"ايحتاج جرح الى شاعره ليرسم رمانة للغياب؟"
لعلّ كل فلسطيني/ة فيه شيء من محمود درويش!
أكثر من كان له حضور: المطر!
والمطر ماء، وإنسان أيضا، به نحيا، وبه جعل الله كل شيء حيا!
هو المطر قد غطت أخباره على عالم الساسة؛ فمنه نشرب والنبات، بينما لا يسقينا الساسة غير العطش!
ماذا نضيف هنا؟
- هل نكتب لنؤكد على حديث هنا أو هناك؟
- بل لتؤكد على حضورنا، فلم يعد لدينا ما نضيفه غير احتفالنا الدائم ببقائنا هنا!
حين نشر محمود درويش ديوانه "ورد أقل" عام 1986، كنت أغادر الى العشرين حين التقطت الديوان من شارع صلاح الدين في القدس، ورحت أقرأ شعرا يدفعني الى التفكير؛ فقد كان بالنسبة لي شعرا على غير العادة من الشعر المباشر الذي تهضمه معدتنا كالسكر..حتى قبل الوصول إليها.
قطع الباص بنا الطريق من "الكراج الجديد" إلى "مفرق" قريتنا الوادعة أم العنب بيت دقو غرب القدس. كان لا بد من الساعة أو أكثر من الزمان، بسبب من ينزل منه على شارع رام الله-القدس او من يصعد إليه، فإذا زاد الصاعدون قلنا: علبة السردين!
انهمكت في تأمل جانبي الطريق، وديوان محمود درويش..
"سأقطع هذا الطريق..
"سأقطع هذا الطريق الطويل, وهذا الطريق الطويل, الى آخره, الى آخر القلب اقطع هذا الطريق الطويل الطويل الطويل ...
فما عدت أخسر غير الغبار وما مات مني. وصف النخيل, يدل على ما يغيب. سأعبر صف النخيل. ايحتاج جرح الى شاعره ليرسم رمانة للغياب؟ سأبني لكم فوق صقف الصهيل ثلاثين نافذة للكناية, فلتخرجوا من رحيل, لكي تدخلوا في رحيل .
تضيق بنا الارض او لا تضيق, سنقطع هذا الطريق الطويل.
الى آخر القوس. فلتتوتر خطانا سهاما, اكنا هنا منذ وقت قليل وعما قليل سنبلغ سهم البداية ؟ دارت بنا الريح دارت, فماذا تقول؟
اقول: سأقطع هذا الطريق الطويل الى آخري..والى آخره."
ولربما يومها بدأت توقع طول الطريق!
ومن يومها، ومع كل حادثة لا تكون بوصلتها القدس، كان يتعمّق لدي وجع الإحساس بطول الطريق..
وستصير الطريق جزءا من دراستنا وفهمنا للقصيدة العربية منذ المعلقات، حيث دور الطريق في الوحدة الموضوعية التي نفيت عنها، لقصور الرؤيا. كان يمكن تأمل حال الشاعر المسافر للممدوح، لكي نكتشف الحالة النفسية للشاعر، الذي كان يحتاج زمنا للسفر، فهل تصير تأملاته في السفر بما يصف وما يحنّ جزءا آخر لا علاقة له بالموضوع!
في "ورد أقل" لدرويش، ثمة التفات لرحلة الصحراء ولربما لرحلة الشعر والشاعر العربي ووو ..والطريق!
وسيطول بنا الحال مع الطريق في السفر والرحلات، وفي عالم السياسة، منذ تأجيل قضايا الحل النهائي، وصولا لمصطلح "خارطة الطريق"..
من عام 1986، عبر سنوات الانتفاضة، إلى عام 1993، إلى عام 2003 حيث خارطة طريق لم توصل إلى اي طريق، لثقل ما تحفظ الساسة في إسرائيل عليها.
من النصف الثاني من الثمانينيات، وما قبل من سنوات الوعي الطفولي، وما بعدها من سنوات النضج والكهولة..
فمن الوعي، للأسف، على طول الطريق، فليس لديّ اليوم لأكثر فيه من الكلام غير استحضار الشعر، والواقع غير الرومانسي تماما إلا في شعارات ساستنا!
لنلخص حكاية الأمس واليوم وصولا للغد:
تأمل جرائم جنود الاحتلال المتتابعة في قتل وجرح الفتيان والأطفال، تأمل هذا الفعل المستمر فقط يدلّ على مدى انفعال العالم وردود فعل ساسته ليس تجاه ذلك فقط، بل تجاه القضية الفلسطينية، فلماذ يزداد صعودنا إلى الأشجار ابتعادا عن الأرض؟
لم تبادل الدول الكبرى لدور في ظل سعينا للبديل عن الولايات المتحدة؛ فما زالت القواعد الكلاسيكية ثابتتة، والدول الكبرة تعرف حدودها في مناطق النفوذ.
بمعنى، أنه في ظل عدم التعويل كثيرا على الدور الأمريكي، فإنه من الواقعي أيضا ألا نعول على أدوار آخرين لا يريدون أي دور، أو لعلهم غير قادرين..لماذا؟ حتى لا ننصدم!
بمعنى، كان ينبغي ترك تلك الشعرة مع الإدارة الأمريكية!
أما الأهم، فهو أن نحمي وجودنا، ففي كل مرحلة شبيهة من هذا التوتر، يقل العطاء، مما يتأثر بقاؤنا سلبا، حيث تنشغل الوزارات والمؤسسات بشكليات شعاراتية كأولويات لإرضاء الساسة، إن كان ذلك بمحاولة التأثير على دوام المدارس، أو تحرير رسائل الولاء.
وما دمنا نقرأ ما هو ظاهر وإيجابي ومما لا نعرف من نوايا الدول الكبرى، فنختار ما هو مجمع عليه عربيا ودوليا، بدون نزق، لتكون هذه القناعات مستندا لأي حراك سياسي سيستأنف.
علينا كتابة التاريخ وتعريف العالم به، ثانية وعاشرا..لماذا؟ كي نعيد الأمور إلى أصولها، أصل الحكاية، باتجاه حل حقيقي فعلا، إما دولتان بكرامة، بالقدس عاصمة، للاستجابة الأخلاقية للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، أو تطوير مقترح الليكود العنصري ليصير إنسانيا فعلا: وهو حل الدولة الواحدة للشعبين،هذا الحل الذي من خلاله تحل كل قضايا الحل النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
أما أن نحسب أننا أحدثنا فتحا سياسيا حين نؤكد يوميا ان القدس وفلسطين احتلت عام 1967؟ أو أن نحسب أننا بتصريحاتنا ضد الولايات المتحدة قد قمنا ما علينا القيام به؟ فإن ما ينفع هو يمكث في الأرض وفي بيت القصيد.
فهل نحسب ما نكسب وما نخسر خصوصا ونحن أحوج إلى كل شيء نخسره!
عمر الاحتلال طويل لكن عمرنا أطول!
بدأ منذ الاحتلال البريطاني، والذي في ظله بدأت بذوره، ولم ينته حتى الآن، ولم ينته في المرحلة الانتقالية يوما: كان يعيد الانتشار!
ونحن كنا في حالة مجازية: الانسحاب، تمن لما سوف يكون!
لنلخص حكاية الامس واليوم وصولا للغد: حتى نصل إلى وردة في رام الله والقدس والجليل:
"وما زال في الدرب درب
وما زال في الدرب دربٌ. وما زال في الدرب متّسعٌ للرحيلْ
سنرمي كثيراً من الورد في النهر كي نقطع النهر. لا أرملهْ
تحبُّ الرجوع إلينا. لنذهب هناك.. هناك شمال الصهيل.
ألم تنس شيئاً بسيطاً يليق بميلاد فكرتنا المقبلهْ؟
تكلم عن الأمس، يا صاحبي، كي أرى صورتي في الهديلْ
وأُمسكَ طوقَ اليمامةِ، أو أجد النايَ في تينةٍ مهمله..
حنيني يئنُّ إلى أي شيء ، حنيني يصوّبني قاتلاً أو قتيلْ
وما زال في الدرب دربٌ لنمشي ونمشي. إلى أين تأخذني الأسئله؟
سأرمي كثيراً من الورد قبل الوصولِ إلى وردةٍ في الجليلْ."
"ورد أقل": لربما يومها بدأت توقع طول الطريق!
ويومها بدأت مرحلة أخرى من التفكير والكتابة..
فكيف عاش شعبنا منذ آلاف السنين؟ وكيف قاوم الغزاة؟ لنقرأ كيف كنا مبدعين في البقاء في حروب الفرنجة مثلا؟ رحل الغزاة وبقينا!
شوكة في حلوقهم نظل؛ فانظر يا صاح وتأمل ودقق كيف أن الإسرائليون لم يهنأوا حتى بإعلان ترامب؟ أيحتفل خائف؟ وسارق؟ وغاز؟
لنعد الزاد والزوادة!
ولا تحتاج شمس الغروب إذنا لترسم برتقالة عند المغيب!
ألم أقل: كل فلسطيني فيه شيء من محمود درويش!
تحسين يقين
[email protected]