مضى على قرار ترامب بشأن القدس حوالي ثلاثة أشهر حتى الآن، وكان يظن بعض الإعلاميين والسياسيين أن النيران ستشتعل من تحت ترامب، وأن الهدير العربي الإسلامي لن يوقفه أحد.
وقد كتبت في حينها مقالا بعنوان "القدس اليتيمة"، شرحت فيه لماذا ستبقى القدس يتيمة، وكان المقال علميا تماما ومن وحي تجاربنا مع الحكومات العربية والقيادات الفلسطينية، لكن مواقع إلكترونية ووسائل إعلام مهمة رفضت نشره على اعتبار أن الوقت مناسب للتحريض وليس للتثبيط. وانشغلت هذه الوسائل الإعلامية بكل سذاجة بالتحريض على إشعال انتفاضة في الأرض المحتلة/67، لكنها أضاعت مقالي وأساءت لي، وفشلت في تحريك الجماهير. علما أن الانتفاضات الجماهيرية لها بيئتها الخاصة، وهي لا تتحرك بقرار سياسي أو تحريض إعلامي. المقاومة تشتعل بقرار سياسي، لكن الحركة الجماهيرية لها ظروفها وبيئتها الخاصة، ويصعب على المرء التكهن بها.
وكانت افتتاحية المقال: "لا يغرننا حجم الإدانات والاستنكارات والإدانات لقرار الرئيس الأمريكي الخاص بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة للكيان الصهيوني، فهي ألفاظ موسمية تتكرر على مسامعنا مع كل مصيبة تحل بالوطن العربي وتمس القضايا القومية العربية. إنها موجة أشبه ما تكون بسحابة صيف سريعاً تنقشع. هكذا هي تجاربنا مع الحكام العرب ومختلف القيادات الحزبية والتنظيمية. نحن نتقن صف الكلام الخطابي، لكننا لا نتقن ترجمته على أرض الواقع. وسنسمع في الأيام القادمة المزيد من الكلام المتباكي على القدس وأهل القدس، لكننا لن نرى طحيناً، أو قد نراه بالنزر اليسير."
كنت أدرك من التجارب أن بعض الشباب سيدب فيهم الحماس وسيقومون بمواجهات ضد الاحتلال، وهم أبطال وأصحاب انتماء وعزم قوي، لكنهم وأهاليهم سيدفعون ثمنا كبيرا دون أن يلتفت إليهم أحد. سيتم قتل بعضهم، وبعض بيوتهم ستهدم، وسيعتقل أقرباؤهم، وسيلاحقون من قبل أجهزة الأمن الصهيونية والعربية. ربما تصلهم بعض المساعدات المالية لإعادة بناء البيت، ومن المحتمل جدا أن يتم حجز الأموال ومصادرتها من قبل الصهاينة والعرب. ولهذا من الضروري دائما الحذر حتى لا نورط الناس في أعمال لا جدوى لها. التحريض ضروري في ظل الثورة العارمة من أجل حشد طاقات الناس ورفع مستوى العمل الجماعي والتعاون المتبادل قيما بينهم، لكن أوضاع الهدوء والخنوع لا تأذن لنا بالزج بأبناء الناس إلى الأتون لنفخر بهم فيما بعد في مهرجانات لا معنى لها.
والآن بعد هذه الأشهر، أين أصبحت القدس؟ هي موجودة فقط يوم الجمعة عند بعض نقاط التماس في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتبقى غزة أكثر نشاطا من الضفة الغربية بسبب نشاط فصائل المقاومة في القطاع. حركة الجمهور الفلسطيني لم تجد تغذية سياسية لا من قيادة السلطة الفلسطينية غير الشرعية، ولا من الدول العربية والإسلامية. وكل توقعات مراكز الأبحاث الممولة غربيا والإعلاميين الذين ظنوا أنهم يصنعون خيرا خابت. القيادة الفلسطينية لم تقدم دعما للشارع الفلسطيني، وساهمت في كبح الحركة بخاصة بعد استشهاد أحمد جرار.
ما زالت هذه القيادة تردد تمسكها بما يسمى بالعملية السلمية التي لم تكن أبدا. كان هناك محادثات لم ترتق إلى مستوى مفاوضات، والنتيجة كانت وبالا على رؤوس الشعب الفلسطيني. كما أن هذه القيادة لم تستطع إخراج الولايات المتحدة من دورها في البحث عن حل للصراع الدائر، ولن تستطيع لأنها ربطت نفسها ومصير الشعب الفلسطيني بالإرادتين الصهيونية والأمريكية. ويحاول عباس صناعة إطار دولي للبحث عن حل بخاصة حل الدولتين، وهو كما يبدو لم يكن يعلم بأن هناك إطارا دوليا وهو الرباعية الدولية المكونة من روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. أمريكا سيطرت تماما على هذا الإطار، وهي ستسيطر على أي إطار آخر يتم تشكيله والسبب أنه لا يوجد دولة يمكن أن تحل محل الولايات المتحدة التي احتكرت عملية البحث عن حل على مدى عقود، ولأن الكيان الصهيوني لن يقبل بوسيط آخر غير الولايات المتحدة.
د. عبد الستار قاسم