توفي كبير علماء العصر… المناصر لحقوق الفلسطينيين

بقلم: عماد شقور

 للفلسطينيين أن يحزنوا: توفي كبير علماء العصر، احد اكبر واهم واشهر المناصرين لحقوقهم، ستيفن هوكينغ. ففي صباح يوم امس الاول، الاربعاء، نعى تيم وروبرت ولوسي والدهم ستيفن، معلنين انه "توفي بسلام" اثناء نومه، فتوالت رسائل النعي والتعزية من جميع انحاء العالم، من علماء واساتذة وجامعات ورؤساء وفنانين وقادة ومشكّلي الرأي العام في بلدانهم وفي العالم، ومن وكالة "ناسا"، الاهم بين وكالات الفضاء العالمية.
ستيفن هوكينغ كان اسطورة في حياته تتنقل على كرسي متحرك، لا يملك من القدرة على تحريك أي من اعضاء جسمه، باستثناء بؤبؤي عينيه ودماغه المتقد. داهمه المرض النادر المسمى "التصلب الجانبي الضموري"، او "العصبون الحركي"، سنة 1963، وهو في الحادية والعشرين من عمره. توقع له الاطباء ان يعيش بعدها سنتين او ثلاث سنين على الاكثر، ولكنه "خذلهم" وعاش حتى بلغ السادسة والسبعين من العمر، محققا نجاحات واختراقات علمية غير مسبوقة في التاريخ، تفسر قضايا غامضة في الكون، اهمها ما يتعلق بـ"الثقوب السوداء"، واستمرار توسع الكون بسرعة غير قابلة للاستيعاب، ومفاهيم "الكم" ومعنى "الزمن" ومسائل ذات علاقة بعلوم الفيزياء الكونية والرياضيات.
عندما اشتد عليه المرض، واصبح غير قادر على تحريك اطرافه بشكل حر، ولم يكن يملك الا القدرة على تحريك ثلاث من اصابع يديه فقط، اخترع له مهندس كمبيوترات أمريكي برنامجا خاصا يلفظ الكلام من خلال جهاز الكمبيوتر، ولما فقد هوكينغ القدرة على تحريك اصابعه ايضا، حوّل المهندس الأمريكي الكمبيوتر بحيث يمكن تشغيله من خلال تحريك وتركيز بؤبؤ العين، وهكذا استمر العالم الفذ في ايصال افكاره.
هذه القدرات الخارقة على تحدي العجز الجسدي، جعلت من ستيفن هوكينغ اسطورة حيّة، زاد وهجها إلى درجات مذهلة بسبب قدراته العلمية، وذكائه الخارق، وضميره الانساني الحي، وهذا ما يهمنا هنا.
زار هوكينغ اسرائيل اربع مرات، والقى محاضرات في جامعاتها ومعاهدها، كانت الزيارة الاخيرة له بدعوة من الجامعة العبرية في القدس عام 2006. ولكنه اشترط لتلبيتها ان يكون ضيفا على السفارة البريطانية في تل ابيب، وان تتاح له الفرصة لزيارة جامعة بير زيت الفلسطينية، والقاء محاضرة فيها، واضطرت اسرائيل إلى تلبية طلبه، فتمت الزيارة، والقى هوكينغ محاضرته امام طلبة جامعة بير زيت.
بعد تلك الزيارة بسنتين، في نهاية سنة 2008 ومطلع سنة 2009، شنت اسرائيل على قطاع غزة هجوما عسكريا دمويا، في عملية اطلقت عليها اسم "الرصاص المصبوب"، قُتل فيها 1285 فلسطينيا، ومن بين هؤلاء الضحايا 900 مدني، اضافة إلى 4850 جريحا. لم يلُذ ستيفن هوكينغ إلى الصمت، واصدر إثر هذه الجريمة بيان ادانة بالغة الشدة ضد اسرائيل.
ثم، في العام 2013، دعا الرئيس الاسرائيلي السابق، شمعون بيرس، إلى عقد "مؤتمر الرئيس" في القدس، بمناسبة عيد ميلاده التسعين، ودعا اليها ابرز الشخصيات العالمية، في السياسة والاقتصاد والثقافة والفنون والعلوم والرياضة، كان من ابرز المدعوين الرئيس الأمريكي الاسبق، بيل كلينتون، وعالم الفيزياء الاهم في العالم، ستيفن هوكينغ، الا ان هوكينغ، وقبل شهر من انعقاد المؤتمر، بعث برسالة إلى بيرس، قال فيها: "كنت من قبل قد وافقت على الدعوة لحضور "مؤتمر الرئيس"، لأن ذلك كان سيسمح لي ليس فقط بالتعبير عن رأيي بالنسبة لمستقبل التسوية السلمية، لكنه سيسمح لي أيضا بالقاء محاضرة في الضفة الغربية. لكن، وبعد ان وصلتني رسائل عديدة من أكاديميين فلسطينيين، أجمعوا فيها بأنه يجدر بي مقاطعة اسرائيل، فان علي سحب تلبيتي للدعوة إلى حضور هذا المؤتمر. ولكنني لو حضرت لقلت رأيي بأن سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية من المحتمل أن تؤدي إلى كارثة". وكانت جريدة الغارديان البريطانية قد نشرت في عددها يوم 8.5.2013، ان مواقف هوكينغ تجاه اسرائيل، ومنذ زيارته الاخيرة لها قد اخذت تزداد سلبية، وانه "يرى بان الوضع في اسرائيل، شبيه بما كان عليه الوضع في جنوب افريقيا قبل انهاء نظام الأبرتهايد، وانه لا يمكن لهذا الوضع ان يستمر".
نعود الآن إلى العلاقة المميزة والجديرة بالتقدير، بين العالم الاول والاكبر في عصرنا، ستيفن هوكينغ، والقضية الاكثر تعقيدا في عصرنا، قضية فلسطين. لا شك لدي بان هذا العالم ذا الضمير الانساني الحي، لم يكن بحاجة إلى حوافز ومحفِّزات لان يكون مناصرا لقضية شعبنا العادلة، ولأن تكون مناصرته هذه علنية ومؤثرة. لكن نشاطات الحركة الفلسطينية المتخصصة بالعمل والدعوة إلى مقاطعة اسرائيل، حركة الـ بي دي إس، اثمرت، وتثمر مكاسب غاية في الاهمية لشعبنا الفلسطيني، وتلحق باسرائيل خسائر بالغة الاهمية، في عالم تحدد مستقبل التطورات فيه قناعات الرأي العام العالمي، وما يتم بناؤه عليها من سياسات وقرارات وافعال. لكن في بعض تصرفات بعض القيِّمين على حركة الـ "بي دي إس"، ما يستدعي التوقف والتَّفكر وإعمال العقل.
بوُدٍّ مشوبٍ ببعض الألم، اقول لاخوتنا في قيادة الـ بي دي اس، ان مقاطعة اسرائيل، والعمل والتحريض لمقاطعة المستعمرات/المستوطنات الاسرائيلية على اراضي الدولة الفلسطينية، هو عمل وطني من الدرجة الاولى. وكذلك هو العمل والتحريض لمقاطعة اسرائيل ذاتها. لكن مقاطعة جارفة شاملة لكل ما هو اسرائيلي هي مقاطعة خاطئة ومُضرَّة. ففي اسرائيل اكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني عربي مسلم ومسيحي، يخضعون للقوانين الاسرائيلية، ويدفعون الضرائب للحكومة الاسرائيلية، وتذهب هذه الاموال لتغطية مصاريف وتكاليف جميع الوزارات الاسرائيلية، ومنها، على سبيل المثال، وزارة الثقافة المكلفة بتمويل جزئي لكل الاعمال والنشاطات الثقافية والفنية في اسرائيل، ومنها الافلام السينمائية. فهل من المنطق والمعقول ان نقاطع فيلما من اخراج مها الحاج الفلسطينية العربية، وجميع ممثليه من الفلسطينيين العرب في الناصرة وغيرها، ومنهم محمود وسناء شواهدة وغيرهما كثيرون، لأن المخرجة مها الحاج طالبت وزارة الثقافة باسترداد جزء مما دفعته هي واهلها وجيرانها الفلسطينيون العرب في اسرائيل، كضريبة مفروضة لوزارة المالية الاسرائيلية، لتمويل فيلمها؟. (وهو، بالمناسبة، فيلم "امور شخصية"، عن عائلة فلسطينية، لها ابن هاجر إلى السويد، وابنة "هاجرت" وتزوجت من شاب عربي في رام الله، وهو فيلم يفضح السياسة العنصرية الاسرائيلية ويعريها). نحن نعيش اليوم اليوم في عالم تداخلت فيه امور تكاد لا تحصى مع بعضها البعض. ولا يجوز، وليس من الوطنية في شيء ان نظلم فلسطينيين نجحوا وانتصروا وتمكنوا من البقاء في بيوتهم وقراهم ومدنهم رغم كل العنف والبطش الصهيوني والاسرائيلي.
كان الشهيد الفلسطيني الكبير، غسان كنفاني، أول من كتب بايجابية عظيمة عن شعراء المقاومة: محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زيّاد، سالم جبران، وغيرهم. هل نقاطع هؤلاء العمالقة الفلسطينيين وشعرهم وادبهم؟ والاهم بين الروائيين الفلسطينيين في العصر الحديث، إميل حبيبي، صاحب رواية "سعيد ابو النحس المتشائل" لأنه حاز بجدارة على "جائزة اسرائيل" الادبية؟. لقد فصل "حزب البعث العربي الاشتراكي" في اواخر ستينيات القرن الماضي الكاتب الفلسطيني الكبير فيصل حوراني من الحزب لأنه صافح شاعر فلسطين الكبير، محمود درويش، عندما كان عضوا في "الوفد الاسرائيلي" إلى مؤتمر الشباب والطلاب العالمي في العاصمة البلغارية صوفيا… فهل من الحكمة ان نسير على خطى هذا الحزب العربي العنصري المتخلف؟.
لكن، هل يبرر هذا الشطط والتطرف لحركة الـ بي دي إس، الموقف السلبي والقطيعة التي تتبناها وتمارسها القيادة الفلسطينية الشرعية في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، وفي حركة فتح، على وجه الخصوص، تجاه حركة المقاطعة لاسرائيل؟. لا اعتقد ذلك ابدا، وبالمطلق.
لا بد من السعي إلى انهاء مقاطعة المنظمة والسلطة لحركة مقاطعة اسرائيل. كل هذه الهيئات والمنظمات والحركات، هي حلقات في سلسلة واحدة. كل قطيعة او انقطاع بين أي حلقتين، يلحق الضرر بالسلسلة، ويجعل بلوغ الهدف الوطني الفلسطيني اصعب وابعد.
رحم الله العالم الكبير العبقري ستيف هوكينغ، الذي قاطع اسرائيل، وتحية لكل من ساهم في ايصال معاناة الفلسطينيين من الاستعمار الاسرائيلي إلى هذا العبقري الخالد.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني