لا تجهدوا أنفسكم في البحث عن بديل ...!

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

كلما إزدادت الضغوط الدولية على الكيان الصهيوني من أجل التوصل إلى تسوية سياسية وفق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تتذرع قيادة الكيان الصهيوني بعدم وجود شريك، بعد حرب أكتوبر عام 1973م وما نتج عنها من جهد سياسي دولي يدعو إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في جنيف وبمشاركة م.ت.ف كطرف أصيل في الصراع، كان الموقف الإسرائيلي والذي عبر عنه حينها شمعون بيرز والذي كان يشغل منصب وزير الخارجية في حكومة غولدا مائير (أن إسرائيل لن تفاوض من لطخت يده بالدم الإسرائيلي) تعبيراً عن رفض إسرائيل لمشاركة م.ت.ف في أي مؤتمر دولي للسلام، وأردف قوله (أن إسرائيل سوف تختار من تفاوضه) ولذا جهدت حينها الدوائر الصهيونية لإيجاد بديل عن م.ت.ف التي حظيت حينها بصفة التمثيل للشعب الفلسطيني فلسطينياً وعربياً ودولياً، بعد سلسلة نشاطات سياسية على كافة المستويات وضعت الكيان الصهيوني وجهاً لوجه في مواجهة الوطنية الفلسطينية على الأرض وعلى مستوى كافة المحافل السياسية الإقليمية والدولية، إلا أن الإستراتيجية الأساسية للكيان الصهيوني تقوم على أساس السعي الدائم لتغييب الوطنية الفلسطينية من المسرح السياسي وتفصيل حلٍ للصراع على مقاسه ووفق إحتياجاته، ولذا يتواصل سعيه الدؤوب لهذه الغاية، رغم كل الجهود الدولية الساعية إلى التوصل إلى تسوية سياسية واقعية على أساس قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، التي أكدت م.ت.ف بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والمتحدث بإسمه وبإسم الوطنية الفلسطينية دون منازع وفشل جميع المحاولات الداخلية والخارجية التي إستهدفت إضعافه أو إستبداله بغض النظر عمن يقف على رأس م.ت.ف، ولذا تصطدم المواقف الصهيونية والأمريكية دائماً بثبات مواقف م.ت.ف وقيادتها الشرعية سواء في زمن ياسر عرفات أو في زمن محمود عباس، فعندما عقد مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991م أصر الإسرائيليون ومعهم الأمريكيون أن يكون الوفد الفلسطيني مشاركاً من خلال مظلة الوفد الأردني وأن يكون أعضاؤه (من غزة والضفة ومن دون القدس) ويومها جرى التوصل إلى صفقة مع جيمس بيكر أن يجري تشكيل هذا الوفد على أن يعلن الوفد نفسه أنه يمثل م.ت.ف، وإعتبار فيصل الحسيني مستشاراً للوفد بدلاً من أن يكون رئيساً للوفد لأنه رفض تغيير عنوانه من القدس إلى مكان آخر في الضفة، لما للقدس من رمزية ومكانة، ولما يخطط لها من إستهداف، وجرى حينها ما جرى من إستحداث قناة خلفية سرية للمفاوضات قادت إلى توقيع إتفاق أوسلو في 13/09/1993م بين إسرائيل و م.ت.ف وجرى أيضاً تبادل وثائق الإعتراف بين رابين وعرفات، وفي مفاوضات كامب ديفيد 2000 برعاية الرئيس كلينتون عندما فشلت تلك المحادثات والمفاوضات بالتوصل إلى إتفاق بين باراك وياسر عرفات لتباعد وجهات النظر بين الطرفين في مسألتي القدس واللاجئين، حَمَلَتْ الولايات المتحدة والكيان الصهيوني حينها ياسر عرفات مسؤولية فشل المفاوضات، واعتبرت الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني أن عرفات لم يَعُدْ شريكاً في عملية السلام، وتواصلت الإستفزازات الصهيونية للشعب الفلسطيني وقيادته والتي توجت بزيارة أرائيل شارون للأقصى في 28/09/2000م وكانت الشرارة التي أطلقت إنتفاضة الأقصى، وفتحت دورة عنف بين الطرفين أدت إلى قيام إسرائيل بإحتلال كامل مدن الضفة الغربية وتجاوز الإتفاقات الموقعة وفرض حصار على ياسر عرفات دام ثلاث سنوات وإنتهى بإغتياله سماً، آملاً بإنتاج قيادة فلسطينية على المقاس الإسرائيلي الأمريكي، وكان الإنسحاب الأحادي الإسرائيلي من قطاع غزة، وتمكين حركة حماس من دخولها النظام السياسي للسلطة الفلسطينية من خلال فرض إنتخابات 2006م والتي سعت إليها الولايات المتحدة وفرضت توقيتها وظروفها وبالتالي كانت نتائجها محسومة سلفاً، بهدف خلق أزمة عميقة في الجسم السياسي الفلسطيني، توجت الأزمة بإنقلاب حركة حماس في 15/07/2007م مما أدى إلى إنقسام النظام السلطوي الفلسطيني واللعب على هذا الإنقسام وإستغلال ما وفره من ظروف وذرائع تعلق عليها كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إفشالهم لأي جهود تستهدف التوصل إلى تسوية، واليوم وبعد التقارب السياسي في الرؤى السياسية الفلسطينية وإقتراب الجسم السياسي الفلسطيني للتعافي من أزمة الإنقسام والسعي الفلسطيني الدؤوب لمعالجة إفرازات الإنقسام وإستعادة وحدة النظام السياسي وثبات مواقف القيادة الفلسطينية وإلتزامها بالثوابت الوطنية والمتفقة مع روح القانون الدولي ومع قرارات الشرعية الدولية التي تؤكد على أحقية هذه الثوابت والحقوق في حدها الأدنى، يسعى الأمريكيون والكيان الصهيوني من خلال ما يسمى (صفقة القرن) إلى فرض تصورهم للتسوية وللحل دون مفاوضات وإنما عبر إملاءات غير قابلة للنقاش تقوم على أساس كسر الثوابت الفلسطينية وتتمثل في ما يلي:

أولاً: في موضوع القدس وإعتبارها سلفاً عاصمة للكيان الصهيوني، وإخراجها من موضوع المفاوضات.

ثانياً: إسقاط موضوع اللاجئين والبحث عن حل إنساني إقليمي يسقط القرار 194 الخاص بحق العودة والتعويض.

ثالثاً: إعتبار الإستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية عملاً مشروعاً.

رابعاً: تحديد الحدود بين الطرفين وفق حاجة إسرائيل للتوسع فيما يعرف بالمنطقة (ج) والتي تساوي ما نسبته 60% من أراضي الضفة الغربية، وبالتالي بقاء السيطرة الكاملة للجيش الإسرائيلي على الحدود لضمان الأمن الإسرائيلي.

هذه العناصر التي تتضمنها (صفقة العصر) الترامبية هي التبني الكامل لوجهة نظر الكيان الصهيوني بمضمون وشكل التسوية التي يسعى إلى فرضها على الشعب الفلسطيني ونظراً لرفض القيادة الفلسطينية لهذه الإملاءات فإن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يسعون اليوم للبحث عن قيادة فلسطينية بديلة تقبل بهذا المخطط التصفوي للقضية الفلسطينية، وتصل الوقاحة بالمندوب الأمريكي (جرينبلانت) إلى إعتبار أن موقف السلطة الفلسطينية وبالتالي الفلسطينيين قيادة وشعباً ليس من الضروري أن يوافقوا على ذلك، لإعتبار أن هذا الحل يطرح في سياق حل إقليمي وسيجري فرضه على الفلسطينيين قيادة وشعباً، طبعاً هذا الفهم السقيم والبغيض وهذه الرؤية التي تتضمنها صفقة العصر مرفوضة جملة وتفصيلا من الشعب الفلسطيني وقيادته، ولذا يصبح الشعب الفلسطيني وعلى رأسه قيادته ممثلة في الرئيس محمود عباس ليسوا شركاء في عملية السلام ومن هنا تجري الضغوط الإقليمية والدولية على الشعب الفلسطيني وعلى قيادته ومحاصرتهما، فالبحث عن قيادة بديلة تكون شريكة للصهاينة والأمريكان في تنفيذ مثل هذا المخطط التصفوي للحقوق وللقضية الفلسطينية، فمنظمة التحرير الفلسطينية وقائدها محمود عباس الذين إختاروا طريق السلام والإبتعاد عن العنف والسلاح، ورغم تأكيدهم على أن المفاوضات هي السبيل الوحيد لإقرار التسوية، يصبحوا غير شركاء في عملية السلام لتمسكهم بحقوق شعبهم وفق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ولذا تجري الدوائر الإسرائيلية والأمريكية وتجهد نفسها في التأكيد على أن القيادة الفلسطينية القائمة باتت عقبة في طريق السلام الأمريكي الإسرائيلي، ويعملون على إيجاد قيادة بديلة لها تقبل بعناصر ومفهوم (صفقة القرن) للتسوية، وإعتبار القيادة الفلسطينية القائمة معادية للولايات المتحدة ولسياساتها السلمية..!

إن حقيقة الأمر أن الكيان الصهيوني ومعه الولايات المتحدة لم يعودا طرفاً يهمه السلام والأمن في المنطقة ولا يعنيهم التوصل لتسوية سياسية واقعية تكفل تحقيق الأمن والسلام في المنطقة إنما يريدون فرض حالة من الإستسلام على الفلسطينيين هذا هو السلام الذي تبحث عنه وتبشر به (صفقة القرن)، سوف تجهد نفسها الولايات المتحدة في البحث عن قيادة فلسطينية بديلة لتقبل القيام بهذه المهمة الخيانية دون جدوى، لن تجد في الشعب الفلسطيني صغيراً أو كبيراً ليلعب هذا الدور، لذا قد يتعرض محمود عباس لما تعرض له سلفه ياسر عرفات، بسبب معارضته للرؤية الأمريكية، كي تستمر الفلسفة السياسية التي عبر عنها شمعون بيريز قبل أكثر من أربعة عقود (بأن إسرائيل سوف تختار من تفاوضه، كي يقبل بإملاءاتها)، وبغير ذلك لن يتم السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين حسب الفهم الإسرائيلي...!

فكما باءت هذه الفلسفة الصهيونية سابقاً بالفشل ستبوء اليوم أيضاً بالفشل، ولا سبيل للتسوية التي تحقق الأمن والسلام في المنطقة دون إنهاء الإحتلال والإستيطان للأراضي المحتلة عام 1967م وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حق العودة وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس