التعليم الحميري !

بقلم: حسن عطا الرضيع

في التراث الكنعاني القديم يُعتبر الحمار مثالاً للتحمل والصبر والجلد وأله التحدي وقيادة المسيرة دون أية مغالطات , ومواصلة المسيرة دون أي انحراف يّذكر, أخبرني صديقي أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات قال فى نهاية احدى خطاباته في الثمانينات " شوفوا حمار ثاني يُكمل المسيرة", أي قاصداً أن الحمار في التراث الكنعاني يُقصد به التحمل والصبر والاستمرار في العمل والسير باتجاه مستقيم دون أية انحرافات أو حتى انحناء نحو جهة اليمين أو اليسار في كناية عن ثقل القيادة وتعقيدات القضية الفلسطينية.
لكن هل يوجد تأصيل نظري للتعليم الحميري, وهل يمكن إطلاق مصطلح التعليم الحميري على بعض التجاوزات في التعليم العالي أم لا , وهل يوجد علاقة بين المفاهيم الحميرية السائدة في التعليم وبين تراجع مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلد ما, وهل يوجد قائد يعتبر الحمار قدوة له بالمفهوم الاقتصادي والتنموي في إشارة لقدرة السياسي والقائد في كبح جماح الفقر والقتال الشرس لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمفهومها الشمولي, يحاول هذا المقال التطرق إلى بعض أشكال التعليم الحميري في بعض الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة والتي ترفع شعار " زورنا تجدوا ما يسركم ", وهي عبارة عن شواهد مادية عن بعض الانحرافات التي ترافق التعليم العالي, ورغم اعتبار بعضها بأنها أمور هامشية ولا قيمة لها, إلا أن الاتجاه العام هو زيادة درجة الانحراف عن الجوهر الذي وجدت من أجله الجامعات_ وهي تنمية القدرات وتحقيق تكافؤ عادل للفرص_ وبرامج الدراسات العليا والبحث العلمي على وجه الخصوص.
عندما يكتفي المحاضر الجامعي بالقول " أن التضخم هو الارتفاع المستمر والملموس في المستوى العام للأسعار" دون أن يشرح بعمق لجذور التضخم ومسبباته الظاهرة منها وكذلك الأسباب الخفية كوجود آليات تعمل بشكل خفي دون الاحتكام لسنة الرأسمالية الكونية المتمثلة في ديناميكية العرض والطلب, أو وجود إدارة تتحكم بالتسعير كأداة لإعادة توزيع الدخل والثروة لصالح فئة معينة هم كبار الشركات والمنتجين وللخروج من الأزمة الاقتصادية, ومنع صعود معدل الربح للأسفل على المدى القصير", وعندما يقول " أن هناك علاقة عكسية بين البطالة والتضخم, ونادرا ما يسير الركود والتضخم معاً في علاقة طردية" , اذا اكتفى بذلك دون تفسير أسباب الركود التضخمي ولماذا لا زال يتربع على عرش الأزمات والتحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي, وما هي الأسباب الرئيسية وراء تلك الأزمة, ولماذا يتفاقم مع مرور الوقت" توأم السوء" (البطالة, الفقر) رغم ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي , وعندما يكتفي ذاك المحاضر بالقول " يوجد علاقة طردية بين النمو الاقتصادي وعدالة التوزيع", دون وضع انتقادات للنظريات الاقتصادية والإيمان بعدم وجود ثبات لأي متغير في الحياة الاقتصادية, ما قصدته أعلاه أن عدم فهم التأصيل النظري والتطور التاريخي للنظريات الاقتصادية أو أي قضايا شائكة يعتبر بمثابة شكل من أشكال التعليم الحميري , أي نقل المعارف بشكل لا يتناسب والظاهرة قيد الدراسة, وهذا السبب الرئيسي للنسبة المحدودة جداً في أعداد الباحثين والناشرين والابتكارات في الوطن العربي قياسا بإسرائيل والغرب, إن ذلك يعني أن هناك ضرورة للبحث عن مصوغات قانونية لاسترداد جزء من الرسوم الدراسية التي يدفعها طلبة الدراسات العليا في جامعات غزة الربحية, بسبب عدم توفر فرص عمل بعد التخرج وعدم ملائمة مخرجات برامج الدراسات العليا لمتطلبات سوق العمل من جهة , وارتفاع سعر الرسوم من جهة أخرى قياساً بدول الجوار, منها مثلاً: رسوم الرسالة وهي عبارة عن متطلب استكمالي للحصول على درجة الماجستير, وتشكل سُدس المقررات المطروحة (6 ساعات)؛ حيث يتراوح ثمن الرسالة من 1500-2000 دينار, أي ما يقرب من 2100-3000 دولار أمريكي.
