الحربْ القادمة

بقلم: الأسير كميل أبو حنيش

لا تكاد تنشغل دولة في العصر الحديث بموضوع الحرب كما تنشغل بها "إسرائيل", كما لم تَخض أي دولة حديثة مُنذ نشأتها وبهذا العمر القصير حروباً مثل "إسرائيل", فلا يكاد يمرّ عام بدون أنّ تشنّ هذه الدولة حرباً أو عدواناً على شعوب المنطقة, والسبب يكمن في طبيعة "إسرائيل" بوصفها مجتمعاً استيطانياً وتوسعياً مدججاً بالأيديولوجية الصهيونية العدوانية, والأهم من كل ذلك تصورات "إسرائيل" لذاتها كدولة مستهدفة على الدوام ومحاطة بالأعداء من كل جانب, مما يجعل من فكرة الحرب بمثابة حجر الزاوية لهذه الدولة, فالاستعداد للحرب سمة ملازمة وكامنة بدولة "إسرائيل", حيثُ تكون كافة المكونات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية خاضعة لفكرة الحرب.

وقد شنت "إسرائيل" منذ نشأتها إلى اليوم خمسة عشر حرباً على شعوب المنطقة كان آخرها ثلاثة حروب متتالية على قطاع غزة, أمّا عن الحرب القادمة التي ينهمك الإعلام "الإسرائيلي" بقرع طبولها منذ أيام ستكون متركزة على الجبهة الشمالية, وذلك نظراً للتطورات التي أفرزتها الحرب السورية وأبرزها الوجود الإيراني المكثف على الأراضي السورية وتنامي قوة حزب الله وحصوله على أسلحة متطورة, فطوال سنوات الحرب السورية وجّهت "إسرائيل" عدداً من الضربات الجوية للأراضي السورية أصابت أهدافاً لسوريا وحزب الله, وكان آخرها قبل أسابيع حين وجهت ضربة لإحدى القواعد الإيرانية التي يجري إنشاؤها على الأراضي السورية.

وقد عبرت "إسرائيل" منذ سنوات عن قلقها من تراكُم القدرات الصاروخية لحزب الله (قرابة مئة ألف صاروخ), ولكن ما أثار قلقها في الأسابيع الماضية هو المعامل الايرانية  في لبنان الذي تدعي "إسرائيل" أنها تعمل على تطوير صواريخ أكثر دقة لصالح حزب الله, وهو ما يجعل من منشآتها الحيوية في الشمال عرضة لخطر حقيقي, وهذا سبب كافي من ناحية "إسرائيل" لتوجيه ضربة استباقية لهذا المعمل حتى وإن أدى ذلك إلى نشوب حرب.

أمّا العامل الثاني الذي يثير قلقاً متنامياً في "إسرائيل" يتمثل بتعزيز التواجد العسكري الإيراني على الأراضي السورية, وهو ما دفع "إسرائيل" لتوجيه ضربة لقاعدة إيرانية قيد الإنشاء, وبالتالي فإنّ التغلغل الإيراني في سوريا قد يكون سبباً كافياً للخروج إلى الحرب.

هذين العاملين هما الواجهة التي يدور حولها النقاش في "إسرائيل", حيث دفعا نتنياهو في زيارته الخاطفة مؤخراً لروسيا ولقاء الرئيس بوتين بهدف شرح الموقف "الإسرائيلي" وإيصال تهديدات لإيران من التمادي في تعزيز قواتها في سوريا, والضغط لإيقاف العمل بمعمل الصواريخ المتطورة في لبنان.

أمّا الجبهة الجنوبية أيّ الحرب على قطاع غزة فهي ليست واردة في المدى المنظور و"إسرائيل" غير معنية بها, بل على العكس أبدت "إسرائيل" قلقها من تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع , الأمر الذي يدفع تجاه حرب جديدة على غزة, "وإسرائيل" ليست راغبة بها في هذه المرحلة.

وبهذا فإنّ الحرب القادمة في حال وقوعها ستكون على الجبهة الشمالية, والذرائع كما أسلفنا سابقاً الوجود الإيراني في سوريا ومعمل الصواريخ في لبنان, هذين السببين يتصدران المشهد في حال الذهاب إلى الحرب, إلاّ أنّ الأسباب الحقيقية لهذه الحرب كامنة بنتائج الحرب السورية الدائرة منذ سبع سنوات, علاوة على أسباب أخرى تتعلق بالتطورات التي تعصف بالمنطقة عموماً.

لقد كانت "إسرائيل" وهي المستفيد الأول من الحروب الدامية التي شهدتها المنطقة, ومن تصدر قوى الإسلام الوصولي المتمثل (بداعش والنصرة) لمشهد استمر لسنوات, وكانت" إسرائيل" تُراهن وتمني النفس بانفجار حروب طائفية تشمل دول المنطقة وتستمر لسنوات طويلة, حيثُ كانت هذه الحروب هي فرصتها الذهبية لاستنزاف قوى المنطقة وانهيار جيوشها ومجتمعاتها, وهو ما يعني بقاء "إسرائيل" القوة الوحيدة في المنطقة, وبالتالي استفرادها بتقرير مصير دولها وشعوبها والهيمنة عليها, إلاّ أنّ "إسرائيل" غير راضية عما آلت إليه نتائج الحرب السورية, ففي ظل التطورات الأخيرة في المنطقة في أعقاب دحر داعش في العراق وسوريا واستعادة النظام السوري لقوته, وتنامي الحضور الروسي في المنطقة عبر البوابة السورية, وتسارع التغلغل الإيراني في المنطقة, والتقارب التركي الإيراني الروسي, وتعثر النزعة الاستقلالية للأكراد, والاستعصاء في عملية التسوية, كلها عوامل ستقود إلى نتائج وتداعيات إستراتيجية ليست في صالح الولايات المتحدة "وإسرائيل" والقوى المتحالفة معهما.

إذاً فاحتمال وقوع حرب جديدة في المنطقة سيكون نابعاً من هذه التطورات, وقرار الحرب سيرتكز على أساس المتغيرات السياسية والإستراتيجية التالية :-

أولاً:  أتت روسيا في المشهد الأخير من الحرب كمن حسم الحرب على الإرهاب, وظهرت هي القوة العظمى التي دحرت داعش, وهو ما وفر لها موطئ قدم في المنطقة كقوة عالمية تزاحم الولايات المتحدة حضورها في المنطقة, في حين ظهرت المساهمة الأمريكية في دحر داعش باهتة, وكان المستفيد الأول من ضرباتها سواء في العراق أو في سوريا هي القوى المناهضة لها كإيران والنظام السوري.

ثانياً: كانت إيران هي المستفيد الأبرز من دحر داعش في العراق وسوريا, وساعد ذلك في تمددها في المنطقة, وسيعزز ذلك من تأثيرها السياسي والعسكري كقوة إقليمية فاعلة, وهو ما تعتبره "إسرائيل" خطراً استراتيجياً ينبغي التصدي له بسرعة قبل أن يترسخ.

ثالثاً: إنّ فشل مساعي الأكراد في العراق بالاستقلال والهجوم الذي تشنّه تركيا على الأكراد في شمال سوريا شكّل ضربة لمخططات الولايات المتحدة وإسرائيل لخلق دولة للأكراد, وهو ما سمح بالتقارب التركي الإيراني, وتباعداً من جانب تركيا عن الولايات المتحدة "وإسرائيل", بسبب التضارب في المصالح والاستراتيجيات وهو ما ينذر بتحولات على صعيد خارطة التحالفات في المنطقة.

رابعاً: كما أنّ الجهود السياسية لإيجاد حل للأزمة السورية تتصدرها روسيا إلى جانب إيران وتركيا وهو ما أخرج الولايات المتحدة وحلفائها من المشهد, ولم تخفي الولايات المتحدة امتعاضها من الدور الروسي البارز في قيادة الجهود السياسية لحل الأزمة.

خامساً: وفي ظل تعثر الحرب في اليمن, وغرق دول الخليج في وحلها منذ سنوات قد يكون عاملاً آخراً من العوامل التي قد تدفع باتجاه الحرب للمساهمة في حسمها لصالح دول الخليج.

سادساً: بعد إعلان الفلسطينيين عن رفضهم لأي وساطة أمريكية في عملية التسوية في أعقاب إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل, أدى ذلك إلى تفاقم الاستعصاء السياسي في عملية التسوية, وسيشكل ضربةً للحضور الأمريكي وتأثيره في المنطقة إذا استمر الموقف الفلسطيني رافضاً للدور الأمريكي.

سابعاً: أمّا الحسابات السياسية الداخلية في إسرائيل فقد تُشكّل عوامل ثانوية في قرار دخول الحرب؛ لأنّ العوامل المذكورة سابقاً والتي قد تدفع باتجاه الحرب ذات طبيعية إستراتيجية أكبر من الحسابات الشخصية والسياسية الداخلية.

إنّ هذه الحرب المحتملة ستكون أصعب من الحروب التي يتعين على "إسرائيل" اتخاذ قرار بشأنها لأنّها قد تؤدي إلى حرب شاملة في المنطقة برمتها, بل وقد تقود إلى تصادم قوى عالمية كبرى كالولايات المتحدة وروسيا.

 

 لقد باتت كافة التناقضات حاضرة في هذا المشهد, وذات العوامل التي قد تدفع باتجاه الحرب هي ذاتها التي تمنع اندلاعها, وفي هذه الحالة فإنّ قرار الحرب لنّ يكون سهلاً من ناحية "إسرائيل", فهي الآنّ في مُعضلة كبيرة وستكون خاسرة في الحالتين, فإنّ هي قررت الخروج إلى حرب قد تكون عواقبها وخيمة عليها, وإنّ هي سلّمت بالمتغيرات التي لا تجري في صالحها ستكون خاسرةً أيضاً, وبهذا فإن مسألة الحرب ستكون احتمالاً وارداً بل ومرجحاً في ظِل انحسار الدور الذي باتت تلعبه الولايات المتحدة في المنطقة وفي العالم, وتقدم القوى العالمية الأُخرى كروسيا والصين, وتنامي قوى إقليمية أُخرى في المنطقة كإيران وتركيا, وقد يكون الملف النووي الإيراني هو العنوان لهذه الحرب في ظل تلويح إدارة ترامب لتنصلها من الاتفاق النووي مع إيران, وقد يكون العنوان انفجار إحدى الأزمات في المنطقة أو بالأحرى افتعال لأزمة في إحدى الساحات العربية القريبة, ومن المرجح أنّ تكون دولة خليجية توفر الذريعة لشنّ مثل هذه الحرب, التي من الممكن أنّ تأخذ المنطقة إلى مجاهيل الحروب الأهلية والويلات والمآسي, وهذه المرة لنّ تكون "إسرائيل" متفرجةً وبعيدة عن تداعياتها, وإنما ستكون أول المتضررين منها مهما كانت نتائجها.

بقلم الأسير كميل أبو حنيش/ مركز حنظلة للأسرى والمحررين