موسم الهجرة إلى الشمال " , رواية كتبها الأديب السوداني الكبير الطيب صالح , ونشرت في شهر سبتمبر عام 1966 ، وتحكي الرواية قصة طالب عربي سوداني , اسمه مصطفى سعيد , ذهب للدراسة في بريطانيا بعيدا عن بلده , لتبدأ رحلة الغربة والابتعاد عن الوطن والثقافة الغربية , ويتبنى قيم المجتمع البريطاني. وهناك يتعرف على فتاة بريطانية يتزوجها ويحمل جنسية بلدها , لكن بعد سبعة أعوام يعود إلى بلاده بعد أن انفصل عن زوجته المتبرمة من تصرفات الزوج الشرقي المسلم ، الرواية تحكي قصصا عن الغربة بحلوها ومُرها يرويها الراوي والبطل.
اخترت عنوان هذه الرواية , ليكون عنوانا لمقالي هذا , مع حلم الهجرة الذي يراود معظم شباب بلدنا هذه الأيام , وخاصة من قطاع غزة المكلوم والمنكوب بالحصار والحروب والفقر والبطالة , وإغلاق المعابر , إلى حد الاختناق , مما يدفع آلاف الشباب عند أي فرصة لفتح معبر رفح , إلى ركوب موجة الهجرة إلى الشمال , وخاصة إلى الدول الاسكندنافية وأوروبا الغربية , أو حتى إلى أقصى الغرب في أميركا وكندا , أو في أدنى الأرض إلى استراليا ونيوزيلندا , حيث حلم العيش الرغيد في بلاد آمنة ومستقرة , توفر لهم السكن والعمل والدراسة , وفوق ذلك ربما يحظى بفتاة شقراء يانعة تكون له زوجة في دنياه الجديدة , بدلا من الحور العين , التي يوعدون بها في الآخرة.
حلم الهجرة إلى شمال المتوسط من جنوب فلسطين , من القطعة المسماة قطاع غزة , المحاصرة من البر والبحر والجو , منذ نحو 11 عاما , شهد خلالها هذا القطاع أربع حروب , أي بواقع حرب كل عامين أو ثلاثة , تلعن الحرب الجديدة التي قبلها , وتكون أشرس من سابقتها في القتل والتدمير , تحت مسميات مقيتة تجلب الاكتئاب قبل الدمار , فمن حرب " أمطار الصيف " في صيف عام 2006 , في أعقاب أسر الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط , إلى " الرصاص المصبوب " في شتاء 2008 – 2009 , إلى " عامود السحاب " في خريف 2012 , إلى " الجرف الصامد " خلال تموز وآب اللهاب عام 2014 (حرب الواحد وخمسين يوما ) , التي أتت على البشر والحجر والشجر , هي حرب الإبادة لكل شيء , في انتظار حرب خامسة , إذا ما استمرت هذه الأوضاع المأساوية.
معظم الحالمين بالهجرة هم من حملة الشهادات العليا , الذين لم يجدوا في بلدهم الفرصة للعمل , فالوظيفة هنا لمن ينتمي لهذا الفصيل المتنفذ أو ذاك , حيث فرصته الوحيدة غي ظل هذه الأوضاع , التطلع لما وراء البحر , رغم المخاطر المحدقة , وامتد حلم الهجرة أيضا لجميع الفئات من شباب وشابات , إلى أطفال ونساء وعائلات , ومغامرات الهجرة التي تنتهي في كثير من الأحيان إلى " تراجيديا " الغرق في عمق البحار , بعيدا عن الأهل والوطن , الذي قال فيه شاعرنا الراحل الكبير محمود درويش " هذا الشيء الممتد من الماء إلى الماء , لا هو وطن ولا هو خريطة " , والذي كان درويش يأمل ألا يكون حقيبة سفر , حين صدح في قصيدته الرائعة : " وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر" , ويبدو أننا اليوم سنصرخ بعلو صوتنا المجروح والمبحوح من كثرة الجراح والصراخ (وطني ليس "حقيقة" وأنا لست بكافر) .
ورغم هذه المخاطرة الغير محسوبة للهجرة , فإن آلاف الشباب على استعداد لركوب البحر , والمشي مئات الكيلومترات وسط المخاطر والصعاب , ودفع آلاف الدولارات , للوصول إلى الهدف المنشود, هناك في بلاد الأمن والعسل والأحلام , ويكفي أن تقول أنك قادم من بلاد الموت والدمار , لتحصل على السكن والاقامة والراتب , قبل أن تستقر بك الأوضاع للحصول على الجنسية , وبعد ذلك أعتقد أنك لن تفكر مثلما فكر مصطفى السوداني بالعودة إلى الوطن , الذي ترك لندن بجمالها وزوجته الشقراء , لأنه يعود إلى وطنه , وأسمعك تهمس لنفسك أي وطن سأعود إليه , (وطني ليس "حقيقة" وأنا لست منافق ) , ولن أعود إلى هذا المسمى وطن , المكبل بالحصار والموت والدمار , وفوق ذلك خلاف الأخوة الأعداء , بعد هذا الانقسام بين الجنوب والشمال , الذي دمر كل الأحلام بوطن موحد نعيش فيه بأمان , والذي بات يستحيل العيش ها هنا , حيث تتساوى فيه الحياة والموت.
د. عبد القادر فارس