فدوى وإبراهيم

بقلم: تحسين يقين

لعل الحديث عن التفتيش عن الوطن والهوية في الكتب المدرسية يقودني لسنوات طويلة تم إسقاط فلسطين منها؛ لكننا استطعنا النفاذ إليه، والبقاء فيه، فكان جيلنا هو جيل الانتفاضة الأولى الذي تم الرهان عليه بغير ما أراد..
صغارا وجدنا الطريق الى الوطن..وها هم الأطفال يجدونها..
ذكرها في مئويتها يعني ذكره، هما معا كانا وسيظلان طويلا!
وهما جزء من تكويننا الثقافي والإنساني.
لم نكن قد قرأنا لها قصائد في المقررات المدرسية، في السنوات من 1973 حتى 1985؛ فعلى مدار 12 عاما، ضاقت كتب اللغة العربية ولو بقصيدة واحدة لها، وبالكاد حظي إبراهيم بقصيدة واحدة يتيمة لا ثاني لها بعنوان ملائكة الرحمة، الشهيرة بمطلع : بيض الحمائم حسبهن إني أردد سجعهن.
فماذا يفعل الأطفال، الذين كل مصادرهم الأدبية الكتب المدرسية!
أما أنا وقد سمعت من أبي رحمه الله وهو يتحدث عن إبراهيم طوقان شاعر فلسطين الكبير، الذي لربما سمع عنه شيئا أو قرأ له نصا وهو طالب في المدرسة الرشيدية في القدس، أو اطلع على قصيدة له في جريدة أو مجلة مقدسية، فقد رحت أبحث في الكتب القديمة، وأسال الأكبر منا، الذين كانوا يوما في المدارس قبل حرب عام 1967. وقد قادني البحث لقصيدة الفدائي لإبراهيم، المنشورة في الكتب المدرسية الأردنية التي كانت مقررة على طلبة ضفتي نهر الأردن.
 هناك نفضت الغبار عن كتب أبناء خالتي، كان يوما ثمانينيا، حين قرأت عن حياة الشاعر، وكم حزنت أن هذا الشاعر لم يعمّر طويلا، وفوجئت أنه قد توفي قبل 4 عقود!
كنت فتى صغيرا، حين رحت أردد كلمات القصيدة، فحفظتها اختيارا رغم كراهيتنا لحصص المحفوظات، التي كنا نواجه فيها مسؤولية الحفظ والتشكيل ناهيك عن حيائنا كصغار، الذي كان يؤثر سلبا على الاستعادة، خصوصا أمام قلم معلم ينتظر الخطأ بسرور!
أما أحد الطلبة فقاده الحظ للمنبع، فإذا به يحمل ديوان إبراهيم طوقان، وقد أطل علينا بابتسامة مريبة ومغرية:
-         تعالوا اقرؤوا!
-         ..................
-         أحلى قصائد الغزل والحب..!
لم يكن غريبا علينا تلقي خبر غزليات شاعر عرفناه عن وطنيته قبل أيام، لعلها أسابيع؛ فما ملائكة الرحمة رغم وفائه لأياديهن البيضاء بالرعاية إلا تغزلا ببيض الحمائم، اللواتي يرفلن بقمصانهن البيضاء كما يليق بالممرضات، أكن في نابلس أو القدس أو مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث تلقى تعليمه العالي.
لكن لعل الزمان يجود أحيانا، حيث احتفلنا جميعا هنا على جانبي النهر بالمسلسل الدرامي الأردني الذي حمل اسمه، حيث انطبع في الذهن مشهد الفنان المقدسي محمد القباني وهو يقوم بدور الشاعر،  حتى حانت قصيدة:
لا تسل عن سلامته روحه فوق راحته
وهي قصيدة اشتهرت كقصيدته: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
وهكذا عاش أبناء صفي، وطلبة آخرون وأهالي قصة إبراهيم طوقان بدءا بمدارج الطفولة بنابلس القديمة إلى المدن والعواصم العربية، بما في القصة من سيرة ذاتية له ولأهله ولنابلس وفلسطين. وما فيه من ذكر وتمثيل لفدوى أخته.
