شعار لسنا وحدنا…

بقلم: عماد شقور

قبل سنين عديدة، وحين كان الفلسطينيون يعانون من انعدام التضامن الكافي مع عذاباتهم وما لاقوه ويلاقونه من ظلم وعدوان ولجوء، من جانب الغالبية العظمى من دول العالم، التي كانت ترى في "اليهود" ضحية، وترى في العرب سلبيين ورافضين لليد اليهودية/الاسرائيلية الممدودة للسلام؛ ولم تكن هناك معرفة او عِلم لدى غالبية شعوب العالم بوجود الشعب الفلسطيني ومعاناته، اطلق الشهيد الفلسطيني الشاعر والمثقف وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كمال ناصر، شعاره الجميل الحزين: "يا وَحْدنا".
كان ذلك قبل عقود كثيرة: قبل حرب تشرين الثاني/اكتوبر 1973، المشرِّفة والعظيمة، وقبل اقرار القمة العربية بـ م.ت.ف. "ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني"، وقبل الصمود الأُسطوري في بيروت اثر الإجتياح الاسرائيلي وحصار الجزء الغربي من العاصمة اللبنانية، الذي قدم للعالم صورة مشرفة للثورة الفلسطينية، وقبل الانتفاضة الفلسطينية الشعبية المدنية السلمية التي انطلقت في تشرين الثاني/نوفمبر 1987، وقبل اضطرار امريكا و"حاملة طائراتها ومرتزقتها ـ اسرائيل" الاعتراف والتعامل مع منظمة التحرير، وقبل توقيع رئيس الحكومة الاسرائيلية، صاحب شعار "كسِّروا ايديهم وارجلهم"، اسحق رابين، لرسالة الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، وبحقوقه السياسية، وبممثله الشرعي الوحيد: م.ت.ف..
قبل كل هذه الاحداث والتطورات الايجابية، وانعكاساتها على الساحات الفلسطينية والاسرائيلية والعربية والعالمية، كان اعتماد الفلسطينيين شعار "يا وحدنا" مبررا ومفهوما ومفيدا ايضا، لانه شكل عاملا ودافعا لشحذ همم الفلسطينيين وتركيزهم على مبدأ الاعتماد على الذات، دون الغاء اهمية البحث والعمل على جذب واكتساب مناصرين وحلفاء. اما الآن فقد وصلنا، لحسن حظنا، إلى مرحلة يجدر بنا فيها رفع شعار "لسنا وحدنا".
حقيقة اننا "لسنا وحدنا" يستشعر بها ويتأكد منها كل من يتابع الصحافة والإعلام الاسرائيلي. وكلما كانت المتابعة اكثر دقة وعمقا وشمولا، كان التأكد من هذه الحقيقة اكبر.
ليس دقيقا، وليس مفيدا ايضا، انكار قدرة اسرائيل على تحديد مصادر الاخطار الحقيقية التي تواجهها. واسرائيل، كما هي عليه هذه الايام، تحمل على ظهرها، بل وفي احشائها ايضا، اثقالا وامراضا تهدد مستقبلها، وهي، ان لم تتخلص من تلك الاثقال والامراض، تحول الخطر على مستقبلها إلى خطر جدّيٍ على وجودها ذاته.
يعرف ذلك بدقة عقلاء في اسرائيل، وينشرون ذلك في الاعلام ويركزون عليه في مراكز الابحاث والدراسات الاسرائيلية المتعددة. وتعرف وتعترف بذلك شخصيات في مواقع اتخاذ القرار في اسرائيل، ولكنهم لا يتقدمون في الاتجاه المطلوب لتفادي الخطر المستقبلي الاكيد، اما لضيق افقهم وجهلهم، او خشية خسارة مواقعهم القيادية في واقع اسرائيلي حالي، محكوم بالأكثر يمينية وعنصرية في المجتمع الاسرائيلي، الذي يواصل الانزلاق والتدهور منذ انتصارهم "السحري" في حرب حزيران/يونيو 1967، والذي ادخلهم في حالة نشوة وسُكر، تطورت لتصبح حالة من الهلوسة، تهوي بهم عميقا من درك سافل إلى درك اسفل، حتى اليوم.
ويفضل حكام اسرائيل الحاليون، مثلهم مثل الغالبية العظمى من سابقيهم في تلك المواقع، ترك مهمة الرجوع إلى التعقّل، والاعتراف باستحالة القدرة على ابتلاع الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والسياسية المشروعة والمقرّة دوليا.
لم تستطع اسرائيل ابتلاع "لقمة" الضفة الغربية (والقدس العربية منها) وقطاع غزة. ولم تستطع هضم لقمة الفلسطينيين في اسرائيل. ولم تستطع تجاوز اللاجئين وحقوقهم. وكل ما تشهده الساحة الفلسطينية من تطورات نتيجة القرارات التي تتخذها الادارة الامريكية اليمينية، لا تسهم في اضعاف ثقة الفلسطينيين بيوم مقبل يستعيدون فيه حقوقهم، بل بدل ذلك، وفي مقابله، تزداد عزلة اسرائيل وامريكا معها. هكذا هو الحال في ما يخص انسحاب امريكا (واسرائيل لاحقا) من عضوية اليونيسكو، وهكذا هو الحال بخصوص "اعتراف" امريكا بالقدس (دون تحديد حدودها) عاصمة لاسرائيل. وهكذا هو الحال بالنسبة لموضوع تقليص المساهمة الامريكية في موازنة الاونروا.
يمكن، في هذا السياق، تسجيل ثلاثة من الامثلة، عن التطورات الاخيرة على صعيد المقاطعة التي ترى فيها اسرائيل، وبحق، تهديدا لمصالحها ولمستقبلها ولوجودها، وتؤكد هذه القناعة:
ـ قدم عدد من اعضاء البرلمان الايرلندي يوم الثلاثاء الماضي للمناقشة،(التي كان من المفترض ان تبدأ في اليوم التالي، ولكنها أُجِّلت إلى موعد لاحق، بناء على طلب الحكومة الايرلندية)، مشروع قانون يجرِّم ويعاقب كل من يرتبط بعلاقة تجارية او اقتصادية مع اسرائيليين (وشركات ومصانع) في الضفة الغربية و"القدس الشرقية" وهضبة الجولان، ويمنع السياح الايرلنديين الذين يزورون مناطق خارج حدود 1967، من شراء بضائع او خدمات (حجز في فنادق مثلا) من عناصر اسرائيلية. وكانت ردة الفعل الاسرائيلية الفورية طلب رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، من وزارة خارجيته استدعاء السفيرة الايرلندية في تل ابيب، ليبلغها بمعارضة حكومة اسرائيل القاطعة لهذا القانون، وصرح بان "هدف القانون هو دعم حركة المقاطعة (الـ بي دي إس) والحاق الضرر باسرائيل". وفي هذه الاثناء، نشرت جريدة "آيرش تايمز" عريضة وقعها اسرائيليون يناشدون اعضاء البرلمان الايرلندي التصويت لصالح هذا القانون، وجاء في نص العريضة: "نحن، مواطنون اسرائيليون قلقون، نناشد ايرلندا بدعم أي قانون يفرض التمييز بين اسرائيل ذاتها من جهة، والمستوطنات في المناطق المحتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية. ان الاحتلال الاسرائيلي للمناطق خارج خطوط الـ67، مستمر منذ اكثر من خمسين سنة، ودون نهاية له في الافق، وهو ليس عادلا فقط، بل هو يخالف قرارات عديدة للأمم المتحدة. اننا واثقون ان هذا الاحتلال المتواصل غير قابل للاستمرار من الناحية الاخلاقية والاستراتيجية، ويلحق الضرر بالسلام، ويشكل خطرا على امن اسرائيل. كاشخاص يهمهم كثيرا مستقبل اسرائيل، وتواقون للسلام مع جيراننا، فاننا نناشدكم بدعم هذا القانون".
ونذكر ان الاسرائيليين الموقعين كتّاب واساتذة جامعات وسفراء واعضاء كنيست سابقون وفنانون.
ـ في البرلمان الدانماركي صوتت غالبية كاسحة من الاعضاء (81 مع، مقابل 22 اعتراض)، الاسبوع الماضي، على قرار يشدد على دعم الحكومة في استثناء المستوطنات/المستعمرات الاسرائيلية في الضفة الغربية و"القدس الشرقية" وهضبة الجولان، من أي اتفاقيات مباشرة او ثنائية او متعددة الاطراف مع اسرائيل. وبهذا القرار اكدت الدانمارك التزامها وتطبيقها لقرار مجلس الامن رقم 2334، كما ناشدت مجلس حقوق الانسان نشر القائمة التي اعدها والخاصة بالشركات التي تعمل او تساهم او تستثمر في المستوطنات/ المستعمرات الاسرائيلية.
ـ نشر مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة يوم امس الاول، الاربعاء، تقريره الذي تضمن رصده وتسجيله لـ206 شركات تتعامل مع المستوطنات/المستعمرات الاسرائيلية، منها 143 شركة اسرائيلية، و22 شركة امريكية، واما الـ41 شركة المتبقية فهي من دول اخرى. وتم تأجيل نشر القائمة السوداء باسماء هذه الشركات إلى وقت لاحق، بسبب ضغوط امريكية كبيرة، وتهديد صريح بانهاء عضويتها في المجلس.
هذه تطورات متتالية لم نكن نشهد مثلها قبل عقد او عقدين. لكن هذا يستدعي جهودا فلسطينية جدية لضمان تصعيد هذه الموجة الايجابية وتوسيعها واستمرارها، إلى ان تعطي ثمارها تحررا للفلسطينيين، ودحرا للاستعمار والتمييز والابرتهايد الاسرائيلي، على غرار ما اثمر في جنوب افريقيا. وهنا تكون رأس الحربة اعادة تنشيط دور السفراء والسفارات الفلسطينية والجاليات الفلسطينية في دول الشتات، مدعومة بجهد كل فلسطيني في موقعه، ودون ان يكون التركيز على أي جهد على حساب أي عمل وطني آخر.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني