يقرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن القدس “عاصمة أبدية” للكيان الصهيوني، فلا يصدر عن الدول العربية استنكار جدي أو اعتراض، أو تلويح بموقف جماعي رافض لهذا الإفتئات على الحق العربي المطلق بملكية الشعب الفلسطيني مدينة القدس.. بل يهرب مسؤول “السلطة” الى مجلس الأمن الذي “يفتي” بأن الأمر لا يقع في نطاق اختصاصهّ.
أما الدول العربية فقليل منها من أصدر بيان استنكار، لحفظ ماء الوجه، ومعظمها تصرف على طريقة “لم سمعنا، لم رأينا” ثم أن “لا جديد في الأمر، فاسرائيل تحتل فلسطين جميعاً، ولماذا التمييز بين منطقة وأخرى؟!” وبعضهم قال ساخراً: ان اسرائيل تقتل وتجرح يومياً أعداداً من الفلسطينيين وتعتقل المئات، فهل الحجر أهم من البشر! ان همنا وقف المذبحة!
وبطبيعة الحال فان المجزرة مفتوحة يتساقط ضحاياها شهداء وجرحى على مدار الساعة، وتهدم المنازل والمؤسسات بوتيرة يومية، فيأخذ “العرب” علماً “بالحوادث” ثم يكملون حياتهم بهدوء.
والحقيقة أن العرب، في دولهم، مشغولون بأمور أخرى أكثر أهمية: انهم في مصر مشغولون بمكافحة الإرهاب وعصاباته في سيناء وبعض الداخل المصري، قبل أن يتفرغوا لمعركة التجديد لرئيس الجمهورية..
بالمقابل فإن دول سوريا والعراق، ومعهما اليمن، مشغولة بمكافحة الإرهاب الذي يمتد من “داعش” الى “النصرة” الى “جبهة الشام” الى “فرسان السلطان السلجوقي” الى المقاتلين الأفغان والمرتزقة المجمعة من بلدان شتى تحت قيادة سفاحي “البلاك ووتر” الأميركيين، والذين يقاتلون فيقتلون ويقتلون في كل مكان ولا يجدون من يدفنهم أو يحزن لغيابهم..
الإنقلاب السعودي..
تبقى دول نفط الجزيرة والخليج التي انقسمت حول الجزيرة من غاز، قطر، فكانت تحترب، من أن يتدخل الراعي الأميركي إلا لبيع السلاح (دبابات ومصفحات وطائرات) للأطراف جميعاً، وبالتساوي.. فلما احتاجت المملكة المزيد توجهت الى روسيا ـ بوتين، فرحب بها أجمل ترحيب ووافق على بيعها منظومة من الصواريخ بعيدة المدى..
وثمة تطورات مهمة تشغل السعودية بداخلها عن هموم محيطها العربي.. فبعد حسم ولاية العهد للأمير محمد بن سلمان، نجل الملك الحالي، مما استدعى شطب ولي العهد الأول الأمير مقرن بن عبد العزيز، ثم ولي العهد الثاني الأمير محمد بن نايف، باشر ولي العهد الشاب “ثورته” الشاملة:
اعتقل، بداية مجموعة كبرى من الأمراء (أعمامه وأبناء أعمامه) ومعهم عدد من رجال المال والأعمال المعروفين والذين كانوا نافذين جداً في العهود السابقة… وبعد احتجاز استطال لثلاثة أسابيع، وأحياناً لمدة أطول، أفرج عن هؤلاء جميعاً بعدما دفعوا ما فرض عليهم أن يدفعوه، مع الشكر على إطلاق سراحهم، والتكتم على ما جرى لهم ومعهم في فندق الريتز كارلتون، الأعظم فخامة من أي فندق في العالم.
وكان في جملة من أعتقله رئيس حكومة لبنان السيد سعد الحريري، الذي دعاه الى رحلة صيد، فذهب مغتبطاً.. وهناك احتجز وأجبر على تلاوة بيان استقالة (إجبارية) من الحكومة التي يرئسها، تضمن حملة على شركائه فيها.. ولم يفرج عنه إلا بعد وساطة بذلها الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي كان في زيارة رسمية لأبي ظبي، فطلب إليه ولي العهد في دولة الإمارات أن يبذل مساعيه الحميدة لإطلاق سراح رئيس وزراء لبنان. وهكذا أدخل الرئيس الفرنسي تعديلاً على رحلته، فعرج خلال العودة على الرياض حيث استقبله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فطلب إليه أن يلتقي رئيس الحكومة اللبناني المحتجز، فجيء به الى المطار.. وتعهد ولي العهد أن يخلي سبيله ويفرج عن أسرته فتلحق به العائلة جميعاً الى باريس… وهكذا كان، وعاد الحريري الى بيروت وسط موجة تضامن واسعة شملت الى رئيس الجمهورية وكبار المسؤولين جماهير اللبنانيين الذين استهجنوا ما صدر عن المملكة تجاه أقرب السياسيين اليها، وابن معتمدها لفترة طويلة في لبنان (وسوريا) الرئيس الراحل رفيق الحريري.
ولقد كشفت حادثة احتجاز سعد الحريري في الرياض عمق العلاقة بين وليي العهد في كل من السعودية، الأمير محمد بن سلمان، ودولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد ووصف كثيرون الشيخ محمد بأنه “داهية” ويقولون أن له تأثيره الكبير على الأمير محمد، الذي يتصرف بزخم الشباب معتمداً على رصيده كإبن الملك سلمان، ولا سيما وقد تخلص من النافذين في الأسرة (أبناء أعمامه) ومعظمهم من كبار رجال الأعمال، الذين صاروا “من جماعته”.. بالإضطرار.
وفي تقدير خبراء عارفين بأمور المملكة المذهبة فان الأمير محمد يستقوي بمكانة أبيه، الملك سلمان، ويحاول التخلص من كل من يمكن أن يشكل “شريكاً” أو “منافساً”، من أبناء عمومته الكثر.. وانه بات يعتمد على الجيل الثالث من شباب الأسرة التي تحكم بالسيف والذهب، وهو قد عين الكثير منهم أمراء على الولايات.
كذلك فان العارفين بأمور المملكة وعلاقتها بواشنطن يقولون أن الشيخ محمد بن زايد هو من فتح أبواب البيت الأبيض أمام صديقة الأمير محمد بن سلمان، فاستقبله الرئيس دونالد ترامب و”عقد معه اتفاقاً طويل الأجل” تبدت بعض بنوده حين خصص ترامب زيارته الأولى للسعودية وعاد منها بغنيمة فاقت كل تقديراته: أكثر من أربع مليارات ونصف المليار دولار، عدا عن الهدايا الملكية الثمينة للرئيس وقرينته وابنته وصهره و..
فلسطين يا لوحدك!
ونعود الى فلسطين المنسية التي تشيع كل يوم شهيد أو أكثر، وتحمل جماهيرها بضعة جرحى الى المستشفيات.
لقد سقطت فلسطين من الذاكرة العربية، أو تكاد… فكل بلد مشغول بهمومه الثقيلة، والعديد من الحكومات العربية يفترض أنه قد أدى واجبه وآن ان يرتاح من فلسطين والصراع المفتوح مع العدو الإسرائيلي، والذي يتبدى وكأن النظام العربي غير مؤهل لتحمل مسؤوليته فيه.
وهكذا حلت المناقصة محل المزايدة، فبعد شعار “التحرير من الأرض الى البحر” صارت السياسة المعتمدة الآن: أرض بالقليل منها، مقابل السلام، حتى لا يذهب كل شيء..
فإضافة الى الدول العربية التي اعترفت، رسمياً، بالكيان الإسرائيلي، هناك عدد من الدول (لا سيما بين أقطار الخليج) باشرت بإقامة علاقات مموهة مع دولة العدو… ويحكى عن قنصليات تتلطى خلف الستار التجاري اقيمت في بعض عواصم الخليج، اضافة الى حديث عن خط طيران بين الهند وتل أبيب يعبر أجواء شبه الجزيرة العربية.
وهكذا، ومع غياب السلطة الفلسطينية عن الوعي، وانشغال الدول العربية عنها، تواصل دولة العدو الإسرائيلي التهامها الأرض الفلسطينية، وقد بدأت أصوات المتطرفين فيها ترتفع مطالبة باحتلال القدس كلها، وترك بعض الأرض خارجها للفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم بلا نصير الآن…
في هذه الأثناء بدأ فلسطينيو غزة يتضورون جوعاً، في ظل الحصار الإسرائيلي على هذا القطاع الذي أسقط من فلسطين .. ومن الذاكرة العربية.