي تشتريها إسرائيل بمبلغ مليون دولار تساوي ثمن صاروخ واحد من منظومة القبة الحديدية.

فنظام القبة الحديدة التي اخترعته إسرائيل كان هدفه التصدي للصواريخ الفلسطينية التي يجري إطلاقها من قطاع غزة, فهل تعتزم إسرائيل الاستثمار في منظومة القبة الدبلوماسية –إذا جاز التعبير- بهدف التصدي للقرارات الدولية التي ما فتأت تتساقط فوق رأسها؟!!

وهنا نتساءل من هي هذه الدول الخمسين المفترضة التي تعتزم إسرائيل شراؤها بثمن التراب؟!! فإما أن تكون هذه الدول في حالة يرثى لها وأوضاعها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية قد وصلت الى الحضيض إلى الحد الذي يجعلها تبيع نفسها إلى هذا الثمن, وإما أن تكون إسرائيل تحتقر هذه الدول لدرجة أنها حددت ثمنا سلفاُ.

في الواقع لقد عرف التاريخ دولاً وممالك وقادة وزعماء على استعداد لبيع مواقفهم ولكن ليس بهذا الكم "50 دولة" وكذلك ليس بهذا الثمن البخس "مليون دولار للدولة الواحدة", والحقيقة نحن نشكك بهذه الإمكانية وأغلب الظن أن هذه الفكرة تعبر عن دهاء نتنياهو وحقده واحتقاره للعالم وكأنه يقول "من هذه الدول التي تتجرأ على الوقوف في وجه إسرائيل؟!! أنا على استعداد أن أشتري خمسين دولة من دول الأمم المتحدة بمبلغ خمسين مليون دولار", وهذا ما يجعلنا كفلسطينيين نحمد الله أننا نفتقد للأموال لنشتري من خلالها أصوات الدول, فهذه الدول منحازة لصالحنا وشعوبها تؤيد قضيتنا انطلاقاً من أسباب ضميرية وأخلاقية, وهذا ما يزعج نتنياهو وترامب الذين لا يريان في العالم سوى الصفقات والأموال والقوة المتغطرسة.

ومن المفارقات أيضاً أن إسرائيل أعلت قبل أيام أنها ستخصص مبلغ ربع مليار شيكل وهو ما يعادل سبعين مليون دولار بهدف التصدي لأنشطة وفعاليات الـ "BDS" المناوئة لإسرائيل, فإسرائيل ترصد هذا المبلغ لمكافحة أنشطة بضع مئات من الشبان والشابات الذين تحركهم ضمائرهم لفضح ممارسات إسرائيل العدوانية أكثر مما ترصد لشراء أصوات خمسين دولة مفترضة.

ففي لغة الاقتصاد السوق يخضع لقوانين العرض والطلب, فكلما زاد العرض انخفض السعر وكلما زاد الطلب ارتفع السعر, ونحن نتساءل هل ثمة خمسين دولة عرضت نفسها للبيع حتى يصل ثمنها لهذا الحضيض؟!! وإذا كانت المعادلة مقلوبة أي أن إسرائيل هي التي تطلب الشراء فمن المفترض أن يرتفع الثمن, أما أن تحدد إسرائيل هذا العدد الكبير للدول وتحدد سعرها سلفاً فهذه معادلة خارجة عن قوانين ومفاهيم علم الاقتصاد كما ،ها معادلة غير مألوفة في السياسة والعلاقات الدولية إلا إذا دخلنا مرحلةً جديدة بمقدورنا أن نسميها "سوق النخاسة السياسية" حيث تتحول الدولة إلى سلعة في السوق يُحدد سعرها سلفاً دون اعتبار لمواصفاتها, وليس مهماً إن كانت هذه الدولة صغيرة أم كبيرة سوداء أم بيضاء فكل الألوان تتشابه في ظلام سوق النخاسة السياسية, فهل يكون عهد ترامب مؤشراً لعصر الأمم والشعوب بالجملة؟!!

وهذا ترامب القادم إلى عرش البيت الأبيض من عالم الأعمال والصفقات التجارية لا يعترف بأي علاقات دولية تقوم على أساس المشاركة والاحترام والسلام والتضامن الأممي, ولا غرابة أنه سمى خطته للسلام في المنطقة بـ "صفقة القرن", فهو لا يرى بتحقيق السلام والعدالة والحرية أكثر من صفقة أشبه بالصفقات التجارية, وهو ذاته الذي فرض أتاوى على دول الخليج بمبلغ 450 مليار دولار وهو ذات الذي سيعمل على بناء جدار على حدود المكسيك ويجبر المكسيك على دفع تكاليفه, وهو ذاته الذي هدد بقطع المساعدات عن الدول أن تجرأت وتصدت لأمريكا في الأمم المتحدة, هو ذاته صاحب الإعلان المشئوم وهو ذاته الذي يهدد العالم بمزيد من الكوارث والحروب والمآسي, ولكن وحدها قضيتنا الفلسطينية من كانت عصية على فهم هذا الوضيع وهي وحدها من ستعجزه, وقد دهش هذا البغل القادم من أدغال رأس المال المتوحش وهو يرى شعبنا يقول له "كلا" وتوقع أن تسيل لعابنا على العشرة مليارات دولار المعروضة في صفقة القرن ثمناً لبيع قضيتنا.

أما نتنياهو الذي شرب من ذات الماء الآسن الذي شرب منه ترامب وسائر حمير السياسة في مختلف العصور الذين يحتقرون البشر ولا يرون في الشعوب سوى عبيد جاهزة للبيع والشراء في سوق النخاسة, يعرف أكثر من غيره أن شعبنا لن يساوم على حقوقه ولن يقايض وطنه بالمال ويعرف أيضاً أن العواصف والأعاصير قادمة لا محالة.

بقلم:

الأسير كميل أبو حنيش مسئول فرع الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال