يكاد المشرق العربي الممتد ما بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، حتى لا ننسى اليمن، يغرق في طوفان من دماء أهله.. أما الجانب الآخر لهذا المشرق فحديثه مرجأ، مؤقتاً!
تتكاثف أسئلة القلق حول مستقبل هذه المنطقة ذات الأهمية الاستثنائية، ومصائر شعوبها (ودولها) بالأكثريات فيها والأقليات، بالنظم السياسية المتهالكة ومدى صلاحيتها لأن تكون في المستقبل، بعد سقوطها أو تهاويها المدوي في ميادين الحرب الأهلية أو في الطريق إليها.
والحروب التي تفجرت بفعل فاعل والتي لبعضها أسبابها الداخلية، ما كانت لتتطور وتتمدد مهددة الكيانات التي اصطنعت على عجل وفي غياب أهلها قبل مائة عام، لو أن الأنظمة القائمة ممثلة بطبقاتها الحاكمة، بقوة الأمر الواقع قد جسدت في الماضي أو هي تجسد الحد الأدنى من مطامح شعوبها، وتتمتع بالحد المقبول من الشعور الوطني والكفاءة السياسية.
في ظل هذه المخاطر المصيرية التي تهدد الحاضر والمستقبل، تتابع الطبقة السياسية في لبنان عبثها إلى حد المقامرة بمصير هذا الكيان ونظامه الفريد.
لا يتصل الأمر بانحياز بعض هذه الطبقة إلى هذا المعسكر أو ذاك من المعسكرات المصطرعة بالمصالح وعليها في منطقتنا، وهي انحيازات لا علاقة لها بالإيديولوجيا أو بالعقائد فضلاً عن الدين ومذاهبه.
فالطبقة السياسية اللبنانية رضعت الانتهازية وتدرَّجت في مدارسها منذ نعومة أظفارها، التي باتت الآن مخالب، وتدربت على انتهاز الفرص واغتنام الأزمات كاستثمارٍ مُجزٍ. وهي في هذا المجال لا تعرف التعصب أو الثبات على المبدأ الذي يوازي الغفلة أو التحجر أو الغربة عن الواقع… بل إنها مدربة على سرعة التقاط اللحظة المناسبة، والذكاء في صياغة مبررات التحول وإدانة الجمود باعتباره غربة عن العصر، وتبرير تقلباتها بالذكاء وإجادة القراءة في خرائط استراتيجيات «الدول» صاحبة القرار.
وهكذا فإنها لا تتأثر بأحوال «الرعايا»، لا سيما أن «نجومها» لا يقصرون: يقصدون إلى القرى البعيدة، في العطلة، للتعزية بمن مات، مظهرين أسفهم على رحيل الأصوات المأسوف عليها والتي سيعوضها الأبناء الأوفياء..
كذلك لا يعنيهم أن تواصل «الدولة» حياتها بلا موازنة… فالله رزاق كريم والدول المانحة أو تلك ذات النفوذ الذهبي، لا يمكن أن تترك الانهيار الذي يُسقط دول الجوار ويهدد كياناتها يمتد إلى هذا «الوطن ـ الضرورة» لجيرانه، يستوي في ذلك الأشقاء والأعداء.
إن الطبقة السياسية فريدة في بابها، مثلها مثل هذا «الكيان» الذي لا مثيل له ولا شبيه، فلا هو وطن تماماً، ولا هو دولة إطلاقاً، بدليل أنها تعيش بلا رأس، وتنفق مليارات بلا موازنة، وتهجر مواطنيها إلى أقصى الأرض قبل أن تطلق نفاياتها إلى أدنى الأرض، وبالثمن… ثم تواصل حياتها بقوة الدفع الذاتي التي تبتكر كل يوم «طاولة» للحوار بعضها ثنائية الحضور بإشراف «محكِّم»، وبعضها موسعة من دون جمهور، تماماً مثل المباريات الرياضية التي قد تفجر حرباً أهلية.
إنه إنجاز باهر لهذا الكيان نادر المثال: دول المنطقة (في ما عدا الكيان الإسرائيلي) مهددة بالانهيار والتمزق في غمرة حروب أهلية مفتوحة على المجهول، بينما لبنان الذي لا شبيه له يعيش في «المجهول» معززاً مكرماً… بل ويقدم نفسه «قدوة»، في حين تتطلع إليه شعوب الجوار (سياحاً وتجاراً ورجال أعمال وأصحاب مشاريع ضخمة، وكذلك نازحين ولاجئين ومشردين) على أنه «قطعة سما» إن لم يكن «الجنة» تماماً فهو أقرب ما يكون إليها..
ولله في خلقه (من العرب العاربة والعرب المستعربة) شؤون.
سبحان الله!
طلال سلمان
نشرت هذه المقالة في 11 كانون الثاني 2016