لا شك أن القائمين على ذلك المسلسل اجتهدوا بما استطاعوا، كنا فتيانا وقتها سنة 1984... لكن حين أمكننا مشاهدة بضع حلقات فيما بعد، كان للمشاهدة تأثير آخر، لربما تجاوز احتفاءنا بذكريات الطفولة ليس إلى المساءلة والتقييم، فيما لا مجال له الآن، بل في مدى إمكانية إنتاج ميلودراما عن أعلام من مختلف المجالات.
عندما كبرنا قليلا واستطعنا الوصول الى المصادر الأدبية، شعرنا أن ما عرفناه في المدارس كان نزرا قليلا ليس عن إبراهيم طوقان فقط، بل عن فلسطين أيضا، وفيما بعد، وبالرغم من كوني طالب أدب عربي، لك يكن عجبا أن يشكل التاريخ الكتلة الورقية الأكبر في مكتبة البيت.
ستقفز هذه الذكريات يوما شتويا في وسط القاهرة، عام 1990، حين تم تكريم الشاعرة فدوى طوقان في أسبوع فلسطين، في مسرح الجمهورية، حيث قام وقتها أبو عمار بتكريم كوكبة من مبدعي/ات فلسطين.
بعد الانتهاء، تجمعنا خارج المسرح، وكان معنا زملاء من نابلس، حيث ما خرجت الشاعرة حتى تحلق أبناء مدينتها ووطنها حولها، ولن أنسى تلك الشخصية الساحرة لغة ونطقا. كنت مبتسما فرحا لرؤيتي هذه الشخصية المشهورة، التي دخلت بيوتنا جميعا وقلوبنا عبر كلماتها، فباتت تجمعنا جماليا وفكريا ووطنيا وإنسانيا.
تحدثت معهم بلطف، وحنان، وكأنها قد عرفت بعضهم، وكانت فرحة بنا جميعا، مبتسمة بوقار وحنان وحياء عجيب.
سأعود من جديد إلى ذكريات المدرسة والجامعة فيما بعد، عندما أشاهد فيلم "فدوى شاعرة من فلسطين" عام 2000، لليانة بدر الكاتبة الروائية التي طرقت باب الأفلام:
تطل علينا الإنسانة والشاعرة معاً لتحكي لنا قصتها، مع الحياة، ومع الشعر، تقول فدوى: إن المكان يستحضر الزمان، وهي بذلك استحضرت لنا الإنسان، بحدوده الزمانية والمكانية، وتركتنا نسبح في فضاء غير محدود من الفن النبيل.
وهي تتحدث عن نفسها كإنسانة بسيطة لا تعرف تاريخ ميلادها على وجه التحديد رغم انتمائها لعائلة عريقة، ومن خلال الحديث عن الحياة تتحدث عن الشعر وعن أخيها إبراهيم معلمها الأول، ثم ليصبح حديثها لاحقاً حول الفن والحياة متشابكاً، فإذا تحدثت عن الشعر فكأنما تتحدث عن الحياة، وإذا ذكرت أحداث الحياة الشخصية والوطنية كان الشعر.
