الإنتفاضة التي لا تموت

بقلم: مصطفى البرغوثي

لو أن ما جرى في نابلس يوم الثلاثاء الماضي، أو في حلحول والخليل يوم الأربعاء الماضي أو في غزة يوم الجمعة، بإطلاق جيش الاحتلال الإسرائيلي للرصاص الحي على سبعين متظاهرا أعزل، حدث في بلد آخر كروسيا، أو الصين، أواسبانيا لقامت قيامة الإعلام العالمي، ولتصدر الموضوع نشرات الأخبار في محطات (CNN ) وفوكس نيوز، ولأصبح خبرا عاجلا على كل محطات الدنيا .
لكن المصابين ، ومنهم الشباب اللذين إستشهدوا كانوا فلسطينيين والقتلة كانوا إسرائيليين ، ولذلك كان التعتيم على الخبر وتجاهله سيد الموقف.
فالإسرائيليون في عرف كثير من وسائل الإعلام الأجنبية محصنون ولهم أن يقتلوا ويتصرفوا كما يريدون، لأنهم فوق القانون الدولي وفوق المسائلة، والفلسطينيون متهمون حتى لو كانوا هم الضحايا والقتلى.
وكل ذلك معيب ، إذ لا يجوز أن تمر مجازر الجيش الإسرائيلي ضد الشباب الفلسطيني مرورا الكرام ، وقد غدا واضحا أن الإحتلال يتعمد البطش بالشباب  بقسوة وشراسة لأنه يظن أن شراسة القمع والتخويف بالقتل سيروع هؤلاء الشباب البواسل.
غير أن تأثير القمع جاء معاكسا تماما لما أراده المحتلون ، فالضفة والقطاع أصبحت تغلي كمرجل، وكأننا نعيش بركانا تحت الرماد قابل للانفجار عند أي استفزاز.
ولا يستطيع الجيش الإسرائيلي أن يدخل مدينة أو حي أو قرية، في أي ساعة ليلا أو نهارا، دون أن يجابه بمئات، وأحيانا بآلاف الشباب ، يتصدون له ويحاولون عرقلة عمليات الإعتقال التعسفية التي يقوم بها.
ورغم تفنن وسائل الإعلام الإحتلالية، ومن يناصرها بالقول أو بالصمت، في محاولة نشر مشاعر الإحباط واليأس، ورغم الغضب على الأداء السياسي للمؤسسات الفلسطينية، وإستمرار ما قرر المجلس المركزي وقفه من تنسيق أمني ، تتعمق في فلسطين جذور ما يمكن وصفه بإنتفاضة شعبية تجري على شكل موجات متكررة ، وبأساليب ووسائل متنوعة ومتعددة.
وقد عاشت الأراضي المحتلة أنشطة المقاومة المتتالية طوال عام 2015 ، ثم اتخذ النضال شكل إنتفاضة شعبية حقيقية في القدس في تموز من عام 2017، وجاء قرار ترامب بشأن القدس في أواخر العام الماضي ليذكي موجات متتالية من المظاهرات والهبات والإشتباكات مع جنود الإحتلال.
يوم الجمعة الماضي رأينا كيف تحولت المظاهرة أمام مستعمرة بيت إيل الى إشتباك شامل بين الشبان الفلسطينيين وجيش الإحتلال الذي إقتحم مدينة البيرة واستخدم كل أنواع الرصاص وقنابل الغاز والمياه العادمة ، وأصاب ليس فقط العديد من المتظاهرين بالرصاص المعدني والحي بل وسبب أذى لا يوصف لمئات العائلات القاطنة في المنطقة بسبب كثافة الغاز الذي أطلق .
ولم يتورع جنود الاحتلال عن إطلاق قذائفهم على الصحفيين ومتطوعي إسعاف الهلال الأحمر والاغاثة الطبية والدفاع المدني بما في ذلك تحطيم زجاج سيارة إسعاف الإغاثة الطبية الفلسطينية بالرصاص وإصابة مسعف وهو داخلها.

على عكس أوهام بعض المرهقين فإن فشل نهج التفاوض، لم يحبط الفلسطينيين بقدر ما اذكى الإدراك الشعبي لدى الشباب الفلسطيني بأنه " ما حك جلدك مثل ظفرك"، ولا بديل عن الإعتماد على النفس، وخوض النضال من أجل الحرية.
وما جرى في جنين يوم إستشهاد الشاب أحمد جرار كان مذهلا إذ خرج الرجال والنساء والشباب والطلاب بالآلاف في مظاهرة عفوية تضامنا مع الشهيد إبن الشهيد، وما جرى في نابلس من إندفاع لآلاف الشباب ، لملاحقة سيارات ومدرعات الأحتلال التي دخلت المدينة، كان بمثابة إستفتاء شعبي على خيار مقاومة الإحتلال ، ورفض الرضوخ لعبوديته.
وكم كان معبرا ما رأيناه عندما زرنا الجرحى المصابين باصابات خطرة في مستشفيات نابلس ، إذ كتبوا على أكفهم إسم الشهيد أحمد جرار قبل أن يصابوا.
يوم الجمعة الماضي تحدى الشباب المتظاهرون ببسالة جنود الاحتلال في رام الله و البيرة، و سلفيت، وبيت لحم، و الخليل، و نابلس، و قطاع غزة، وبيتا، ومادما، وبورين، وبيت فوريك، والمزرعة الغربية، وبدرس وتقوع، و العيسوية، ومخيم شعفاط، ونعلين، وقلقيلية، وكفر قدوم، وبيت فجار، وجنين، و مع ذلك لا يرى بعض الناس، بحكم البعد عن الواقع، مدى تعمق واتساع المقاومة الشعبية الفلسطينية.
هناك جيل جديد من الشباب الفلسطيني، لا يقل وطنية عن أجيال الإنتفاضة الأولى والثانية، يتمرس في  أساليب المقاومة الشعبية، ولا يقبل أن يخدع بالكلام المعسول أو الوعود الفارغة، ولن يتنازل عن حقوقه الوطنية وعلى رأسها حقه في العودة، وفي عاصمته المقدسة القدس.

 

بقلم د. مصطفى البرغوثي
الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية