تعدّ مبادرة الرئيس محمود عباس المتضمنة في الخطاب الذي ألقاه في مجلس الأمن الأسبوع الماضي مراوحة في نفس المكان، إن لم تكن خطوة إلى الوراء، وإعادة إنتاج لخيار المفاوضات، والرهان على العمل الديبلوماسي والأمم المتحدة. في حين كان المتوقع والمنطقي بعد التطورات العاصفة بلورة خيار آخر يقدم بديلًا متكاملًا، أو التقدم على الأقل خطوات على هذا الطريق. هل هذا الاستنتاج صحيح، وإذا كان كذلك فكيف يمكن تفسيره، وما العمل الممكن والمطلوب إزاء ذلك؟
أدق وصف ينطبق على هذه المبادرة "زي اللي رايحين على الحج والنَّاس راجعين"، أو "اللي بدهم يعملوا عرس بدون العروس أو العريس"، أو الذي "يدعو ويعمل للسلام بينما عدوه يواصل الحرب والعدوان والاستيطان"، ويستعد لتصعيده بشكل شامل، كما يظهر بكل ما يجري على أرض الصراع من ضم وتهويد زاحف وحركة سياسية إسرائيلية أميركية تستهدف فرض الحل الإسرائيلي.
وعندما يتم رفع قضية القدس عن طاولة المفاوضات كما غرد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكثر من مرة تكون النتيجة الوحيدة لذلك إزالة الطاولة برمتها وعدم وجود ما يتفاوض حوله، وتغيير قواعد اللعبة برمتها، وحينها يصبح الحديث عن المفاوضات عبر المؤتمر الدولي أو غيره بلا معنى، ومحاولة اللعب في وقت انتهت فيه اللعبة.
إنّ الحديث عمّا سبق يهدف إلى كسب الوقت ورفع العتب وإرسال شهادة حسن نية بأننا على العهد باقون، ولمنع نشوء الفراغ، ولقطع الطريق على البديل الطبيعي لفشل خيار المفاوضات، وهو المواجهة أو الاستعداد للمواجهة، بهدف الحفاظ على القضية حية، وعلى وجود وصمود الشعب على أرض وطنه إلى أن تتغير الظروف.
تأسيسا على ماسبق، فإن ما سيحدث في ظل المعطيات القائمة أن المبادرة ليست للتطبيق، ومن يطرحها يعرف ذلك أكثر من أي شخص آخر، وإنما محاولة اعتراضية تهدف إلى البقاء ومنع المزيد من التدهور، وترسل رسالة بأن الفلسطينيين لم يغادروا الاتفاقات والالتزامات وخيار المفاوضات، حتى وهم يعلنون على لسان الرئيس وفي قرارات المجلس المركزي انتهاء أوسلو، بدليل الإعلان المتكرر عن استمرار الالتزام بالاتفاقات، وأن التنسيق الأمني وغيره من الالتزامات مستمرة، فضلًا عن اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية على مستوى رئيس الحكومة والوزراء مع المسؤولين الاسرائيليين.
كيف يمكن تفسير وقف الاتصالات مع الإدارة الأميركية واستمرارها مع الاحتلال؟ قد يبرر لها بأنها لتلبية الاحتياجات الإدارية والمعيشية، والرد على ذلك بأنها يمكن أن تُلبى من دون لقاءات سياسية وعلى مستوى عالٍ.
في هذا السياق لا مغزى لإعلان صائب عريقات بأن الرئيس الفعلي للسلطة هو وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، ورئيس الحكومة هو منسق شؤون المناطق يوآف مردخاي. فهو مثله مثل الإعلانات التي سمعناها منه ومن الرئيس طوال السنوات السابقة عن "السلطة بلا سلطة" "وتسليم مفاتيحها للاحتلال"، لأن المطلوب إذا توفرت القناعة الحقيقية بذلك تغيير طبيعة السلطة ووظائفها والتزاماتها، وليس بقاءها كما هي عليه.
المعضلة أن مثل هذه الخيارات والسياسات المعتمدة منذ أكثر من ربع قرن لم تحافظ على الوضع، بل يتدهور باستمرار وبتسارع أكبر بعد مجيء ترامب إلى البيت الأبيض.
يقال إن هذه المبادرة يمكن أن تُفَعِّل الأدوار الأخرى، الأوروبية والروسية والصينية والدولية، وهذا الرهان إذا لم يكن جزءًا من بديل متكامل فهو خاسر، لأن هذه الأطراف أبلغت الجانب الفلسطيني بأنها لا تطرح نفسها بديلًا عن الولايات المتحدة، وإنما مساعدة لها، بحجة أن واشنطن وحدها تملك التأثير على إسرائيل.
وهذا الموقف المشترك تبنته بعض الدول العربية الوازنة والفاعلة، وهو ما يفسر التغيير الذي حصل في الموقف الفلسطيني من رفض أي دور أميركي في رعاية المفاوضات، وهذا لم يكن منطقيًا، إلى رفض الاحتكار الأميركي، ولذا يمكن أن نشهد تحركات أوروبية وفرنسية، وروسية تحديدًا، لعقد لقاءات ثنائية فلسطينية إسرائيلية، أو حتى مؤتمر دولي تقليدي، أو حتى ضمن آلية دولية موسعة ومتعددة لرعاية المفاوضات، كما صرحت ناطقة باسم الخارجية الأميركية بعد خطاب الرئيس بهدف استئناف المفاوضات الثنائية بلا مرجعية سوى المفاوضات نفسها، والأخطر لتوفير غطاء للحل الإسرائيلي الجاري تنفيذه على الأرض بتسارع ومن دون انتظار.
لا تكمن المعضلة التي تعانيها العملية السياسية فقط بصيغ رعاية المفاوضات، ولا بعدم صدور قرارات دولية، بل صدر المئات منها من مجلس الأمن والجمعية العامة ولم تنفذ، وإنما في عدم وجود شريك إسرائيلي يقبل بالتسوية، حتى لو كانت مختلة لصالحة، فهو يريد كل شيء، ولا يقدم سوى فتات الحكم الذاتي تحت السيادة الإسرائيلية.
كما تكمن المشكلة في وجود دعم أميركي مطلق لإسرائيل انتقل حاليًا إلى الشراكة الكاملة للاحتلال، وفي عدم وجود إرادة وقدرة دولية على فرض تطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، الأمر الذي من المفترض أن يجبر الفلسطينيين على تغيير قواعد اللعبة جوهريًا، التي اعتمدت منذ توقيع اتفاق أوسلو، وليس إعادة إنتاجها باستمرار، الأمر الذي يعكس العجز والخضوع للضغوطات وفقدان الإرادة، والخشية من البدائل، والحرص على بقاء السلطة وكأنها الغاية وليست وسيلة لتحقيق الأهداف والحقوق الوطنية.
عندما تفشل المفاوضات وتقود إلى عكس المأمول منها لا يكون الحل المزيد من المفاوضات، وإنما العمل على جمع عناصر القوة والضغط التي تستطيع تغيير قواعد اللعبة، والانطلاق من القناعة بأن من المستحيل تصفية القضية الفلسطينية من دون غطاء فلسطيني، وأن الغطاء العربي لا يكفي حتى لو تم توفيره، ومن الصعب توفيره إذا اتُخذ موقف فلسطيني واضح يرسل رسالة للجميع بأنه لا يمكن التراجع عنه، بل سيتم البناء عليه.
أما اتخاذ موقف ردة فعل والوقوف عنده انتظارًا لما سيأتي، فلن يكون قادرًا على دفع الإدارة الأميركية إلى التراجع، ولا على جعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل، بحيث تكون مجبرة على التفكير بالتوصل إلى تسوية. فالتسوية عن طريق المفاوضات وإثبات حسن النوايا فشلت وكانت محكومة بالفشل .
لا بديل عن مقاربة جديدة تقوم على إعطاء الأولوية لاستعادة الوحدة، واعتماد المقاومة كنهج شامل بما يخدم تحقيق الأهداف، وبناء مؤسسات الإجماع الوطني في السلطة/الدولة والمنظمة، بصورة تضمن تمثيل مختلف القوى على أسس وطنية وتعددية وتشاركية، وعلى أساس رؤية وطنية شاملة وإستراتيجية نضالية تعمل على تغيير موازين القوى وليس الخضوع لها بالجملة أو بالمفرق، أو التعايش معها على أساس ليس بالإمكان أبدع مما كان.
في هذا السياق يمكن طرح صيغة عقد المؤتمر الدولي المستمر كامل الصلاحيات، وفي إطار دولي مرجعيته واضحة وملزمة للمشاركين، وهي القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، على قاعدة الإدراك التام بأن عقده غير متاح الآن، بل بحاجة إلى عملية كفاحية وإستراتيجية متعددة الأبعاد والأشكال والأدوات، تدرك أن نقطة الثقل والرهان ليس على العامل الدولي والأمم المتحدة رغم أهمية ذلك، وإنما على الشعب وقضيته العادلة وأبعادها العربية والإسلامية والمسيحية والتحررية والإنسانية، وعلى ما يجري على أرض الصراع وفي صفوف الشعب، بحيث يتم خلق تدريجي لواقع سياسي لا يمكن العودة عنه، يفرض أخذ الحقوق الفلسطينية وعدم إمكانية تجاوزها.
من دون تغيير قواعد اللعبة، والاستمرار في الانقسام والحصار وسياسة التدمير الذاتي، سيستمر التدهور والصراع على السلطة الواقعة تحت الاحتلال، وخصوصًا على من يسيطر على قطاع غزة. فالمطلوب إدخال القطاع إلى بيت الطاعة، كونه مركز الحل التصفوي القادم، ولا أقول الدولة، لأن الاحتلال لا يريد دولة فلسطينية لا في الضفة ولا في القطاع، حيث يتواصل فيه وعليه التنافس الفعلي الفلسطيني والعربي والإقليمي والدولي، واللاعب الاسرائيلي رئيسي، على أمل أن يكون للفائز النصيب الأكبر من مشاريع استغلال النفط والغاز، وبناء الميناء والمطار، وإقامة المشاريع الضخمة، مثل تحلية المياه، وتوليد الكهرباء والطاقة على اختلافها، وإعادة الإعمار.
والهدف من ذلك وَمِمَّا سمي صفقة ترامب على ضم أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة المحتلة مع أقل عدد ممكن من السكان، وما يفتحه هذا من أبواب التهجير الطوعي والقسري والتوطين للاجئين، وإعادة تهجيرهم إلى بلدان ثالثة، وربما إلى القطاع بعد توسيع مساحته الذي يبدو حاليًا أمرًا مستبعدًا أو مستحيلًا،كونه خيارًا مرفوضًا مصريًا وفلسطينيًا، وقد يغدو بعد فترة ممكنًا وتحصيلًا حاصلًا إذا استمر التدهور الحاصل.
وهناك خيار آخر يمكن أن يقلب الطاولة على اللاعبين، لكنه بحاجة إلى قناعة ورؤية وإرادة وخطة عمل قابلة للتنفيذ. وهذا غير متوفر لا عند القيادة ولا عند "حماس" ولا عند غيرهما كما تدل حالة التوهان التي تميز الجميع وسيادة سياسة ردود الأفعال بدلًا من سياسة فاعلة قادرة على استشراف المستقبل.
إن طريق تغيير قواعد اللعبة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من كارثة بحاجة إلى تشكيل جبهة إنقاذ وطني، تسعى للضغط السياسي والشعبي على طرفي الانقسام، ولضم مختلف القوى والعناصر بلا استثناء أحد، على قاعدة أن تغير المسار بات ضرورة ملحة لا تحتمل المزيد من إضاعة الوقت والانتظار لغودو الذي لن يأتي.
بقلم/ هاني المصري