أتوجّه في هذه القراءة نحو مجموعة شعريّة أعدّتها سمر لاشين بالتّعاون مع إبراهيم شافعي، وصدرت عام 2017 في القاهرة، عن دار النّوارس للدّعاية والنّشر، وتقع في ما يزيد عن (190) صفحة، واتّخذت لها اسما دالّا "طروادة نون النّسوة". ضمّت مجموعة من النّصوص الشّعريّة المتنوّعة لاثنتين وثلاثين شاعرة من عدّة دول عربيّة، منها (مصر، والعراق، ولبنان، وسوريا، وفلسطين، والأردنّ، والسّودان)، أذكر منهنّ إيمان السّيد، وإيماض بدوي، ونوار الشّاطر، ومادونا عسكر، وكوثر النّيرب، وبعض من هؤلاء الشّاعرات، لم يصدر لها أيّ عمل أدبيّ بعد، وربّما بعضهن أيضا لم ينشرن نصوصهنّ إلّا على الفيسبوك أو في المواقع الإلكترونيّة.
أجدني منذ البداية مسكوناً بجملة "الأرض فاكهة الطّغاة" للشّاعرة إيماض بدوي، وردت في هذه المجموعة من قصيدة بعنوان "سهو أعرض من ذاكرتي". فكم جميل ودالّ هذا السّطر الشّعريّ الّذي يلخّص المعاناة الإنسانيّة منذ وجد الإنسان وحتّى الآن، وقد عبّرت عنه الشّاعرات كلّ على طريقتها، بدءا من القلق الذّاتيّ وانتهاء بالقلق الجماليّ، وما بينهما من تناول للموضوعات العامّة السيّاسيّة والاجتماعيّة.
وإذا ما اعتمدتُ طريقة "النّقد الثّقافيّ" المفتوح، لتفكيك المعنى في هذه الجملة الّتي لامست عبقريّتها كثيراً من نصوص "نون النّسوة"، فالأرض معادل موضوعيّ للمرأة، والطّغاة لفظ حامل لتاريخ طويل من المعاناة الإنسانيّة، وشامل لكلّ طاغية، حتّى وإن كان رجلاً وسيماً، يرى في المرأة "شيئاً" أو "متاعاً" أو شهوةً عابرةً، أو حتّى يراها مجرّد "شهرزاد". هنا يبدو الفعل الذّكوريّ متفكّها متلذّذاً بهذه الفاكهة/ المرأة/ الأرض بأفعال لا شعريّة، وليست إنسانيّة بكلّ تأكيد.
هنا الشّعر يأخذ موقفه وموقعه ليدلّ على ذات الشّاعرة، الّتي رأت أن تؤنّث القصيدة واللّغة والذّاكرة، مستعيراً من النّاقد عبد الله الغَذّامي فكرته هذه، في مواجهة علنيّة غير مستترة بحجب اللّيل والغيوم لتاريخ طويل من الشّعر، وقفت فيه القوافي على شاربين طويلين معقوفين لفحول الشّعر وأربابه.
في هذه المجموعة الشّعريّة "طروادة نون النّسوة" تحسّ بدفء دم المرأة يسري في النّصوص، ليس إغواء ولا إرواء لرجلٍ كان يدعى شهريار، بل لأنّ اللّغة تنحاز بتلقائيّة إلى معجم خاصّ، وتحيل إلى ألفاظ مؤنّثة بمعان مؤنّثة، فاكتسبت نضارتها ووجهها الحسن وتدفّقت الخضرة في أنساغ القصائد ليرشح الماءُ عطراً على وجه القصيدة، فلم تعد الأرض وحدها أنثى، بل كلّ شيء غدا مؤنّثاً، لعلّ ميزان الوجود يعتدل، ويعيد التّوازن المفقود في تلك "اللّغة المستلبة والمستعمرة" على ما يقول النّاقد الغَذّامي.
تدخل هذه النّصوص إلى الذّاكرة التّاريخيّة لتسائل الوعي القديم، فاتحة الأفق المعرفيّ على ذاكرة جديدة، ليس فيها ألم طارئ أو وجع بائس غريب، بفعل قوّة غاشمة طارئة، هي بائسة مهما أوتيت من بلاغة التّشويه والقتل والدّمار، بل إنّها تحتفي على النّقيض من ذلك بالفرح والأمل وتجدّد الولادة، تلك المعاني الّتي لا تؤول إلّا لامرأة، ولا تكون إلّا في رحم امرأة، ولا تعتاش إلّا من صدر امرأةٍ، عامر بالحنين وماء الحياة المقدّس، إنّها تُعلي مع ذلك جنباً إلى جنب من شأن الألم الإنسانيّ العظيم الّذي يشعرنا بإنسانيّتنا وجمال أرواحنا وأهميّة أن ينشقّ هذا الألم عن وردة صالحة قائمة بين الصّخور تنسرب جذورها في أعماق النّفس والرّؤيا، وتتغلغل في رحم الأرض، فيتّحد الوجود في وحدة جماليّة شعريّة لا تكفّ عن الهطول بإيقاع فريد، هو إيقاع الأنوثة الخالص من شوائب هذا التّاريخ الاستعماريّ الذّكوريّ الطّويل.
إنّ انحياز المرأة للشّعر هو انحياز للمقاومة بمفهومها الشّامل، وهو انحياز للجماليّ الأبديّ، واقتحام ذو دلالة لتاريخ طويل من سيطرة الشّعراء على الشّعر ومنحه صفات الفحولة والعرامة والقداسة والهيبة والتّرفّع. إنّه انحياز يخالف السّائد السّرديّ الّذي وُضعت المرأة في سياقاته لتكونه منذ كانت "شهرزاد" امرأة تسرد الحكاية، وتخلقها، ولكنّها تحفظ الشّعر. كما أنّ انحياز الشّاعرات للشّكل الشّعريّ الجديد (قصيدة التّفعيلة وقصيدة النّثر) يعمّق الإحساس بالمغايرة، من أجل خلق حالة من الوجوديّة الشّعريّة في سياق القصيدة المؤنّثة الّتي أوجدتها نازك الملائكة، لتكون مَعْبَرا حرّا للذات الشّاعرة، ولم يشذّ عن هذه المغايرة سوى قصيدتين، وربّما كان ذلك نوعا من اختراق ذلك الحصن الّذي بناه الشّعراء (الفحول) لأنفسهم، ووقفوا عليه حرّاسا؛ ليمنعوا الشّاعرات من التّوهج في ردهاته ودهاليزه.
لم تعد "نون النّسوة" تسرد الحكايات أو تحفظ الشّعر فقط، بل تخلق القصائد عصافير مغرّدة وأرواحاً هائمة، بل طيوراً جارحة كذلك، لتقف القصيدة، مفارقة موقعها القديم، على غرّة امرأة تزيّنت بجسد القصيدة الملتاع حبّاً وهياماً كونيّاً مطلقاً، وهي تمارس فعلها الجماليّ بحبٍّ وانثيالِ معنى، فالقصيدة أضحت "عربيدة" بتاء تأنيث أصليّة، "لا تنضج إلّا في حانات المجاز"، ولذلك فإنّ لها طقوسها الخاصّة بها. ألم يكن للشّاعر الفحل طقوسه الخاصّة به؟ إذن سيكون للقصيدة المؤنّثة أصلاً وواقعاً العائدة إلى حضن "سيّدة الشّعر" طقسها الحقيقيّ المختلف عن طقوس مجلوبة لصنعة الشّعر وقهر اللّغة وصناعة الحرب والمجاعات ليقابلها تأثيث العالم وتأنيثه بالشّعر، وليس فقط بـ "نون النّسوة"، فيسوده الحبّ، وتزدهر في أفيائه قصائد هؤلاء الشّاعرات.
إنّه الفعل الشّعريّ المؤنّث تأنيثا جماليّا، يصبح فاكهة النّساء، بل ليس فاكهة وحسب، إنّه الضّوء وإشاعة النّور السّرمديّ الممتدّ من عهد القصيدة الأولى إلى آخر طفلة شعريّة سكنت قلب امرأة، أو فاحت بها وردة على وجنتي عاشق مولّه متصبّب وجدا ليقول شعرا، وإذا بالشّعر ينهمر ثرّا غزيرا ناعما كثيفا ورديّا في "نون النّسوة" بأصوات هؤلاء الشّاعرات اللّواتي أعدن الاعتبار لنون النّسوة وجعلن تاء التّأنيث معمارا شعريّا ضروريّا في بنية الشّعر العربيّ المعاصر.
فراس حج محمد/ فلسطين