مرة أخرى ... لو تفتح عمل الشيطان؟

بقلم: هاني المصري

دائمًا ما أفكر، وربما يفكر كثيرون غيري، حول ماذا سيحدث وسيكون لو أن الأحداث سارت في طريق مختلف عن الطريق الذي سارت فيه فعلًا؟

لو، ولو تفتح عمل الشيطان، ومع ذلك علينا أن ندرس الماضي ونرى هل ما كان أبدع مما كان، أم أنّ الأمور كانت ممكن أن تسير أفضل مما سارت عليه، فلم يكن حتميًا أن تأخذ الاتجاه الذي أخذته، بل كان هناك دائمًا خيارات عدة، والإنسان مسؤول عن اختياراته التي لا تكون إجبارية في الكثير من الأحيان.

ماذا لو لم يتم الرهان على "الصديقة" بريطانيا بعد "انتدابها" لفلسطين، وتم الإدراك منذ وقت مبكّر أنها ملتزمة بإقامة وطن قومي لليهود، ولن تفي بوعودها للشريف حسين بإقامة دولة عربية، وأنها ستمضي في طريق الوفاء بوعد بلفور لأن إسرائيل كيان استعماري أقيم لخدمة الدول الاستعمارية وليس لحل مأساة اليهود كما يزعمون؟

ماذا لو قرر المفتي الحاج أمين الحسيني والقيادة الفلسطينية عند صدور قرار التقسيم الجمع ما بين رفض القرار وهو الموقف الطبيعي، والشروع في نفس الوقت في إقامة الدولة العربية الفلسطينية المنصوص عليها فيه، تمامًا مثلما فعلت الحركة الصهيونية، التي رفضت عمليًا قرار التقسيم، إذ لا يوجد أي وثيقة تثبت أنها وافقت عليه، ولكنها أوحت أنها وافقت عليه، وتجاوزت فعليًا الحصة المنصوص عليها فيه لإقامة الدولة اليهودية، حيث أقامتها على 78%؜ من أرض فلسطين، في حين كانت مساحة الدولة اليهودية في القرار 56%؟

ماذا لو لم يقع جمال عبد الناصر في الفخ الإسرائيلي الذي نُصب له عشية حرب حزيران ولم يتصرف وكأنه يريد محاربتها، في حين أنه أراد منع إسرائيل من الاستفراد بسوريا، ولم يكن ينوي شن الحرب قبل أوانها، وقبل أن يستكمل الاستعدادات الضرورية لخوضها. فقد أثبتت الوثائق الإسرائيلية عن حرب حزيران أن إسرائيل كانت تدرك أن عبد الناصر ليس جاهزًا لخوض الحرب، وإنما كان بحاجة إلى عام ونصف إلى عامين حتى يكمل استعداده، فاستدرجته إسرائيل للحرب، ووجهت له ضربة قاصمة، وادعت أنها خاضت حربًا استباقية دفاعية لحماية نفسها؟

ماذا لو أن القيادة الفلسطينية والمعارضة، أي جبهتي القبول والرفض للحلول السياسية، لم تتعاملا على أساس أن قطار التسوية الذي انطلق بعد حرب تشرين 1973 جارف، إذ كان يمكنهما عدم الالتحاق به بشروط سيئة، أو معارضته، لأنه سيؤدي حسب الوهم إلى دولة فلسطينية على 22% من أرض فلسطين، أو دولة مسخ لا تملك مقومات على جزء من الوطن السليب؟

ماذا لو لم ينجر صدام حسين إلى الحرب ضد إيران، ولم يقم باحتلال الكويت، ولم يصدق إيحاء السفيرة الأميركية بأن بلادها ليست مهتمة بمصير الكويت، أو اكتفى باحتلالها وانسحب بسرعة منها، وصدق أن حشد أكثر من 750 ألف جندي وضابط من الحلفاء، منهم أكثر من 550 ألف أميركي، ليس مجرد مناورة تستهدف تخويفه، وتعامل مع الحرب بأنها قادمة، وعمل بناء على ذلك كل ما يلزم لتجنبها بدلًا من الوقوع تحت تأثير وهم بأن "لا حرب لا حرب لا حرب"؟

ماذا لو لم يستعجل ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية باستثمار الانتفاضة الشعبية الأولى، متصورة أن الدولة الفلسطينية على مرمى حجر، وأنها يمكن أن تتحقق عبر المفاوضات، ولم تقدم الموافقة الفلسطينية على قراري 242 و338 اللذين تعاملا مع نتائج حرب حزيران 1967، متجاهلَيْن أصل الصراع، وهو النكبة وتشريد الشعب الفلسطيني العام 1948؟

ماذا لو لم تعترف القيادة الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود وبقية التزامات أوسلو السياسية والأمنية والاقتصادية، وتخلت عن معظم أوراق القوة من دون حل الصراع ولا حتى اعتراف إسرائيل بأي حق من الحقوق الفلسطينية. فإسرائيل اعترفت عبر الرسائل المتبادلة بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بالمنظمة كممثل شرعي، ولم تعترف لا بحق تقرير المصير، ولا بحق العودة، ولا بإقامة دولة فلسطينية؟

ماذا لو أدركت القيادة الفلسطينية أن إسرائيل بحاجة إلى الاتفاق بدرجة لا تقل كثيرًا عن حاجة الفلسطينيين إليه، ولم تفصل القدس عن بقية الأراضي المحتلة، ولم تقبل بتقسيمها إلى (أ) و(ب) و(ج)، والتعامل معها وكأنها أرض متنازع عليها وليست محتلة؟ وماذا لو لم تفصل بين المرحلتين الانتقالية والنهائية، وأصرت على وقف الاستعمار الاستيطاني كليًا كشرط لا بد منه لأي عملية سياسية؟

ماذا لو تم تفعيل وإصلاح منظمة التحرير بشكل ديمقراطي قبل أوسلو، أو بعده، ولم يتم توقيع اتفاق أوسلو رغم الظرف الصعب، وتم إدراك أنه فخ وليس فرصة، وأن إسرائيل غير جاهزة للسلام، ولم تعترف وليست جاهزة للاعتراف بأي حق من الحقوق الفلسطينية؟

ماذا لو تمّ الاتفاق على الميثاق الوطني، بما يشمل الأهداف وقواعد العمل والشراكة والقيم والقواسم المشتركة قبل دخول "حماس" إلى السلطة والمشاركة في الانتخابات؟

ماذا لو  لم تقم "حماس" بالحسم/الانقلاب، أو لو تمت استعادة الوحدة الوطنية على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية كاملة قبل القرار الأميركي بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وقبل الشروع في محاولة لتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها (مع أنها يمكن أن تفشل كسابقاتها لأن الشعب الذي حماها دائمًا لا يزال يقف بالمرصاد لمن يحاول تصفيتها)، من خلال الانتقال من الحل المتفاوض عليه غير المتوازن إلى فرض الحل الإسرائيلي بتحول أميركا من موقف الانحياز لإسرائيل إلى الشراكة مع الاحتلال؟

وأخيرًا، ماذا لو تم التخلص من التزامات أوسلو، بعد انهيار قمة كامب ديفيد وشن العدوان الإسرائيلي ومحاصرة ياسر عرفات واغتياله، ولو لم يتم الأخذ بخطة خارطة الطريق التي هدفت إلى تحجيمه، وإيجاد قيادة فلسطينية جديدة مختلفة كما طالب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في خطاب له في حزيران 2002؟

ماذا لو غادرت القيادة إستراتيجية تطبيق الالتزامات من جانب واحد المعتمدة منذ اغتيال عرفات، والتي تحولت إلى إستراتيجية البقاء والانتظار، واعتمدت بدلًا منها إستراتيجية سياسية نضالية مبادرة، متعددة الأبعاد والأطراف، تراهن أساسًا على الشعب ووحدته، وعدالة قضيته وتفوقها الأخلاقي، والتأييد العربي والإسلامي والتحرري الإنساني، وتعتمد على الكفاح لتغيير موازين القوى، وعلى إيجاد واقع سياسي جديد يجعل الحقوق الفلسطينية أمرًا لا يستطيع أحد مهما كان تجاوزه؟

لم يكن قدرًا لا مهرب منه أن تسير الأمور في الطريق الذي سارت فيه، فدائمًا كان هناك خيار أو خيارات أخرى.  وليس من القدر أن تبقى حاليًا تسير في نفس الاتجاه، إذا تم الأخذ بأسباب الانتصار، على أساس مراجعة التجربة واستخلاص الدروس والعبر، وتوفر الوعي والرؤية والإرادة القادرة على الانتصار.

ومثلما يقال عندما تكون هناك إرادة تكون هناك طريق ... أليس كذلك؟

بقلم/ هاني المصري