زِنيا ستامب نائبة تركب الصعاب

بقلم: علي الصالح

ليس طلبا لشهرة فشهرتها في بلدها، ولا سعيا وراء منصب فهي تشغل منصبا مرموقا، ولا حبا بمال فلا حاجة لها به.
لم تردعها مصلحة إذ كان بإمكانها أن تقي نفسها شر المشاكل وتركز عملها في مناطقها وتتعاطف بين الحين والآخر مع قضية إنسانية هنا أو هناك وتحظى بالاهتمام الإعلامي، ولكنها اختارت ركوب الصعاب، فإنسانيتها وضميرها وقناعاتها ومبادئها واخلاقياتها لم تسمح لها بالوقوف متفرجة، فاختارت طريق الدفاع عن الحق الفلسطيني بلا تردد أو خوف من اتهام باللاسامية أو تهدادات بالقتل، أو إلى ما شابه ذلك. إنها النائبة الدنماركية الشابة زِنيا ستامب من حزب الأحرار الاجتماعي.
الحديث عنها يعيد نوعا من الطمأنينة للنفس بأن العالم لا يزال بخير، بعدما خذلنا بعض "الاشقاء" قبل الاعداء، وأن الإنسانية والأخلاق والضمائر الحية لا تزال موجودة، لكن ليس في أوساط معظم السياسيين العرب أو بالاحرى "المتأسيسين" وبعض المثقفين الذي اختاروا الانحياز إلى الظلم والوقوف إلى جانب الاحتلال، من امثال الباحث السعودي عبد الحميد حكيم مدير مركز الشرق الاوسط للدراسات الاستراتيجية في جدة، الذي يزعم أن العرب ظلموا الاسرائيليين، ويدعو الفلسطينيين عمليا إلى نسيان القدس، المكان الاكثر قدسية لليهود، كما يقول، مثلما مكة والمدينة بالنسبة للمسلمين، ورئيسه في المركز اللواء المتقاعد أنور عشقي، الذي يدعو أيضا إلى شرق أوسطي جديد لمواجهة ايران. ولا ننسى الدكتور السعودي تركي الحمد الذي لا يرى في القضية الفلسطينية سوى قضية تخلى عنها شعبها، الذي اختار حياة الرفاهية ورغد العيش في الخارج. وهناك طبعا "الوفود الصحافية" التي تطل علينا اسرائيل بها بين الحين والآخر.
وسبب التذكير بهؤلاء ليس الاجترار، بل لمقارنة النتائج التي توصلت اليها زنيا خلال زيارتها لفلسطين واسرائيل، وتلك التي توصل اليها "فرسان الصحافة العربية والكتاب والباحثون"، والغريب أن ثمة تشابها كبيرا إن لم يكن نسخة طبق الاصل، بين النتائج التي توصل اليها "المتأسرلين والمتأسيسين"، وتلخص بأن "زيارتهم أزاحت الغشاوة التي كانت تعمي بصائرهم عن حقيقة إسرائيل وشعبها المحب للحياة، الذي يسعى للعيش بأمن وسلام مع جيرانه الفلسطينيين، هذا الشعب المسالم الذي يسيء العرب فهمه بسبب الدعاية المضللة ضد واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط".
في المقابل رأت زنيا الصورة هناك على حقيقتها.. وقبل أن تخوض في النتائج قدمت نفسها سياسية وعضوا في البرلمان الدنماركي. وقالت "عدت للتو من زيارة استغرقت اسبوعا لاسرائيل وفلسطين. واختتمت الرحلة بتجربة غير عادية، واختارت أن تشاطر أصدقاءها على الفيسبوك تجربتها التي أوصلتها إلى قناعة، أن هناك ظلما تمارسه اسرائيل على الشعب الفلسطيني، من مصادرة الاراضي والبيوت والموارد الطبيعية لصالح الاستيطان، بزعم الدواعي الأمنية، لكن زنيا تشكك بهذه الدواعي، ووصلت لقناعة يصل إليها كل انسان، تحكمه الأخلاق والعدالة، يزور الاراضي الفلسطينية، وهو أن الغرض منها هو ابتلاع مزيد من الارض الفلسطينية والاستيلاء على القليل مما تبقى للفلسطينيين. وتدعو إلى تسليط الأضواء عليها والتركيز على انتقادها. وشعرت زنيا بانهم يحاولون إسكات اي صوت يعلو انتقادا لسياساتهم، ولكنها أكدت أنها لن تسكت.
وتحكي زنيا تجربتها فتقول، "التقيت مديرا في وزارة الخارجية وهو معين لمنصب سفير إسرائيل في الدنمارك. وطبعا ناقشنا الوضع في الشرق الاوسط. وقبل نهاية الاجتماع غير اتجاه النقاش وراح يهاجم كتاباتي على الفيسبوك. إنه أمر غير مألوف ويعكس مدى حساسية إسرائيل للانتقادات الخارجية، ويعكس أيضا أن الاسرائيليين ميالون للاعتقاد بانهم قادرون بالتهديد على إسكات النقاد". وتابعت "ولكنني لن أصمت، لقد شاهدت بام عينيّ انتهاكات متعمدة للقانون الدولي خلال الاسبوع الماضي (البوست كتب في يونيو 2017) وانوي الحديث بصوت عال، وأعرف الان أن الحكومة الاسرائيلية تسمعني، ولهذا اطلب منكم قراءة ومشاركة هذا البوست على مواقعكم وشبكاتكم، لانه كلما اتسعت رقعة المعرفة أُرغمت اسرائيل على التعامل مع هذه الانتهاكات".
لطالما نسمع الحكومة الاسرائيلية تستخدم الاعتبارات الامنية لتبرير سياساتها، لكن ثمة شيئا واحدا واضحا بالنسبة لي وهو انها تبذل جهودا منتظمة لاجبار الفلسطينيين على التخلي عن مساحات واسعة من الاراضي المحتلة، التي يفترض أن تشكل الدولة الفلسطينية. وان كلمة الأمن ليست الا طبقة خفيفة من الطلاء الذي تستخدمه اسرائيل لاخفاء هذه السياسة". (هذه حقيقة لم يستطع إدراكها الزوار العرب لانهم يسيرون وفق برنامج لوزارة الخارجية الاسرائيلية، أو لنقل ليس لديهم النية لمعرفتها، لان الغرض من زياراتهم ليس الوقوف على الحقيقة، بل التعامي عنها لغرض اكبر وهو تبرير التطبيع مع دولة الاحتلال خدمة للاسياد). وقدمت أربعة نماذج على الانطباعات التي خرجت بها من هذه التجربة:
*اولا مصادرة البيوت: القانون الإسرائيلي يسمح لليهود بالمطالبة بمنازل عاش فيها يهود قبل عام 1948، ما يعني أن أي يهودي اسرائيلي يستطيع أن يدق على باب منزل اي عائلة فلسطينية، ويجبرها على اخلائه بأمر محكمة وينتقل للعيش فيه ويرفع علما اسرائيليا ضخما على سطحه، ما يضطر الجيش لحماية المنزل؛ وفجأة يتحول الحي لمنطقة عسكرية وتنصب الحواجز، وتختتم بتساؤل، كيف يمكن لمثل هذه السياسة أن تفيد الامن الاسرائيلي؟
*ثانيا المستوطنات: هناك نحو 600 ألف مستوطن يعيشون في الأراضي المحتلة والعدد مرشح للازدياد. ووفقا للقانون الدولي تعتبر هذه المستوطنات غير شرعية. والخطورة ليس في تنامي عدد المستوطنين، بل مصادرة الاراضي الفلسطينية بشكل منتظم، وهدم الممتلكات ونفاد الموارد الطبيعية. وهذا يشكل انتهاكا للقوانين الدولية واستعمار امر واقع للوطن الفلسطيني. القضية ليس فقط قضية مبدأ لقد شاهدت بأم عيني هدم المنازل، وتحدثت لمزارعين أرغموا على ترك أراضيهم ومنازلهم التي عاشوا وعملوا فيها لأجيال. وشاهدت مستوطنات تغطي مساحات أوسع من الضفة الغربية والقدس الشرقية يضاف إلى ذلك ما يسمى بالجدران الأمنية والمناطق الأمنية الواسعة، واذا ما استمرت هذه التطورات فإن فلسطين ستصبح كالجبنة السويسرية التي لا يتبقى للفلسطينيين منها سوى الخروم. وسيعيش الفلسطينيون في غيتوات فوق ارضهم، فكيف يمكن تبرير ذلك باعتبارات أمنية؟
*ثالثا: الظروف المعيشية، على الفلسطينيين في مناطق واسعة (مناطق ج التي تمثل 62% من أراضي الضفة) أن يتقدموا بطلبات لسلطات الاحتلال لتوسيع منازلهم أو حفر ابار الخ. لكن هذه الطلبات ترفض بشكل منتظم، وتقطع عنهم المياه وتدمر منشآتهم الكهربائية، بينما في المقابل يشاهدون المستوطنات تتسع وتحصل على امدادات غير محدودة من الكهرباء والمياه. وقفت في طريق حيث الفلسطينيون في جانب يحصلون على كميات محدودة من الماء، بينما المستوطنون يحصلون على كل ما يحتاجونه. هذه ليست مشكلة عدد من الأسر، أو اعمال محدودة ترغم على القبول بموارد محدودة، إنما تشكل عقبة كبرى في طريق الاقتصاد الفلسطيني. زرت مزعة ومصنعا وكلاهما يدار بشكل جيد ولديهما إمكانيات، ولكن اذا كانت لديك موارد مائية محدودة ولا تدري متى سيجري قطعها، فانه سيكون من الصعب توسيع دائرة الانتاج، فما علاقة كل ذلك بالأمن؟
*رابعا: الجدار، من حق إسرائيل أن تحمي نفسها من أي عمليات ارهابية محتملة بما في ذلك حق بناء جدار. لكن الجدار الامني ليس قائما على اراض اسرائيلية، ولا يفصل الاسرائيليين عن الفلسطينيين. انه يقطِّع الاراضي الفلسطينية ويحرم الفلسطينيين من الوصول إلى حقولهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومؤسساتهم وأعمالهم. فآلاف يضطرون لعبور الجدار يوميا، ولكن ذلك يتطلب تصاريح والانتظار لساعات طويلة في أجواء من الفوضى. فالجدار اذن انتهاك صارخ للقانون الدولي، ولا يمكن تبريره باعتبارات امنية. ولو كان هذا الجدار متعلق بالأمن كان سيبنى على طول الخط الاخضر الفاصل. فكيف يمكن أن يكون هذا ذا قيمة بالنسبة للاعتبارات الامنية؟ اعرف العديد من اليهود والإسرائيليين. واتفهم كيف أن قرونا من الاضطهاد خلقت لديهم الحاجة للأمن. ولكن اهداف الحكومة الإسرائيلية لا علاقة لها بالأمن، الغرض منها ابتلاع مزيد من الأرض والاستيلاء على القليل الذي تبقى للفلسطينيين. يجب أن نسلط الاضواء على هذه السياسات وواجبنا أن ننتقدها. وعلى السفير الاسرائيلي الجديد أن يدرك أن الكثير من الدنماركيين يتابعون ما يجري في اسرائيل وفلسطين. وان العديد منا قلق جدا، واننا لن نبقى صامتين".
وأختتم بضم صوتي لصوت زنيا، وأضيف أنه ما زال هناك اناس، بل ومسؤولون غير عرب بضمائر حية وأخلاق وانسانية في العالم من امثالها ستظل قضيتنا بعدالتها وشعبها الذي لا يقهر، حية رغم مخططات نتنياهو وترامب ومن يشد على ايديهم من "العرب الجدد".

علي الصالح
كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"