لا ادري متى ضبطا بدات علاقتي او ملاحظتى ووعيي بتلك الشجرة الضخمة الوحيدة وسط ارض شاسعه وواسعة وشبة قاحلة, قيل فيما قيل عن اصلها واصولها انة كان لها اهل يرعونها ثم تركوها مرغمون على الرحيل عام " الكَّسرة" ومع مر الزمن والسنين اصبحت زتونة الزيتون ام الزتون معلم من معالم الارض والناس وحكاياتهم اجيال بعد اجيال الى حد ان احدا ما قال انها معمرة المعمرات وام كل اشجار العالم عرفتها اجيال رحلت فيما بقيت هي عصية على الرحيل وقُطر جذعها الدائري يقدر بالامتار لكنها بقيت زيتونة تطرح ثمارا كل عام لا يقطفها ولا ياكلها احدا...الثمر يعود الى الارض ومن ثم يصعد مجددا كل عام الى رحم امة ليولد من جديد .. وهكذا دواليك عام بعد عام ومنذ عشرات السنين فهم الناس سر بقاء ام الزتون ولا احد يريد او حتى يفكر بالامر بامكانية رحيلها.. كل شئ يرحل ماعدا ام الزتون حفظها اللة..مرت السنين وتطَّور البلاد والعباد وتغيرت جغرافيا المكان وصارت ام الزتون تتوسط تقاطعات طرق وقرى ومدن البلاد الى ان قرر الناس في تلك الديار تغيير اسم قريتهم وتحويلة الى قرية ام الزتون بدون حرف الياء وهكذا اسست شجرة ام الزتون لتاريخ قرية تملاها غصون وبطون عائلات كما هو حال اغصان وغصون ام الزتون...قرية ام الزتون...شجرة ام الزتون..مفرق ام الزتون... ناس ام الزتون وخبز الطابون...سوق ام الزتون ورائحة زعترها وزيت زتونها.. اعراس ام الزتون وليالي السمر على ضو القمر...بيوت اهل ام الزتون كلها متشابهة لونا وشكلا...بيوت الطوب والصفيح وحواكير العنب والجوافة والتين وعرائش العنب الصيفية...ام الزتون ولا دونها ويا تارك ام الزتون وقف تاقولًّك..بلادك احسنلك.. ومن طين بلادك " لغمط" خدادك... وان جارت عليك الدنيا مَّيل على ام الزتون...بتهون.. مَّيلك ميولة وقَّيلك قيلولة..صوت صندوق العجب يلعلع باعلى صوتة من داخل بيت المختار.. يُّطرب الناس ويجلب لهم اخبار الحاضرين والغائبين..برنامج سلامات..انا الحاج ابولافي من مخيم صيدا من اهالي وادي الحمام.. اهدي سلامي لاهلي واهل قريتي اينما كانوا وتواجدوا في الارض المحتلة.. نحن بخير وطمأنوننا عنكم..عنواننا برنامج سلامات.. بيروت... شارع صندوق العجب..المخيم رقم 48!!
حكاية بلد.. احدا ما علق على"شارع" درب ترابية يتوسط ام الزتون لافتة من كرتون كتب عليها " شارع العودة" ورغم الخوف من كمنكرات الاحتلال وعيونة واذانة الا ان الناس فرحوا بهذة التسمية واصروا على بقاء اللافتة وهكذا دارت حرب لافتات خفية تارة تختفي اللافتة واخرى تعود للظهور..حرب بين الرحمان والشيطان الى ان صار " شارع العودة" متعارف علية بين الناس بدون اللافتة ومعها ومن ثم صارت التسمية دارجة لتصبح سكان حي العودة..حي الزتون... حي الصبار..حي البابور.. تطورت الزتونة وصارت تتارجح بين مظهر القرية ومعالم مدينة قادمة صار مركزها وشريان حياتها شارع العودة.. ساق الله ويا من" درا" متى سيعود الغائبين.. ابواحمد السائر على عكاز الزمن بظهر منحني نحو التراب يتنهد بحصرة ويتذكر صديق شبابة الذي رحل مع الراحلين ولم يسمع عنة منذ ذلك الحين..عقود مَّرت..جداول الزمن حفرت طرقها في محيا ابواحمد ابوسكسوكة بيضاء وعكاز يقبض على مقبضة بكلتي يدية ويتكي ب"ذقنة" فوقهما عائدا الى ماضي بعيد..غربة الغائبين وتربة الحاضرين..تراب محطة الدرب الاخيرة بدأ يعلق بنعلة العتيق..!!
في يوم من الايام تعجب اهل ام الزتون من خبر نقلة صندوق العجب بان البحث جاري عن غصن زيتون من " بلدي" وليست من" بلدي" سيقدم الى "سلاطين" الارض والدنيا كقربان طولة وعرضة وقامتة اكثر من مساحة نصف وطن..لغز " الغصن" وبندقية " الستِن" و" الكارابينا" و" الكارلاك" و"الانجليزية"..بواريد صيتها شائع عاليا ويملأ المكان في ذلك الزمان.. زمان الانجليزية ومدفع البرٍن الذي " يطفي" ويحتاج الى استراحة حتى يبرُد ويعاود بعدها اطلاق الرصاص وحصد كل من طاح او " يطيح" في مرماة...حكايات واساطيرملاحم وطن سطرها ابطال وتركوها لتكون حكاية حياة ناس وطن..اثار حياة اناس ما زالت اشجارهم وبيوتهم شاهدة على انهم كانوا يوما هنا وديارهم كانت عامرة بالحياة..ام الزتون شجرة من اشجار حواكير وبيارات وكروم وبساتين اهل فلسطين السليبة..مساجد هجرها الاذان منذ عقود وبقيت مأذنها شامخة تعانق السماء تكسوها اعشاب الهجر الطويل واعشاش الحمام والطيور تملا سقفها وحجارتها... مساجد حَوَّلها الغزاة والاعداء الى مواخير وزرائب لايواء البهائم..مدن وقرى ووطن كامل يحمل اسماء الغرباء وما زال البحث جاري عن غصن "الزيتون" من بلدي وليست من بلدي... رفضت ام الزتون العرض جملة وتفصيلا ودَّوا رفضها عبر صندوق العجب.. قرية ام الزتون ترفض منح ولو غصن واحد من شجرة ام الزتون لا للعدو ولا الصديق ايمانا من اهلها بان من يفرط بالغصن سيفرط بالشجرة كاملة..شجرة ام الزتون امانة غالية في عنق اهلها... اول الرقص حجلان!.. العُرف والشجرة لاهلها كاملة متكاملة.. نعيش ونموت بكرامة يوم واحد ولا نعيش "دوم" مع عار لا سمح الله مقولة ان"اهالي قرية ام الزتون تنازلوا عن عُرف من ام الزتون"..كرامة وشهامة يوم ولا حياة عار ونذالة دوم.. الحياة وقفة عز..عز يوم ولا ذل دوم ونعيق بوم.. تنَّهد ابواحمد تنهيدة طويلة وقبض على عكازة قبضة عز وكرامة.. سنقاوم حتى لو ما بقي في ايادينا سوا هذا العكاز وعظام اجدادنا.. نار عكاز ابواحمد ولا جنة "بواريد" جيوش الذل والمهانة..!!
عاشت قرية ام الزتون روتين مشقات حياتها تحت الاحتلال عبر السنين حتى جاء خبر مفادة ان احد "مخاتير البلاد" قد وقف مخاطبا معازيب مضافة " سلاطين الارض والدنيا"..''جئت إليكم وأنا أحمل غصن زيتون في يدي، وفي اليد الأخرى أحمل بندقية الثائر، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي''...ياليتك اسقطت غصن الزيتون بنفسك وتركت بندقية ام الزتون لاهلها يتدبرون امرها...زغاريد "غدارة" ولا عار اغصان زيتون فاسدة...ياليتك رحلت واخذت اغصانك معك.. خذ غصنك وارحَّل..خذوا اغصانكم وارحلوا...الجرافات صارت على بعد امتار من ام الزتون وهدير محركاتها يصم اذان سكان ام الزتون..خذ غصن زيتونك وسلامك وارحل..ياليتك رحلت مع غصنك..زرعَك الفاسد يقتلنا ويغتال وطننا ويصادر مساجدنا وكنائسنا ويقتلع زيتوننا ويهدم بيوتنا...ناصية وطن وزغاريد "غدارة".. خُذ غصنك وارحَّل..ياليتك رحلت برفقة كتائب اغصانك الفاسدة وتركت زغاريد "غدارة" تملا سماء ورحاب الوطن..البارود والرعود..عطش وطن..وجع شعب..خذ غصنك وارحل..قتلتنا الردة .. مع فائق الاحترام والاسى والمودة.....الموافق قرن من الزمن.. شارع العودة...ام الزتون..!!
د.شكري الهزَّيل