كتبنا كثيرا عن مخاطر الانقسام على المشروع الوطني وأنه كلما تأخرت المصالحة كلما ترسخ الانقسام وأصبح التراجع عنه أكثر صعوبة ، أيضا حذرنا من تداخل ملفي المصالحة والتسوية السياسية و خروج حوارات المصالحة عن سياقها الوطني . للأسف فإن مكابرة وعناد طرفي حوارات المصالحة واستمرار مراهناتهما الفاشلة على محاور ومتغيرات خارجية أدى لخروج حوارات المصالحة عن سياقها الوطني ودخولها في متاهات لا تبشر بقرب تحقيق المصالحة كما يريدها الفلسطينيون .
كل ما يتم الإعلان عنه رسميا عن حوارات المصالحة الفلسطينية في جولتها الأخيرة منذ اكتوبر 2017 لا يعبر عن حقيقة ما يجري أو إنه اجتزاء للحقيقة ،سواء تعلق الأمر بما يصدر عن حركتي فتح وحماس أو عن الوسيط المصري ، ذلك أن الحوارات التي تجري تحت عنوان المصالحة الفلسطينية لم تعد تندرج في نفس سياقات الحوارات التي كانت مع بدء الحوارات عام 2009 كما انها لا تندرج في سياق تنفيذ اتفاق 2011 . طرفا الحوار - حركة حماس وحركة فتح – اليوم ليستا كما كانتا عند بداية الحوارات كما أن راعية الحوار – مصر- اليوم ليست هي مصر قبل 2011 ، كما تغير الوضع الإقليمي والدولي .
يترتب على ذلك أن استعمال أطراف حوارات المصالحة نفس الخطاب السابق عن المصالحة فيه قدر كبير من التضليل ومحاولة تسكين الجماهير أكثر مما يعكس حقيقة ما يجري ، فما هو خفي فيما يجري في حوارات اليوم أكثر وأخطر مما هو مُعلن .
التضليل يبدأ من اعتبار الانقسام نتيجة خلافات فتح وحماس فقط وأنه بدأ مع سيطرة حماس على قطاع غزة في 14 يونيو 2007 ،ويتواصل التضليل مع حصر الأطراف المُعيقة للمصالحة بحركتي فتح وحماس وللأسف فإن هاتين الحركتين وبالرغم من تحملهم قدرا لا يُستهان به من المسؤولية إلا أنه بتحميل كل طرف منها الطرف الآخر المسؤولية عن الانقسام وإعاقة المصالحة إنما تُدينان نفسيهما وتقعان في خطيئة تبرئة إسرائيل وأطراف خارجية من المسؤولية عن الانقسام بداية وعن استمراره وإعاقة المصالحة لاحقا .
المشهد الأكثر إثارة واستفزازا في خطاب التضليل عندما تقول كل الأطراف بأن مشكلة الموظفين والرواتب سبب تعثر المصالحة ،فمصيبة وإهانة للشعب الفلسطيني أن يكون المال سببا في دمار المشروع الوطني وفي مأساة قطاع غزة !!! .
بل يمكن القول بأن الوسيط المصري في الجولات الأخيرة للمصالحة ليس بعيدا عن خطاب التضليل وعن المسؤولية عن إعاقة المصالحة بمفهومها الوطني الفلسطيني وذلك لاعتبارات سياسية وإستراتيجية ترتبط بالأمن القومي المصري وبالمصلحة القومية المصرية التي أصبحت مرتبطة بمعادلات دولية وبصفقة القرن القادمة ولأن مصر تعرف الحقيقة حول أسباب فشل المصالحة .