تحدثت عن أمانيها البريئة في الفن كوسيلة للحرية، فهي حلمت يوماً أن تكون مغنية أو راقصة وهي طفلة لأنها رأت أن ذلك النموذج البشري الاجتماعي يملك الحرية، أما هي فقد امتلكت حريتها عن طريق الشعر. تصف لنا الأفراح أيام زمان، وتصف الحمام العربي بطريقة مثقفة مهذبة، وتعرج على طفل كان قد لحقها وهي ذاهبة للمدرسة ومن ثم ليمنعها أخوها يوسف من الذهاب للدراسة، ثم تتحدث عن علاقتها بإبراهيم طوقان والشعراء في ذلك العصر، ثم النشر، ومتعة النشر في الدوريات العربية خصوصاً المصرية، تذكر أولى المحاولات والقصائد التي لها ذكرى خاصة والأسماء المستعارة للقصائد الغزلية، وتوضح ببساطة الأسلوب الوطني عند إبراهيم وميلها الإنساني، مرجعة ذلك لأسلوب الحياة السائد وبعد المرأة عن الحدث السياسي. تحدث عن بعض المحطات التاريخية، النكبة، النكسة، عبد الناصر، العدوان الثلاثي، رحلتها إلى الخارج، خصوصاً إلى بريطانيا، موت إبراهيم وعبد الناصر. تحدثنا عما نعرفه، ولا نعرفه، إلا أنه في الفيلم يبدو جديداً نابضاً بالصدق والطمأنينة والتأمل.
في المقابل فإن شبابيك ليانة – فدوى، ولعبة الظل والنور ساعدتنا في اضفاء الحياة على الفيلم، في الإيحاء، وخلق الشعور، وفي أكثر المشاهد نرى فدوى بالقرب من أحد الشبابيك، كأنها تطل على الدنيا والأدب والناس، والنور، حيث أنها أريد لها أن تعيش في العتمة إلا أنها أصرت على الضوء.
ولأن الضوء مكون من ألوان الطيف المتعددة فقد رأينا أن رحلة فدوى عبر الفيلم، بمحطات حياتها المختلفة قد واكبت ألوان الطيف، وبسبب هذه التجربة الخصبة، فقد أمكنها أن تنضج فنياً وأن تضيء، لذلك راعت المخرجة وكاتبة السيناريو ضرورة وجود الحالة اللونية الجمالية مسقطة على صفحة الماء الزرقاء ألواناً متعددة، وورودا كذلك، فعند ذكر الطفل والمدرسة كانت وردة الفل الأبيض: وكان في الموجة الحمراء مذكرة بـ "قصيدة الثلاثاء الحمراء" وإعدام الإنجليز ثلاثة شبان في فلسطين: كذلك ثمة تصرف بأوراق الشجر الأخضر والجاف الساقط على الأرض والماء، والفقاعات وصوت المطر، وصوت أم كلثوم، وموسيقى بشار جاءت ضمن هذا السياق الجمالي – الطبيعي.
في حين رأينا قنديلاً أسود على شجرة دون ورق في إشارة لموت إبراهيم طوقان، ثم إشارة سوداء أخرى لموت جمال عبد الناصر.
كما أن درامية الفيلم/ حياتها، تسارعت في النهاية، فكثفت الشعور بكل من الحب والوطن والرحيل، والتصوف الإنساني:
آن أن تستريحي وتلقي عن المنكبين غبار السفر/ كفاني أموت على أرضهم/ أبعث زهرة..
وحديثها عن الحب، وأهميته للإنسانية، والوطن الذي ظهر لنا كإنسان من لحم ودم وشعور، وربما نقول أن بعض القصائد التي رددتها فدوى، أو قالت بعض مقاطعها مثلت بصورة غير مباشرة جزءاً عذباً من موسيقى الفيلم.
هما، فدوى وإبراهيم جزء حميم وغال من تكويننا..
"وها أنتم كصخر جبالنا قوَّه
كزهر بلادنا الحلوه
فكيف الجرح يسحقني ؟
وكيف اليأس يسحقني ؟
وكيف أمامكم أبكي ؟
يميناً ، بعد هذا اليوم لن أبكي !
...........
على طُرقُاتكم أمضي
وأزرع مثلكم قدميَّ في وطني
وفي أرضي
وأزرع مثلكم عينيَّ
في درب السَّنى والشمسْ
أما التفتيش الذي كان أمس، والذي يتكرر اليوم وغدا، فلن يفيد، سيستطيع أطفال فلسطين الوصول إلى إبراهيم وفدوى...
 
تحسين يقين
[email protected]