شكل موقف أهلنا المسيحيين يوم أمس، وتصديهم لبطريرك الروم الارثوذكس ثيوفيلوس الثالث، ورفضهم استكمال موكبه طريقه نحو كنيسة المهد، بسبب تورطه في جرائم تسريب أملاك الكنيسة الأرثوذكسية للإحتلال الإسرائيلي، والاخذة بالإنكشاف بشكل مضطرد، بما في ذلك صفقات مشبوهة لبيع فندقي الإمبريال والبتراء الواقعين في ساحة عمر بن الخطاب في باب الخليل بالقدس المحتلة، بالإضافة إلى عشرات المحال التجارية، ومئات الدونمات من الأراضي التابعة للكنيسة، امتدادا للموقف الوطني الملتزم، والتقدمي للكنيسة في فلسطين، وفي سائر المشرق العربي بشكل عام، إذ أن دعوة الجماهير والقوى، والفعاليات المسيحية، لا سيما الأرثوذكسية منها، بما فيها المجلس المركزي الارثوذوكسي، والجمعية الخيرية الوطنية الارثوذوكسية، ولجنة المتابعة المنبثقة عن الموتمر الوطني لدعم القضية الارثوذوكسية، ومختلف القوى والمؤسسات والجمعيات والنوادي الأرثوذكسية في الوطن، إلى مقاطعة ثيوفولوس هو جزء من نضال شعبنا، ومقاومته للظلم، والعدوان، والتزوير، وسرقة الأراضي، وتشويه رسالة الأديان وجوهرها، لصالح تحقيق نزوات شخصية، وماَرب دنيئة .
للكنيسة في فلسطين دور محوري في مسيرة المقاومة والتنمية والبناء، ولأبناء شعبنا المسيحيين مواقف مشرفة في مسيرة نضال شعبنا نحو الحرية والعدالة والإستقلال، وهو الأمر الذي تنبهت له الحركة الصهيونية مبكرا، فعملت على إفراغ الأرض من أهلها المسيحيين، عبر تبني سياسات ممنهجة ، تقوم على تهجيرهم القسري، كما حدث عامي 1948، و1967، أو عبر انتهاج سياسات تقوم على حرمانهم من حقهم بالمواطنة، ارتكازا على قوانين عنصرية، تمييزية، كما هو الحال مع المواطنين الفلسطينيين في القدس الشريف، وتهيئة كافة الظروف التي تساهم في هجرتهم خارج الوطن، كما أن الذاكرة الوطنية، والثقافية، والحضارية، والفنية، والعلمية، والأكاديمية لفلسطين، لا تكتمل سطورها، ولا تستوي حروفها، دون استذكار الدور المركزي، والمحوري للفلسطينيين المسيحيين، بدءا من الفلسطيني الأول السيد المسيح عليه السلام، والقديسة مريم العذراء، مرورا بكوكبة لا تتسع صفحات الكتب لذكرهم جميعا، منهم جورج حبش، ونايف حواتمة، وكمال ناصر، وأدوارد سعيد، وحنان عشراوي، ووديع حداد، وإميل الغوري، وكريم خلف، وناجي علوش، وروز ماري، وخليل السكاكيني،وميليا السكاكيني، وجورج أنطونيوس، وخليل بيدس، وأميل توما، وأنطون شماس، وإميل حبيبي، ونعومي شهاب، ونتالي حنظل، وتوفيق طوبي، ومي زيادة، وحنين الزعبي، وسليمان منصور، والثلاثي جبران، وسيلفادور عرنيطة، وابراهيم وبدر لاما، وسميرة عزام، ونيقولا زيادة، وكلثوم عودة، وجورج أنطونيوس، وشكري حرامي، وتوفيق كنعان، وسميح فرسون، وأنيس ويوسف الصايغ، وصبري جريس، وجوزيف مسعد، وكلارا خوري، وإليا سليمان وكمال بلاطة، والمطران عطا الله حنا، والمناضل والأب إبراهيم عياد والبطريرك ميشيل صباح والأب خضر جمال، وفؤاد الطوال، ونعيم عتيق، ومتري الراهب، وإلياس شكور، وسليم منير، وابراهيم نيروز، وغيرهم الكثير.
شكلت الكنيسة الفلسطينية، أحد أعمدة النضال الوطني ضد الإحتلال، ونستذكر في هذا الإطار، عملية اغتيال الأب الشهيد فيلومينوس داخل كنيسة بئر يعقوب في نابلس ، بسبب موقفه المبدئي، وتصديه لاقامة بؤرة استيطانية في المكان على يد مستوطني الون موريه، وثورة الضرائب التي انطلقت من كنائس بيت لحم، التي شكلت مشعلا للثورة ورفض الإحتلال، والتمرد على عنصريته، وظلمه، كما أن "وثيقة كايروس فلسطين " التي وقعها قيادات الكنائس والمؤسسات المسيحية في فلسطين عام 2009 ، والتي شكلت لاهوت التحرير الفلسطيني. والتي تنص على أن "الاحتلال العسكري لفلسطين يعتبر خطيئة ضد الله وضد الإنسانية" وتطالب جميع الكنائس والمسيحيين في العالم إلى مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات اقتصادية عليها وسحب الاستثمارات منها، لإلغاء القوانين العنصرية المتخذة من قبلها بهدف التمييز ضد الفلسطينيين. في محاكاة للدعوة التي أطلقتها كنائس جنوب أفريقيا، عندما أعلنت "أن نظام الأبرتهايد خطيئة ضد الله والإنسان"، وهي ذات الوثيقة التي أكدت أن " اكدت ان إعلان ترامب بأن القدس عاصمة لإسرائيل، أزالت القناع عن وجه أميركا السياسية، فهي طرف في النزاع، ولا يمكن أن تكون الحكم، هي محطة منيرة في نضال شعبنا العربي الفلسطيني ضد الظلم والعدوان.
كما كان ولا زال للكنيسة في فلسطين، وللمسيحيين الفلسطينيين دورا بارزا في مسيرة العلم، وتأسيس العديد من المؤسسات الأكاديمية، إذ أن جامعة بيرزيت، التي غدت اليوم إحدى أبرز القلاع الأكاديمية في الوطن، تأسست على يد عائلة ناصر، وكذلك جامعة بيت لحم، التي فتحت أبوابها عام 1973، بدعم من الكنيسة الكاثوليكية، كما أن أول مدرسة نظامية في مدينة نابلس تأسست عام 1848، كانت داخل الكنيسة، يضاف إلى ذلك الدور الإقتصادي للكنيسة في فلسطين، إذ أنها تعتبر أحد أركان الإقتصاد الوطني بامتياز، إذ تشير الباحثة ديما رشماوي في بحث منشور لها، بأن 45% من العمل المؤسساتي في فلسطين هو عمل يعود لمؤسسات مسيحية، تقدم فرص عمل لنحو ما يقارب 22000 عائلة فلسطينية منها 15000 عائلة مسلمة، يضاف إلى ذلك الخدمات الإغاثية والخيرية التي تقوم بها الكنيسة باستمرار للمجتمع الفلسطيني ككل، إذ كان للكنيسة في فلسطين ولا يزال، دورا بارزا في بناء العديد من المستشفيات، وبيوت رعاية المسنين، في الناصرة، والقدس، وبيت لحم، ونابلس، وغزة، ورام الله.
المسيحيون الفلسطينيون ليسوا بأقلية، وليسوا بطائفة، إنما هم أهل الأرض الأصليين، هم شركاء الماضي، والحاضر والمستقبل، وصمودهم في الأرض، ومقاومتهم لكل أشكال التهجير، والتضييق من قبل الإحتلال، إنما هو صمود لشعبنا الفلسطيني، فالأديرة والكنائس، هي جزء أصيل من مكونات النسيج المجتمعي الفلسطيني، كما هي المساجد، والكنيسة الفلسطينية التي تتصدر الدفاع عن حقوق الإنسان، والحريات، والعدالة الإجتماعية، ومحاربة الظلم، والعدوان، والتطرف، من خلال مؤسساتها الممتدة في كل ساحات الوطن، ستبقى بأبناءها، ورموزها الوطنية والدينية، منبرا للحرية، ومقاومة الظلم والعدوان، والمحافظة على الأرض والأملاك الوطنية من التسريب، والبيع، وسيسجل التاريخ موقف أبناء شعبنا يوم امس ضد ثيوفيلوس بأحرف من نور وعزة وكرامة.
بقلم/ رائد الدبعي