من يوقف الاعتداءات على المدارس والمعلمين؟

بقلم: جواد بولس

مع بداية العام الجديد استمرت اعتداءات بعض الطلاب والأهالي على طواقم التدريس، في كثير من مدارسنا العربية، فقد تم التهجم على أحد المعلمين في المدرسة "الثانوية للهندسة والعلوم أورط" في مدينة اللد، وتلاه بعد أسبوعين، بتاريخ 24/1/2018 ، محاولة اعتداء على معلميْن في إحدى مدارس قرية وادي النعيم في النقب.
على ما يبدو سوف نشهد في المستقبل تصعيدًا في وتيرة انتشار هذه الظاهرة المستفزة في جميع قرانا ومدننا، كما يستدل من سجل الاعتداءات العديدة التي وقعت خلال العامين المنصرمين وقبلهما، في شمال البلاد حتى أقصى الجنوب.
نشوء هذه الظاهرة في مواقعنا وتحولها، مع أصناف عنف أخرى، إلى وباء موجع يعكس عمق التغييرات السلبية التي أصابت بنانا السياسية والاجتماعية، وضمور حزمة القيم الواقية، التي شكلت خلال عقود طويلة، دفيئات آمنة في أحضانها تبلورت هويتنا الوطنية الجمعية، وفي حماها ضمن الفرد سلامته ولم يجد العنف، بأشكاله العصرية، حيزات تسعه، وفضاءات تستوعبه وتسمح له بالتمادي المَرَضي كما يحصل في أيامنا هذه.
مع هذا تبقى هنالك خصوصية واضحة في هذا العنف الموجه ضد طواقم التدريس، فشخصية المعلم، في الشرق عمومًا وفي مواقعنا تحديدًا، حظيت بمكانة مميزة ورفيعة، جعلتا المعلمين طيلة قرون "رسلًا" وأعمدة تشيّد عليها أصلح المباني وأمتنها، فلماذا نجح الانقلاب ضد هذه المفاهيم؟ وكيف تحولت حرمة المدرسة مشاعًا مستساغًا، والعاملون فيها إلى "ملطّات" يستسهل صفع سمعتهم وتستباح كرامتهم بشكل عادي وطبيعي؟
يكتفي كثيرون بالحاق ظاهرة العنف ضد المعلمين كجزء طبيعي من حالة العنف العام المتفشي في الدولة، وفي شوارع قرانا ومدننا، لكنني أتحفظ على الاكتفاء بهذا التشخيص، لما يختزنه التحول في علاقة المجتمع مع المدارس من معاني خطيرة، فهذه الظاهرة غير مدفوعة بمحفزات مادية، مثل عنف الخاوات وتزاوج المصالح مع المواقع، وهي ليست سليلة تراث اجتماعي معطوب شرعن مثلًا، على مدى الدهور، دور الخناجر وهي تدق في خواصر الشرف لتتخلص ممن احتسبن، منذ ميلاد الرمل والشوارب، عورات ونوائب.
انتشار حالات الاعتداء على المدارس والمعلمات والمعلمين، يشكل برهانًا صارخًا ولافتًا على فشل شامل في عمل المفاعلات السياسية والمدنية والاجتماعية النيرة، في حماية آخر أعمدة "الخيمة"، وتدلل على خطورة وعمق التشقق في مبنى الهوية الجمعية لمجتمعاتنا المحلية، واندثار العديد من قسماتها التاريخية الحافظة، وهي في حالتنا حصانة المدارس وسكانها، واحترامها كمؤسسات وطنية تكمل وظيفة البيت والأهل، في بناء شخصية الانسان الفلسطيني الايجابية.
فنحن وأجيال عديدة، قبلنا وبعدنا، تربينا في ظل معارك طاحنة، استهدفت مكانة المدرسة ومهامها الاجتماعية المباشرة، والسياسية غير المباشرة، ففي حين حاول الحكام دومًا اخضاعها لإرادة "السلطان" وأهدافه، تصدى لهم، بالمقابل، أصحاب الوعي الوطني السليم وحموها من السقوط، حتى بقيت حصونًا شامخة بمناراتها وانتماء طواقمها الذين حرصوا، رغم الملاحقات والمخاطر، على ضخ مشاعر العزة والكرامة والسؤدد في عروق أبنائهم جيلًا وراء جيل.
تاريخ المدارس في فلسطين الكبرى حافل بالمآثر والمنطقة تشهد على ذلك. وما جرى بين ظهراني المدارس العربية في إسرائيل، التي صمدت مأساة النكبة، يشكل فصلًا ملحميًا في حياة الأقلية الفلسطينية، ويستدعي التفكر بما آلت إليه أوضاع هذه المؤسسات في السنوات الأخيرة. فكيف لم تقو النكبة والحكم العسكري بعدها وتبعاتهما، على شل دور العملية التدريسية والمعلمين في ترميم بقايا الضربة القاصمة والنهوض بمجتمعاتنا نحو النور والحرية، بينما تقوم اليوم وتنجح أياد من وسطنا بوظيفة الهدم هذه من غير وازع ولا روادع؟
قد يكون السؤال الأنسب في أيامنا هذه، ليس كيف، بل هل يمكن، في حالة الوهن الراهنة، وقف هذا الأذى وإنقاذ المدارس من تشويه مكانتها، وتصغير قامات المعلمين والمعلمات، وتهميشهم اجتماعيًا كي يبقى صوت العنف أعلى وأدوم وأنجع؟
ستبقى مؤسسات الدولة ذات العلاقة هي المسؤولة الأولى عن الفشل في مقاومة الظاهرة واتهامها بالتقصير عمدًا وعدم محاسبة المسؤولين والضالعين فيها، سيبقى ذلك اتهامًا صحيحًا، لكنه، في حالتنا، غير شاف وغير كاف، فإلى جانب مسؤولية الدولة الرئيسية سنجد مسؤولية مؤسسات مجتمعنا القيادية القطرية والمحلية، لأن حماية المدارس، في البداية وفي النهاية، هي مصلحة الجماهير العربية العليا، والقدرة على تأمين حمايتها متوفرة محليًا لو أراد القادة المعنيون بيننا ذلك، ولو لم يدخلوا في مكوّنات التعاطي مع تفاصيل الحوادث العينية، اعتبارات حزبية أو حركية أو عائلية أو تجارية، وحسابات ضيقة لمفهوم الربح والخسارة، ولاستقرار مكانة ونفوذ ذلك القائد أو الشيخ أو الوجيه في تلك البلدة والموقع والحادث.
تعليق المسؤولية على أبواب شرطة إسرائيل، التي تتقاعس ولا تلاحق الجناة صحيح، لكنه لا يعكس واقعنا المحلي كما نعيشه بتعقيداته وعلى حقيقته، ففي بعض حالات الاعتداء، لم يتم تقديم شكوى للشرطة لاعتبارات محلية أو نتيجة لخوف المشتكين من سطوة الفاعلين؛ وفي حوادث أخرى تقدمت المدرسة أو المعلم المعتدى عليه بشكوى، لكنها سجلت ضد مجهول، رغم أن هوية المعتدين كانت معروفة للجميع؛ بينما في مواقع أخرى سمعنا عن تقديم شكوى مع ذكر اسم المعتدي، الذي بادرت الشرطة لإحضاره، لكنها "اضطرت" بعد تدخل " أهل الخير" والجاهات والوسطاء للإفراج عنه، فباسم الوفاق تتم "ضبضبة" الملف، وتنخ المدرسة باسم السلم الأهلي، وتحت وطأة رجاحة العقل يصمت المشتكي وتمسح المهانة بذقنه، فيصير المعتدي "قدوة " لكيف تأخذ ذراع الباطل بعد تدخل الجاهات "حقها" من المعلم المهزوم والمغلوب على أمره.
أما ذروة التواطؤ المجتمعي فسنجدها في تلك الحوادث التي "تجرأ" فيها المعلم أو المعلمة، خاصة إذا كانوا من عائلة عادية وليست كبيرة، على تقديم شكوى في الشرطة ضد المعتدي، لكنهم يضطرون لاحقًا، وغالبًا بسبب تهديد عائلة المعتدي التي تكون أحيانا مشهورة بعربداتها أو مدعومة من أصحاب القدرة و"الواصلين"، أن يترجوا الشرطة كي توافق على سحب شكواهم، أو تغيير تفاصيلها، لأنهم لم يجدوا، بعد تهديدهم، من يقف معهم في "شكواهم/ ورطتهم". فجميع الكبار والوجهاء والمسؤولين في المؤسسات والناشطين في دوائر أحزابهم وحركاتهم، أو في داخل المجلس البلدي أو المحلي، أو حتى المدرسة نفسها، نفضوا أيديهم من الحادث، الذي لم يعنهم في الأصل، حتى بقي المشتكي/ة في "الجبهة" وحيدًا لا يستطيع مواجهة المعتدي وعائلته وأصدقائهم فيشعر، على جلده، كيف صار معظم البشر في بلده قطيعًا يعيشون في هدي قاعدة التقية الكبرى "ابعدها عن ظهري بسيطة"!
نظريًا يجب ويمكن التصدي لظاهرة الاعتداءات على المدارس والمعلمين، ولكن من سيقوم بذلك؟ فاذا افترضنا، كما يفترض كثيرون، أن الدولة ليست معنية أو غير قادرة على محاربة هذه الظاهرة سنسأل اذن من سيفعل؟ واذا أشرنا إلى مؤسساتنا القطرية القيادية، لجنة المتابعة العليا، اللجنة القطرية لرؤساء المجالس، القائمة المشتركة ومؤسسات المجتمع المدني على تنوعاتها، فلسوف يسأل السائل وما منعها من العمل والحد من تفشي هذه الظاهرة لغاية اليوم؟
المنطق يحتم مساءلة هذه المؤسسات في عدم نجاحها في التصدي للظاهرة، ولو بشكل نسبي ومجزوء. فنمو الظاهرة يشير إلى وجود أسباب بنيوية وذاتية وفئوية منعت وستمنع هذه المؤسسات من الوقوف بحزم ضد المعتدين ومن يدعمهم ومطالبة المجتمع أن يتخذ منهم موقفًا حازمًا بدون هوادة.
فلجنة المتابعة العليا قادرة على هذا الحمل، ولكن عدم تفعيل لجنة مكافحة العنف التابعة لها وسباتها الدائم العميق غيّب دور لجنة المتابعة بشكل مطلق، وأبقاها بعيدة عن مجريات الأحداث وهواجس الناس، علاوة على عراقيل مهمة تعتري عمل لجانها الأخرى، لا سيما لجنة الحريات التابعة لها، التي لا تستطيع أن تتحرك بموضوعية وانصاف حقيقيين لاسباب قد نعالجها في مقالة مناسبة أخرى؛ أما لجنة الرؤساء فغير قادرة على التصرف بمسؤولية مجردة، وبعكس القوانين الاجتماعية والانتخاببة التي أفرزت معظم أعضائها من الرؤساء، وبالتالي فهم يتحركون بحكم وتبعات تلك الوشائج والمصالح والروابط التي بنعمها حازوا مناصبهم؛ ويبقى نواب القائمة المشتركة الذين يدفعون ثمن ضعف أحزابهم وحركاتهم من ناحية، ومن ناحية أخرى نجدهم منشغلين بشؤون السياسات العليا ومصالح الجماهير الكبيرة، حتى صار، عند بعضهم، الاعتداء على معلم أو معلمة مجرد خربشة عابرة في "يوميات نائب في الأرياف".
بخلاف جميعهم قد نجد أن "لجنة متابعة قضايا التعليم العربي" هي العنوان الأنسب لتبني مسألة العنف في المدارس وضد المعلمين، ومع أنها هي أيضًا، لم تنجح، رغم ما قدمته في سني عملها الطويلة بإيقاف هذا النزيف، نتمنى لرئيسها المنتخب حديثًا، د. شرف حسان، النجاح، ونتوقع منه أن يبادر فورا إلى وضع خطة حقيقية تستهدف مواجهة الآفة الوجودية المتفاقمة، فحتى الآن، وهي فترة قصيرة، لم نقرأ فيما كتبه وأسمعه سوى عناوين عامة لن تكفي لتغيير الواقع مع قناعتنا، أنه مثلنا يؤمن بأن هذا الوباء يجب أن يداوى، ويعرف مثلنا أيضًا أن شعبًا لا يحترم معلميه ولا يصون مدارسه سوف تتركه الحياة على هامش السيرة مطويًا في غبار التاريخ.

جواد بولس
كاتب فلسطيني