الحوارات التي تجري في الفترة الأخيرة في القاهرة وفي غزة من خلال الوفد الأمني المصري خرجت عن سياقها الوطني حيث تداخلت قضايا متعددة لم تكن موجودة عند بدء حوارات المصالحة في القاهرة عام 2009 أو عند توقيع اتفاق المصالحة 2011 ، بحيث يجوز القول إن المصالحة الوطنية الحقيقية باتت شاهد زور على ما يجري في الاتصالات والتحركات المصرية الأخيرة ، ومصطلح (حوارات المصالحة الوطنية الفلسطينية) عنوان مضلل وفتح وحماس إما شاهدتا زور أو شريكتان في صفقة تتجاوز متطلبات المصالحة الوطنية الحقيقية .
إن القول بأن هدف الوفد الامني المصري الإشراف على تنفيذ اتفاق القاهرة لعام 2011 أو إنه يهدف لإعادة توحيد غزة والضفة في إطار سلطة وحكومة واحدة كلام غير دقيق حيث ما بين 2011 واليوم جرت متغيرات كبيرة غيرت من المواقف والمواقع لكل الأطراف . هذا لا يعني أن مصر لا تريد إنهاء الانقسام وتوحيد غزة والضفة في إطار سلطة وحكومة واحدة بل لأنها تعرف أن المصالحة بهذا المعنى أصبحت مرتهنة بالتسوية السياسية وبالإرادة الإسرائيلية حيث إسرائيل تتحكم بالجغرافيا وبالأمن وبالاقتصاد .
الحيز الأكبر من حوارات المصالحة اليوم ترتبط بالتهيئة لصفقة القرن وضمان عدم انفجار غزة وبالوضع الأمني في سيناء ومحاولة سحب حماس من مربع المحور القطري الإيراني التركي أكثر من ارتباطها بالمصالحة الوطنية وبالمصلحة الوطنية .
قد يبدو تحليلنا تشاؤميا أو يفسره البعض تشكيكا بطرفي الحوار وراعيه ، مع اعترافنا بصحة جزئية لهذا التفسير إلا أن ما نرومه هو الدعوة لمصارحة الشعب بحقيقة ما يجري ودعوة حركتي فتح وحماس للاعتذار للشعب وشعبنا الفلسطيني ذكي ولماح وهو مستعد في حالة الاعتذار والمصارحة أن يغفر لكل الفصائل الفلسطينية حتى التي اخطأت بحقه لأنه يُدرك قوة الخصم الصهيوني ودوره في كل ما جرى ومسؤوليته عن كل مصائب الشعب الفلسطيني فلو لم يكن احتلال ما جرى كل ما جرى ،ولو التزمت إسرائيل بعملية السلام وقامت الدولة الفلسطينية ما كان لحركة حماس ولغيرها مبرر للجوء للعمل المسلح ، أيضا ومما هو مؤسف أن النظام السياسي الفلسطيني لم ينتج نخبا جديدة حيث لم تبرز للساحة قوى جديدة قادرة على التأثير يمكنها الحلول محل النخب المأزومة القائمة .
وأخيرا فإن الوقت لم يفت بعد ، فشعبنا صامد على أرضه وقضيتنا عادلة وهناك منجزات تحققت معمدة بدم الشهداء ومعاناة الأسرى والجرحى وبالعمل الدبلوماسي ، لكل ذلك فما زال في الإمكان تحقيق المصالحة الوطنية ولكن ليس مصالحة تقاسم مغانم السلطة والحكومة وخصوصا أنه لم تعد هناك مغانم مغرية والسلطة كلها أصبحت في مهب الريح أو إنها سلطة بدون سلطة .
المطلوب مصالحة في إطار إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية التي تجمع الجميع ،فهي القادرة وحدها على تصويب المسار الوطني وملء الفراغ في حالة انهيار السلطة أو فشل خيار حل الدولتين ، ونتمنى أن يتم دعوة المجلس الوطني للانعقاد في اقرب وقت وتشارك فيه كل القوى السياسية لمواجهة عاصفة صفقة القرن التي تهدف للإطاحة بكل مشروعنا الوطني بشقيه مشروع السلام ومشروع المقاومة .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش