دولةً من قلق

بقلم: الأسير كميل أبو حنيش

لا شك أنّ "إسرائيل" تتمتع بقدرات عسكرية وإمكانيات تكنولوجية وعلمية هائلة ولديها اقتصاد مزدهر ونظام سياسي مُستقر، وتتحالف مع أقوى دولة في العالم، وعلى صعيد المنطقة تنفردْ "إسرائيل" بكونها القوة العسكرية الأولى ويُعد جيشها الرابع على مستوى العالم، ولا نُبالِغ إذا قلنا أنّ "إسرائيل" حولت ذاتها إلى قلعةٍ ما فتأت تسعى لتطوير سلاحها ومنظومتها الأمنية إلى درجة الهوّس حتى باتت مسألة الأمنْ هاجساً مزمناً تخضع له كافة مكوناتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأكاديمية والإعلامية والدبلوماسية.

لقد رافقت "إسرائيل" مُنذ نشأتها إلى اليوم هواجساً أمنية تعصف بها باعتبارها كياناً استيطانياً غريباً عن المنطقة، ومحاطة ببحر من الأعداء على حد وصف قادتها، ومنذ سبعين عاماً تعيش "إسرائيل" مع القلق ولا يكاد يمر يوماً من دون أنْ تُعايش هذا القلق المترسخ في بنيتها وتكوينها، ومع أنّها كيان عدواني بطبيعتها إلاّ أنّ حروبها بالأساس نابعةً من أساس الخوف والهواجس التي تساورها على الدوام.

وقد شهدت "إسرائيل" مُنذ نشأتها محطات ولحظات تاريخية توصف بالهستيرية، وعاشت حالةً من الهلع والرعب الجماعي وهو ما يُعبّر عن المأزق المتأصل فيها والذي يعكس مدى هشاشتها بالرغم من كل ما تتمتع به من مظاهر القوة، فعشيّة حرب عام 1967 عايشت "إسرائيل" لحظة من القلق الوجودي جعلها تعيش أياماً عصيبة قبل أن تشنّ حربها الاستباقية وتحوّل القلق إلى انتصار كاسِح على العرب، جعلها تعيش حالةً من النشوة بانتصارها على الجيوش العربية، كما عايشت حالة مشابهة من القلق في أعقاب اندلاع حرب تشرين عام 1973، ولا تزال هذه الحرب تُشكّل صدمة كبيرة مطبوعة في الذاكرة الجماعية بعد هذه الحرب المفاجأة التي شنّها العرب واختراق خط "بارليف" قبل أنْ تقف الحرب عند حدودها المعروفة ونتائجها الهزيلة من ناحية العرب، وفي أعقاب حرب الكويت عام 1991وقصف العمق الإسرائيلي بعشرات الصواريخ البالستية العراقية عايشت "إسرائيل" هذه الحالة من  القلق والرعب استمرت لأسابيع قبل أنْ تنتهي هذه الحرب بنهايتها المعروفة.

وهذه الأيام تعيش "إسرائيل" حالة من القلق المتنامي وإنْ لم يصل بعد إلى الحالة الهستيرية وهي ترقب ما يجري على الجبهة الشمالية من تطورات قد تتدحرج باتجاه الحرب، وهواجسها هذه المرة من نوع مختلف قياساً بالحروب التي خاضتها طوال 70 عاماً، وما يثير فزع "إسرائيل" مِن هذه الحرب المحتملة على الجبهة الشمالية نابع من اعتبارات عديدة لم تشهدها في حروبها السابقة، حيث عبرت السنوات الأخيرة عن حالة من الهوس تجلت بإجرائها عدداً من المناورات العسكرية التي افترضت خوضها لحرب مركبة تشكل مزيجاً من الحرب التقليدية مع جيوش نظامية وحرب العصابات وإمكانية انفجار انتفاضة فلسطينية، حيث تنفجر كلها مرةً واحدة وعلى كافة الجبهات، فضلاً عن استخدام تكتيكات عسكرية لم تعتدها إسرائيل في حروبها السابقة وإمكانية احتلال المواقع وبلدات ومدن "إسرائيلية" الأمر الذي سيؤدي إلى قلب مُعادلة الحرب ويضع" إسرائيل" في مأزق كبير وهو أسوء كوابيسها على الإطلاق.

فالوجود الإيراني على الأراضي السورية يشكل خطراً استراتيجياً كما تراه "إسرائيل" ولا يمكنها التسليم به، وقد شكّلت حادثة إسقاط الطائرة الحربية "الإسرائيلية" قبل أيام مؤشراً سيئً لإمكانية اندلاع هذه الحرب من ناحيتها، ولكن من المبكر القول أنّ حادثة إسقاط هذه الطائرة قد غيرت قواعد اللعبة، ومع أنّ "إسرائيل" حاولت التقليل من شأنْ هذه الحادثة، إلاّ أنّها سَتعيد حساباتها جيداً بشأن طلعاتها الجوية وتوجيه ضرباتها للأراضي السورية واللبنانية.

لقد باتت الحرب احتمالاً ترجحه أوساط عديدة في "إسرائيل"، ولكن ما يثير مخاوف المستوى العسكري هو الاعتبارات والتهديد :-

أولاً: منذ خمسة وأربعين عاماً أي منذ العام 1973 لم تخض "إسرائيل" حرباً مع جيوش نظامية، وفي حال اندلاع الحرب مع سوريا سيتعين على "إسرائيل" أنْ تُحارب جيشاً تغيرت وسائله وتنوعت تكتيكاته وفوق كل ذلك تسانده قوة عظمى كروسيا لن تسمح بهزيمته على غرار ما جرى في حرب عام 1967، بالتالي فإن القوة العسكرية "الإسرائيلية" ستكون مكبلة ولن يكون بمقدورها إلحاق الهزيمة الساحقة بالجيش السوري.

ثانياً: ستتواجه "إسرائيل" في هذه الحرب مع إيران مباشرة لأول مرة وهذه القوات الإيرانية المتواجدة على الأراضي السورية ليست قوات نظامية وإنما مليشيات مدربة على فنون حرب العصابات إلى جانب قوات حزب الله المهيأة منذ زمن بعيد لخوض غمار هذه الحرب، وهذا يعني أنّ "إسرائيل" ستخوض حرباً معقدة في الجبهة الشمالية تتمازج فيها الحرب الكلاسيكية مع حرب العصابات وهذا النوع من الحروب لم تختبره "إسرائيل" بعد.

ثالثاً: كما تخشى "إسرائيل" إمكانية امتداد الحرب إلى قطاع غزة فضلاً عن أمكانية اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة مما يعني أنه يتعين على "إسرائيل" مُواجهة سيناريو خوض الحرب على كافة الجبهات، الأمر الذي يفرض عليها تحديات غير مسبوقة تتنوع فيها أنماط وأشكال المواجهة.

رابعاً: وفي هذه الحرب تمتلك الجهات المعادية "لإسرائيل" ترسانة ضخمة من الصواريخ وتكنولوجيا متطورة وأعداد كبيرة من الطائرات بدون طيار، وهذا يعني أن الجبهة الداخلية في "إسرائيل" ستكون مكشوفة بالكامل وسيكون العمق "الإسرائيلي" من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب في مرمى الصواريخ، حيث تقدر "إسرائيل" سقوط عشرات الآلاف من القذائف الصاروخية فوق بلداتها ومدنها الرئيسية وبهذا سيجري شل الدولة بالكامل.

خامساً: كما تتخوف "إسرائيل" من إمكانية سيطرة حزب الله على مناطق في شمال فلسطين وسيطرة الفلسطينيين على بلدات محاذية لقطاع غزة من خلال الأنفاق التي لم تتمكن "إسرائيل"  بعد من كشفها وتدميرها.

ولعلّ السيناريو الأخير هو أشد ما يؤرق "إسرائيل" وتعتبره نقطة تحول إستراتيجي في مسار الحروب ومصير "إسرائيل" ومستقبل وجودها، أمّا الثمن السياسي الذي ستدفعه "إسرائيل" في حال فشلها في تحقيق أهدافها سيكون باهظ التكلفة، لا ونحن هنا لا نتحدث عن نصرٍ أو هزيمة لأنّ عصر الانتصارات و الهزائم الصافية قد ولى، وبهذا فإنّ فشل "إسرائيل" في تحقيق أهدافها المتمثلة في القضاء على الوجود الإيراني في سوريا سيجعلها تضطر للتخلّي عن الجولان في أيّ تسوية في حال جرت أيّة مقايضة الوجود الإيراني بسوريا بالجولان المحتل، أمّا التخوف الثاني الذي يثير قلقاً كبيراً في "إسرائيل" يتلخص بالتالي:-

ماذا لو أفرزت نتائج هذه الحرب واقعاً دولياً يضغط باتجاه تسوية شاملة للصراع في الشرق الأوسط؟ وهل سيكون بوسع "إسرائيل" التصدي للضغوط الدولية التي ستطالبها بإخلاء الضفة الغربية والجولان؟!

لا شكّ بأنّ "إسرائيل" في موقف لا تحسد عليه وهي ترى بنفسها قوة مكبلةً تجري أمامها تحولات ليست بصالحها وليس بمقدورها أنْ تفعل شيئاً وتتردد باتخاذ قرار شن الحرب، فقدرتها على المناورة باتت محدودة للغاية ولا توجد أية ورقة في يدها سوى الورقة العسكرية، فهل ستلعب هذه الورقة؟

أمّا المُعضلة الأخرى من الناحيتين العسكرية والسياسية تتمثل في أن "إسرائيل" ليس بمقدورها احتلال أراضي عربية جديدة كما حدث في حروبها السابقة، لأنّ الظروف تغيرت وستواجه تحديات جديدة، وعلى أية حال سواء اندلعت الحرب ام لم تندلع فإنْ قضية الجولان المحتل باتت تحتل مركز الصدارة في هذه الأزمة القائمة.

ومن زاوية أخرى وقد كون هي الأكثر أهمية تتمثل في الولايات المتحدة وحساباتها في المنطقة، فهل ستمنح الولايات المتحدة الضوء الأخضر "لإسرائيل" في شنّ مثل هذه الحرب؟ وماذا عن إمكانية تصادمها مع روسيا أو إمكانية اشتعال حرب شاملة في المنطقة؟ وهل تمتلك الولايات المتحدة الوقت الكافي لتشكيل تحالف من الدول العربية المرتبطة معها إلى جانب "إسرائيل"؟ وكيف ستتصرف الشعوب العربية إزاء هذا الحلف؟

ثمة مخاوف أمريكية من تدهور الأوضاع في المنطقة وخسارتها لوجودها في الحراك مثلاً في حال اندلاع مثل هذه الحرب، أو إمكانية حسم الحرب في اليمن لصالح الحوثيين، هذا يعني امتداد الحرب إلى دول الخليج وانتشار الأزمات في المنطقة برمتها، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة على الوجود الأمريكي بالمنطقة في ظل الانحسار التدريجي للحظتها التاريخية في العالم.

وقد يكون من المبكر الاستنتاج الذي قد لا يبدو واقعياً بانحسار الوجود الأمريكي في المنطقة، ولكننا نثير تساؤلاً مشروعاً: ألا تشبه هذه اللحظة التاريخية التي تمر بها المنطقة لحظة انحسار الإمبراطورية البريطانية الغاربة من المنطقة قبل أكثر من نصف قرن؟!

ومهما كانت نقاط التشابه والاختلاف بين انحصار الحقبتين البريطانية والأمريكية، ومهما كانت الإجابة على هذا التساؤل فإنه ينبثق تساؤل آخر حول جدلية العلاقة بين "إسرائيل" بوصفها دولة وظيفية وبين الولايات المتحدة كوريثة تاريخية للمنظومة الاستعمارية العالمية، والسؤل المطروح: ما هو الدور المطلوب من "إسرائيل" لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة وهي تقف عاجزة عن حماية نفسها؟ وكيف ستتصرف الولايات المتحدة لحماية "إسرائيل" والدفاع عن أمنها إزاء هذا المشهد المعقد في المنطقة؟ وهل ستكون الولايات المتحدة على استعداد للتورط في حرب جديدة؟! ففي حال قررت الدول الكبرى البحث عن تسوية لنزع فتيل هذه الحرب فمن سيكون لخاسر ومن سيكون الكاسب من وراء هذه التسوية، وفي حال أصرّت "إسرائيل" أنْ يجري مراعاة مصالحها في هذه التسوية فما هو الثمن الذي يتعين عليها دفعه مقابل ذلك؟!

وفي كل الأحول سوف نشهد في قادم الأيام تطوراً لهذه الأزمة التي مِنْ شأنها أنْ تتصاعد وتصل إلى منعطفات حادة قد تصل إلى حافة الحرب، لننتظر ونرى كيف ستتصرف أطراف هذه الأزمة وخاصةً "إسرائيل" التي باتت الدولة الأكثر تخصصاً في صناعة القرار، بل باتت دولة مصنوعة من القلق وستظل دولة مكبلة بالهواجس.

 

الأسير كميل أبو حنيش قيادي ومسئول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سجون الاحتلال.