بعض الجامعات في أوروبا تعيد 40% من الرسوم للطلبة الخريجين في حال عدم تمكنهم من الحصول على فرصة عمل, وعندما يقرأ خريجي الدراسات العليا العاطلين عن العمل أن هناك جامعات في أوروبا تُعيد جزء من الرسوم للطلاب بسبب عدم توفر فرص مل فإن لسان حالهم يقول : " هاتوا الفلوس إلا عليكم!
ربما يلوح في الأفق التفكير بدراسة نقدية فاحصة لواقع التعليم الحميري في بعض التخصصات في الجامعات الفلسطينية, أي أن يتم نقل المفاهيم الحميرية للطلاب بدلاً من المفاهيم العلمية والتعليمية الموزونة, ومن تلك المفاهيم التالي:
- أكاديمي فلسطيني في إحدى أكبر جامعات قطاع غزة وبرتبة رئيس قسم, يُجري مكالمة هاتفية مع أكاديمي أخر يعمل بنظام " العمل بالساعة- غير متفرغ"؛ مفاد الاتصال التالي: " السلام عليكم, يسعد مساك دكتورنا وتاج راسنا, بدي منك أن تضع للطالب فلان الفلاني علامة 95 %, رفض الدكتور ذلك الطلب, لأن الطالب في أحسن الأحوال لم تزيد درجته عن %80, هذا مثال حي لنموذج التعليم الحميري في جامعات غزة, إذ أنه وفي حال حصل ذاك الطالب غير المتفوق على درجة 95% بدلاً من 80% في عدة مساقات وبمكالمة جوال, يعني أنه سيحصل على درجة الامتياز, وربما سيكون لاحقاً عضواً في الهيئة التدريسية, ومن جهة أخرى سيأخذ مكان شخص آخر ربما سهر الليالي واجتهد ولكن لعدم وجود واسطة أصبح خارج سوق العمل, ماذا سينقل الخريج _الذي تفوق بسبب الواسطة وتدخل رئيس القسم_ لطلابه مستقبلاً, سوى بعض ما تعلمه من مفاهيم حميرية في بعض المساقات التي درسها مسبقاً, والتي حصل على الامتياز في بعضها بسبب علاقة جيدة مع الدكتور من جهة , ولاستمرار ديكتاتورية الجغرافيا التي تتعزز باستمرار في الجامعات الربحية, ويظهر ذلك جلياً عند توزيع أعباء المواد التدريسية بنظام الساعة, أحد المعايير الرئيسية هو : الانتماء السياسي, مكان السكن, العائلة, حق المرأة في العمل, البزنس والمصالح المشتركة وغيرها من المحددات المفسرة لظاهرة التعليم الحميري في قطاع غزة.
- بعض الجامعات الربحية فى قطاع غزة تُركز على العائلات الكبيرة, فمثلاً بالإمكان تشغيل خريجي دراسات عليا من عائلة x بنظام الساعة, مقابل أن يقومون بالترويج لتلك الجامعة, وإقناع خريجي الثانوية العامة من تلك العائلة وغيرها للتسجيل بتلك الجامعة, وفى المقابل يقول أحدهم؛ لقد وصلنا إلى درجة انحطاط تعليمي, لدرجة أن بعض الجامعات تُطلب من الأساتذة والأكاديميين المشهورين إقناع طلبة الثانوية العامة للتسجيل بالجامعة مقابل 20 دينار مكافأة عن تسجيل كل طالب.
- في مناقشة رسالة ماجستير في احدى الجامعات, يُعقب المنُاقش الداخلي على إحدى فصول الرسالة قائلاً: لفت انتباهي اليوم وأنا قادم إلى الجامعة أن هناك بعض المتغيرات الاقتصادية بحاجة إلى تفسير, لقد لاحظت تلك الملاحظات اليوم وأنا بالسيارة , أي أنه لم يقرأ الرسالة مسبقاً رغم حصوله على نحو 100 -150 دولار أجرة للنقاش, هذا يعني أن الدكتور الذي جاء ليناقش رسالة الماجستير قد قرأها قبل النقاش بدقائق, تلك الدقائق هي مسافة خروجه من البيت بالسيارة ولغاية الجامعة ؟ ألا يُعد ذلك شكلاً من أشكال التعليم الحميري !
- دكتور جامعي مُكلف بإعداد دراسة لمؤسسة دولية / محلية لا فرق, مدفوعة الأجر أو بالمجان, يقوم بتكليف طالب ماجستير بالعمل, مستغلاً بذلك وضع الطلبة أثناء الدراسة, وإخداعهم بإمكانية حصولهم على الامتياز والعمل في الهيئة التدريسية فور التخرج, تلك الدراسة حول الوضع المالي للبنوك العاملة في فلسطين وعددها 18 بنكاً.
ماهية الدراسة: جمع سلسلة زمنية لنحو 18 بنكاً, وتتكون السلسلة من 57 متغير ولمدة 8 سنوات .
18 بنك * 57 متغير * 8 سنوات = 8,664 رقم مالي .
أي أن الدكتور قد استغل الطالب لجمع 8,664 رقم مالي, وعلى افتراض أن كل رقم مالي يحتاج لنصف دقيقة ما بين البحث والكتابة , فإن "الطالب الضحية" يحتاج لنحو 75 ساعة عمل, أي قرابة 12 يوم عمل بواقع 6 ساعات متواصلة.
النتيجة: حصل الدكتور على أجرة البحث في حال كان بحث مدفوع الأجر بالدولار أو اليورو لا فرق , وعلى الترقية بعد سنوات ليصبح أستاذ دكتور (بروفيسور) , وحصل الطالب على اعتراف سخي من الدكتور عندما أخبره " والله مُقدر تعبك وجهدك صديقي ".
عن غياب الأخلاق والمهنية عند تكليف الدكاترة بإعداد دراسات لمؤسسات وطنية ودولية مدفوعة الأجر أو بالمجان, ويقوم بإعدادها الطلبة سواء ماجستير أو بكالوريوس !, وهنا يمكن القول أن هناك سريان لنظرية فائض القيمة!
- في الكثير من مناقشات رسائل الماجستير, يركز المناقشين لرسائل علمية في العلوم الإنسانية, على أمور هامشية كمكان الفاصلة والفاصلة المنقوطة, وحجم الفقرات ونوع الخط, ذات مرة تم إعادة رسالة ماجستير في الاقتصاد بجامعة الأزهر لأن مُعدها قد استخدم Times New Roman كنوع للخط بدلاً من Simplified Arabic, ولأن عدد صفحات الرسالة قد فاق أل 200 صفحة, وبعد النقاش تم نشر الرسالة بشكلها الأول , أي قبل الحذف وتغيير نوع الخط دولياً , وإتاحتها عبر مواقع التسوق الدولي, يبتعد الكثير من المناقشين في نقاشاتهم العلمية على جوهر الموضوعات قيد الدراسة, فنقاش رسالة تتحدث عن الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها على أسواق المال, يتمحور النقاش حول هل يوجد نظام اشتراكي أما لا, وهل يوجد نظام اسلامي أم لا, ولم يتم النقاش حول مسببات وجذور الأزمة المالية العالمية وعلاقتها بعولمة الأسواق.
- بعض الجامعات في قطاع غزة تقوم بكتابة اعلانات لشغل شواغر " تدريس بنظام الساعة", يتقدم لها الكثيرين ويقدمون الاوراق الثبوتية, ورغم ذلك فإن إدارة الجامعة تختار المدرسين بدون اختبار أو مقابلة, بينما لا يتم الاتصال بالمتقدمين الأخرين, في بعض الجامعات تم تعيين خريج بكالوريوس أو دبلوم لا فرق لتدريس عدة مساقات بينما لم يتم اختيار متقدمين حاصلين على الدكتوراه في نفس التخصص.
- تقوم بعض الجامعات بطرح تخصصات جديدة ولا يوجد لها مجالات للعمل في قطاع غزة, ومنها تخصص "فني سمعيات", حيث يشير خريجي هذا التخصص, أنهم عندما توجهوا للجامعة وسألوهم لماذا سعر الساعة 25 دينار, فأجابت الإدارة : ثمن الساعة ليس مرتفعاً, لأنكم ستشتغلون فور تخرجكم, بعد التخرج لم يجد خريجي فني السمعيات على فرص عمل, والأهم عدم حصولهم على مزاولة عمل من وزارة الصحة لعدم اعترافها بالتخصص, في سلطنة عمان كان هناك شواغر لوظيفة فني سمعيات, وكانت المفأجاة أن التعليم العالي الفلسطيني لم يعترف بتخصص فني سمعيات مما منع أحد الخريجين من الحصول على وظيفة عمل بالخارج.
ما يجب قوله : أن الفلسطينيين لا زال بحاجة إلى قدوة لتحمل المصاعب والمتاعب والجلد, كذلك يحتاج التعليم العالي إلى نشر المفاهيم الموزونة بعيداً عن نقل المفاهيم الحميرية , فعدم وجود تعليم حميري سيرافقه نمو في قطاع التعليم والبحث العلمي وهو أحد أبرز مصادر النمو الاقتصادي.

حسن عطا الرضيع