مَحبَس الزواج الحيفاوي يُبعَثُ حيا

بقلم: علي بدوان

الحجة أم العبد (لطفية قاسم عابدي)، الفلسطينية الحيفاوية، الأصيلة، بنت الوطن والبلد، مواليد حيفا 1926، أطال الله بعمرها. لم تُزدها سنواتِ التهجيرِ والنكبةِ الطويلةِ، إلاّ أصالة على أصالة، وانتماءاً فوق إنتماء، لفلسطين الوطن والشعب.

رغم سنواتِ عمرها المديدةِ، ورغم نكبتينِ كبيرتينِ : نكبة العام 1948 والخروج من دارها من مدينة حيفا، شارع الناصرة، وبقاء وصمود عائلتها الكبيرة حتى الآن في وادي النسناس، ونكبة فلسطينيي سوريا عام 2012، تسترجع الآن، وكل يوم، ذكريات الوطن الفلسطيني قبل النكبةِ الكبرى، ويوميات الترانسفير والتهجير العرقي الذي وقع بحق الشعب الفلسطيني.

ذاكرتها، حيّة، لم تَخدشها أو تَعطُبَها السنواتِ الطويلةِ، فبقيت ذكرة مُرهفة، متوقّدة، وحساسة، لم يفلت منها شيء حتى الآن، بل بقيَ مخرونها الهائل متراكماً دون ضياعٍ، ودون نسيانِ، ودون هفوات. 

الحجة أم العبد، تحتفظ الى الآن بخاتم (مَحبَس) وأساور الخطبة والزواج، التي تم شراءها عند خطوبتها وزواجها في مدينة حيفا عام 1943. خاتم الزواج الذهبي عيار 21، وزوجِ أساورها الذهبية، العتيقة، المجدولة، والتي كانت تُعرف في فلسطين باسم (الجَدلة). سعر الخاتم جنيهان فلسطينيان (ليرتان)، وسعرِ كلِ إسوارةٍ (كلِ جدلة) 20 جنيهاً فلسطينياً. والمهر 2000 جنيهاً فلسطينياً.

الحجة أم العبد، مازالت تحتفظ في ذاكرتها، محل الصايغ (الجوهرجي) العجمي الشهير في مدينة حيفا قبل النكبة، الذي اشترت من عنده ذهب الزواج والعرس، برفقة والدتها المرحومة (خيرية نايف الحاج) التي توفيت في حيفا أواسط تسعينيات القرن الماضي، وشقيقة زوجها المرحومة (فاطمة عبد الرحمن بدوان) التي توفيت في عمان/الأردن عام 2010.

كان محل الصايغ (الجوهرجي) العجمي في حيفا قبل النكبة، يقع في شارع اللنبي، قرب ساحة الحليصة (حالياً ساحة باريس)، قريباً من شارع الملوك، وجوار البور.

الحجة أم العبد، وفي سردِ حكايةِ مَحبَسها الذهبي، تَستَرجِع، وتُلخّص، عَبرَ ذاكرتها الحيةِ، حياة الناس في حيفا قبل النكبةِ، فمازالت تَذكر (الشيخ الخمرة) الذي كَتَبَ كتابها الشرعي قبل تسجيله في سجلات حكومة فلسطين، والشيخ الخمرة من أعيان ومشايخ مدينة حيفا، كان بيته قائماً قرب جامع الإستقلال، بجوار (ساحة الجرينة)، وقد لجأ بعض أبنائه وأحفاده عام النكبة الى سورية، ومنهم المرحوم عبد الواحد الخمرة (أبو مازن) المعروف لأجيالنا في مخيم اليرموك بحكمِ عمله في سلكِ التدريس في مدارس وكالة الأونروا في مخيم اليرموك، وتحديداً في مدرسة النقب لسنواتٍ طويلة.

القديم، والتراثي، ومايحمله عبق ورائحة فلسطين، يتحوّل لدينا نحن فلسطينيي الشتات، إلى آيقوناتٍ نتوق إليها، ويستمر إعجابنا بها، لما تُثيره في نفوسنا، من أشجانٍ وأشواقٍ، ولما تُشدَنا اليه من حنين لوطن أسمه فلسطين، عاش ومازال في أفئدتنا ودواخلنا.

لم، ولن، يتجدد انبهارنا بالقديم لقدمهِ فقط، فالقديم لن يعود إلينا طبق الأصل، لكن إنبهارنا به لما يحمله من معانٍ، لها علاقة بالوطن، وبفلسطين التي فقدناها في غفلةٍ غادرةٍ من الزمن. ولما يحمله لدينا من إصرارٍ كبير على مواصلة الطريق الصعب نحو العودة لوطننا الأزلي فلسطين.

القديم يتعرض لقيظ السنين، وصقيعها، ولزحف تضاريسها، ونكساتها، ولخيانات الدهر والبشر، لكننا في فلسطين الداخل والشتات، نُعيدَ له المعنى والمبنى، فلا يتغيّر وإن تغيّر، نستعيد القديم لنحيي الحاضر، ولنحيي الأمل، بفلسطين الحلم والوعد الآتي وإن طال الزمن.

الحجة أم العبد ستُهدي مَحبَس (خاتم) خطبتها وزواجها، الحيفاوي الفلسطيني، الذي إبتاعته من محل (الجوهرجي) العجمي قبل نحو (75) عاماً، لحفيدٍ جديد من أحفادها بات قريباً من الزواج، ولتضعه أمانة بين يديهِ ويدِ عروسه، ليعود الحفيد الى أرض فلسطين والى مدينة حيفا ومعه مَحبَس (خاتم) وأساور الحجة أم العبد.

بقلم/ علي بدوان