لا لشهادات الوفاة

بقلم: حسن أحمد

لم تعد الشهادات الأكاديمية وحدها مقياساً لمستوى الكفاءة والمقدرة ، كما هو الحال في شهادات الخبرة ومسميات مواقع المسؤولية وفقًا لمستويات العمل الوظيفي وطبيعته ، فالدرجة العلمية فقدت بريقها المعهود ، ولم يعد الحكم على حاملها منصفاً إلا بعد التجربة العملية في ميدان العمل والإنتاج، فالممارسة هي التي تكشف الوزن الحقيقي لمستوى المقدرة والأهلية العلمية، كثيراً ما نتداول في أحاديثنا فلان أكاديمي ، وفلان خبرة ، وفلان مهني .. إلخ وإذا كانت هذه الأحكام أو الإشارات نابعة فقط من خلال ما نحمله من شهادات فإننا نظلم الدرجات العلمية ونظلم القانون بل نسيء إليه ؛ لأن هواة حملة الشهادات كثر تبدأ من شهادات الإفادة بالدرجة العلمية الأولى حتى الثالثة ، وتستمر حتى شهادات الدورات والمعاهد المتوسطة وشهادات التقدير على جهد أحياناً لم نقم به ، أو لم نعلم عنه شيئاً التي تأتي في سياق المجاملة أو بمعنى أدق المصلحة ، وهذا يدل على عملية الترابط بين الشهادات والمؤسسات سواء المؤسسات التي تمنح شهادات على مختلف صنوفها أو المؤسسات التي تستوعب حملة شهادات مجردة بمعيار الشهادة ، وفي كلتا الحالتين فإن الإجحاف والضرر واقعان على مجتمعنا، ومن هنا يصبح الخلط ، وكذلك الإساءة للدرجات العلمية أو الشهادات المختلفة ، وبالمصطلح الشائع خلط الحابل بالنابل ، فتظلم كفاءات لم تجد فرصتها في الممارسة.

فالشهادات الأكاديمية في وعينا الاجتماعي تشير إلى أن حاملها يتمتع بقدر من الكفاءة في مجال التخصص على أساس اجتياز المساقات الدراسية والفترة الزمنية بالتزام وانضباط ونجاح ؛ ليصبح مؤهلاً وقادراً على ممارسة دوره في عمله الوظيفي بحده الأدنى ، إن لم يكن في حدود التطوير والإبداع والريادة والإسهام بجهد في البحث العلمي ، ولكن بنظرة شاملة نجد أن هذا الوعي الذي نشأنا في بحره وعرفه لم يعد قائماً في واقعنا الفلسطيني بالشكل المطلوب لأسباب وتداعيات عديدة ، كما أن الهدف من الحصول على الدرجة العلمية اختلف وأصبحت الدرجة الوظيفية تطارد الكثير، وبالتالي أصبح هذا الكثير يطارد الدرجات العلمية ، ليقتنص أفضلها وأعلاها ليكون في الخانة الوظيفية الأعلى ، فضاعت الأهداف في حلبة الصراع مع المصالح وأثخنت المؤسسة بالجراح والترهل ، وضاقت الأرض بأصحاب المبادئ والمثل والقيم ، وإن كان البعض يعزو هذا إلى لغة العصر ومفاهيم العولمة في ظل نظام عالمي جديد بمنطق أن التطور يقتضي التخلص من القديم ، ووضع أسس تجاري عصر السرعة ، فالعمر لحظة ولا وقت للتعقيد .. المهم أن تحصل على ورقة ، وهذه الورقة هي الشهادة الأكاديمية والتي أصبح مصطلحها يغزو وعينا الاجتماعي في اتجاهات خاطئة من أصحاب الفهلوة والشطارة ، فالنظرة إلى الشهادة الأكاديمية على أنها ورقة تذكرني بخبراء الاقتصاد ورجال السياسة الذين أصبحوا يفسرون مصطلح العولمة في مطلع التسعينيات ، فكانت رؤية كل منهم تنطلق من مصالحه ، وفي هذا السياق وصف أحد الخبراء ما دار من جدل ، وما طرح من آراء حول العولمة في ذلك الوقت بأنها فيل ضخم تحيطه مجموعة من العمي فاقدي البصر ، وكل منهم يتحسس الفيل باللمس ليتعرف عليه ، فكان تخيل كل منهم للفيل بالمكان الذي لمسه من هذا الجسد الضخم ، ولم يستطع أحد منهم وصف الفيل بكامل هيئته وبالتالي كان تصوره محدوداً .

فعصر السرعة والتكنولوجيا يقتضي منا أن نواكب لغته بالعلم والمعرفة والبحث العلمي ، وليس بمجرد ورقة تمثل بوابة عبور إلى المؤسسة على اختلاف تخصصها ، لأنه التخريب الذي يلحق المجتمع والإنسان الفلسطيني من حملة الشهادة التي تعني ورقة أخطر على أجيالنا من أسلحة الدمار الشامل الأشد فتكاً ، شعبنا يستحق منا كل صدق وتوازن مع الذات الوطنية بعيداً عن المستوى الوظيفي لأن البناء يؤسس على أيدي المخلصين لوطنهم.

 فنعم للشهادة التي تؤسس على العلم والمقدرة والكفاءة ، ولا وألف لا لشهادات الورقة التي هي شهادات وفاة لمجتمعنا الفلسطيني.

بقلم/ د.حسن أحمد