(قصة قصيرة): (1- 16)
للكاتب/عبدالحليم أبوحجَّاج
انتفض الشيخ سلامة من مرقده على دقات مزعجة، مرعبة، كادت تخلع قلبه قبل أن تخلع الباب الخشبي العتيق، والصوت ينادي يصوت عال بما يشبه صراخات الاستغاثة، يَنُمُّ عن هلع أصاب صاحبه. انفتح الباب وأطل الشيخ سلامة وبيده مصباح زيتي يئن ضياؤه تحت ضربات الريح العاصفة، ولملم الكلمات على طرف لسانه، وقال:
- ما وراءك يا سرداح، لقد أفزعتني؟.
- ألم تسمع صوت الرصاص؟.
- ومَن يطلق الرصاص في منتصف الليل والناس نيام؟.
- إنه ذاك المجهول.
ارتعش المصباح من بين أصابع يد الشيخ سلامة، وتعثرت أنفاسه فكاد ينطفئ، ولكنه استجمع شتات ثباته، وتذكَّر شيئاً جعله يلعق شفتيه من الجفاف الذي أصابهما، وسأل بصوت خفيض وكأنه يسأل نفسه بتجاهل العارف:
- ومَن القتيل هذه الليلة يا سرداح؟.
- الابن الثالث للشيخ جابر.
- سوَّد الله وجهك على هذا الخبر!.
- وما ذنبي يا شيخ تسوِّد وجهي، هم قالوا لي اذهب يا سرداح وخبِّر الشيخ سلامة.
- لا حول ولا قوة إلا بالله...
دخل الشيخ سلامة بيته ثم عاد مسرعاً، فقعَّد عقاله على رأسه، وألقى عباءته على كتفيه وهو يمشي مع سرداح في طريقه إلى دار الشيخ جابر التي لم تكن قريبة من داره، وما إن اقترب حتى تلقته صراخات النساء و ولولاتهن، فاقشعر بدنه وتمزقت نياط قلبه واستدار هارباً إلى الجهة الأخرى من البيت حيث كان الرجال قد افترشوا الرمل يحيطون بالشيخ جابر يواسونه ويعزُّونه بكلمات من شأنها أن تخفف عنه أحزانه، والرجل ينظر في وجوه القوم بنظرات حادة ساخطة كصقر يبحث له عن فريسة ولا يجدها. لم يتكلم ولم ينظر إلى أحد، وإذا نظر فإنه لا يبصر شيئاً، بل هو يسرِّح نظره إلى الأفق البعيد النائي، فلا ترى إلا لمعان عينيه من بين خيوط الضوء الواهي الذي تبثه المصابيح الزيتية التي يتلاعب الريح في ذبالاتها في عتمة الليل الساجي. وفض الشيخ سلامة نسيج الصمت حين تساءل:
- متى حدثت الواقعة؟.
أجابه الشيخ سالم الذي يجاوره في مكان قعوده:
- عندما خرج من داره يتفقد أغنامه ومواشيه في الحظيرة، فإن رغاءها وحركتها قد أحدثت
جلبة مثيرة وضجة مريبة، فخرج إليها يستجلي الأمر... وكانت خرجته الأخيرة.
- إذن لم يكن هو القصد.
انطلق صوت حسان من مكان غير بعيد يقول بحُرقة:
- ولكنه مات.
- ولكن ، السؤال هو: هل القاتل كان يقصد هذه الدار بالذات، ويتربص بأبنائها هدفاً له؟.
عاد الشيخ سالم إلى محاورة جليسه، فيجيب محدثه بسؤال صارم.
- ومَن يقصد غيرها والدور كثيرة ومتباعدة؟.
- ويقصد أبناء الشيخ جابر بالذات؟!.
- وما الفرق؟ أم أنك تريد أن تقول شيئاً مختلفاً؟.
- بصراحة لا أدري، ولكنها أسئلة خطرت ببالي تُعزِّز رأيي في هذه الجرائم المتلاحقة، التي لا تلحق إلا بأبناء الشيخ جابر دون غيرهم.
- أفصح يا شيخ سلامة، وهاتِ ما تعرفه.
- إنها ظنون، وعندما تنكشف لي الحقيقة سأتكلم.
قال الشيخ سالم وكأنه يُحدِّث نفسه بصوت مسموع:
- على علمنا أن ليس لأحد من أبناء الشيخ جابر أية عداوة مع أحد في هذه البادية المترامية الأطراف.
قال الشيخ سلامة بصوت يسمعه الحاضرون:
- لقد تكرر القتل ونحن لا نعرف القاتل ولا دافعه.
وسكت الشيخ سلامة الذي يقدِّره جميعُهم، ويرفعونه إلى درجة الحكيم بينهم، ويقدِّرون كلامه. ولاذ أخرون بعباءة الصمت يقلبون حوادث الأيام والأعوام الماضية لعلهم يتصيدون حدثاً منها أو يمسكون بخيط يدلهم إلى مكان " مربط الفرس" ليسوقهم إلى الفرس ذاتها. ولكن حسان يسأل:
- ألا يكون دافع القاتل السرقة، فخشي أن تُعرف هويته، فرمى برصاصة طائشة... وهرب؟.
قال رجل ينفي قول حسان ويرد عليه:
- كلا !... ليست طائشة، وإنما هي طلقة مُصَوَّبَة إلى مقتل؛ في جبهة الرأس. هذا ما رأيته عندما نقلناه إلى داخل الدار.
الشيخ جابر يجلس مقرفصاً يسمع كل هذا التحاور وهو صامت لا يتكلم، وإنما كان يكتفي بالتفاتة جهة المتحدث حين يتحدث، وكان صامداً لم يضعف ولم يذرف دمعة واحدة، ومَن يدري إن كان قلبه يذرف دماً وحزناً بقدر فجيعته وبحجم مصابه. ويقوم هذا الشيخ من مقامه ويشير إلى الحضور أن يدخلوا الشِّق(الديوان)، فيدخلون ويستوي كل منهم في مكانه، ثـم يستأنـف الحـوار
بنفس الوتيرة المستأنية الحائرة حتى طلع الصبح.
وفي الضحى جُهز الميت وحُمل إلى السجد ظهراً للصلاة عليه، ثم حُمل على الأكتاف إلى مثواه الأخير ووُري تحت الثرى. ومرت أيام ثلاث وتبعتها ثلاث أُخر وبكارج القهوة منكفئة تعبيراً عن الحداد والعزم على الثأر، ولكن القاتل مجهول، ولو أنه معلوم لأخذ أخوة القتيل وأبناء عمومتهم الثأر من القاتل، فهم يقدرون، فالرجال والخيل عندهم والسلاح والمال بين أيديهم، ولا ينقصهم إلا معرفته حتى يبرد الدم الذي يفور في العروق وينتهي الأمر. هذا ما دار في رأس الشيخ سلامة، فهل يفصح عن رأيه أم يؤجل هذا الحديث لبضعة أيام تكون فيه النفوس قد استسلمت للأمر الواقع وتكون العاصفة قد هدأت في الصدور؟. فاستحسن الرأي الأخير وسرح فكره يقلب دفاتر الأيام الخوالي، فانتشله صوت الشيخ سالم يقول:
- يا شيخ سلامة! ماذا برأيك نفعله حتى نبقي على الأحياء من أبناء الشيخ جابر قبل أن يتقصَّدهم القاتل المجهول؟.
فطن الشيخ سلامة لما يرمي إليه صاحب السؤال، ولكنه كان أسرع أن يعيد إليه سؤاله ويستمع إلى رأيه:
- وماذا ترى أنت؟.
- أرى تشديد الحراسة على دار الشيخ جابر ومقتنياته كل ليلة منذ الغروب حتى الشروق.
فردَّ الشيخ سلامة مستنكراً رأيه:
- ليس هذا هو الحل.
قال قائل من بعيد:
- الرأي عندي، أن نبحث عن القاتل ونتعقب أثره، فما من جريمة إلا ويترك جانيها خيطاً رفيعا يدل عليه.
قال الشيخ سلامة:
- أيضا ليس هذا هو الحل.
قال حسان:
- الرأي عندي، أن القاتل بيننا، فابحثوا عنه تجدوه إن كنتم عازمين.
صفن الشيخ سلامة ولاك كلام حسان فوجده قريباً من رأيه الذي ما زال مخبوءاً، وقال لحسان:
- ما الذي دعاك إلى هذا الظن؟.
- ليس ظناً يا شيخنا وإنما هو رأي افتراضي، وذلك لسببين: الأول قد يكون الدافع هو السرقة، الثاني قد يكون ثأراً من أهل غريم لغُرم طوته السنون.
ارتفع دويُّ الهمس المبهم بين كل اثنين أو ثلاثة من الرجال الحاضرين، والشيخ جابر يسمع
تحاور المتحاورين دون أن يصدر عنه شيء سوى زفرات حارة حارقة بين الفينة والأخرى، وانتبه
أكثر عندما قال الشيخ سلامة:
- يا حسان! أنا أستبعد السبب الأول، ولكني أُوافقك الرأي قي السبب الثاني، فإن لم يُخطئ حدسي فهو قصاص لثأر قديم.
هاج الحاضرون وماجوا من جديد، فكثرت الهمهمات وارتفعت الأصوات، ولاحت على بعض الوجوه قتامة زادت من سوادها في ذلك النهار الحزين، والشيخ جابر جامد الوجه والقصمات لا يضعف ولا يلين ولا يبدو عليه إلا تلك الغلالة السوداء بفعل الحزن وعظيم الفاجعة، وإلا ذلك الشعاع الخافت الذي ينبعث من عينيه شبه المطفأتين، فقال الشيخ سلامة للشيخ جابر:
- أفلا تعرف شيئاً يا بن العم، أو أن تكون سمعتَ شيئاً في بيت أبيك ما يفكُّ هذا اللغز.
- كلا.
- تذكَّر يا بن العم إن كنتَ قد ارتكبتَ جناية في حق أحد؟.
تطلَّع الشيخ جابر في وجه محدثه باستنكار، ونفى جازماً حدوث ذلك:
- إنْ كنتُ قد فعلتُ فأنت تعلمه.
- لا تؤاخذني على سؤالي، فقد كنتُ كثير الأسفار في شبابي، كثير الغياب عن الديار.
- لا تثريب عليك!.
- إذن دعُونا نفكر أكثر، ونبحث أكثر.
ارتفع صوت من بعيد متسائلا:
- إلى متى؟ حتى يُقتل الرابع؟.
- لن يطول بنا الوقت.
انفض المجلس ساعة الظهيرة على أن يعودوا للاجتماع بعد صلاة العصر حسب ما اعتادوا عليه كل يوم، ولكن الكلام يتبعثر من على ألسنة القوم مُعَبِّرين به عن قلقهم الممزوج بالخوف والأسى، فقال قائل منهم يحدث رفيقه همساً:
- ثلاثة شبان من خيرة شباب البادية يذهبون هدراً ولا يُعرف القاتل، أيْ والله مصيبة، الله يكون في عون أبيهم.
فيرد رفيقه محزوناً:
- كأني بالقاتل ينتقي من أبناء الشيخ جابر الفالح ثم الفالح، فكلما شبَّ صغير وانعقد زنده ونبت شارباه اغتاله الرصاص المجهول!.
- ما فات عرفناه، وألله يستر من الآتي.
- لكن هل سألتَ نفسك لماذا أبناء الشيخ جابر بالذات، لماذا لا يكون في غيرهم، رغم أن بعض الشيوخ يملكون مالا وحلالا مثل الشيخ جاير وأكثر؟.
- نصيبهم يا بن عم، نصيبهم.
- لا... لا بد أن في الأمر سراً لا يعلمه إلا الله .
- ويمكن الشيخ جابر يعلم ويُخفي ما يعلم.
- ما لك شَطَحت في أفكارك؟ اتقِ الله يا رجل، ولا تبتعد كثيراً؟.
- بصراحة صار الفار يلعب في عبي يا بن عم من سكوت الشيخ جابر.
- هو انت لك عب حتى يكون ملعباً للفئران، وبعدين لا تزيد على الرجل أكثر مما فوق رأسه من هموم، كان الله في عونه، وألله يصبِّره.
* * * * *
انعقد المجلس " الشِّق" بحضور لفيف من الرجال الذين جاءوا من أنحاء متفرقة من البوادي المتباعدة لمواساة الشيخ جابر عقيد قومه فور سماعهم بالخبر الذي انتشر بين العُربان انتشار النار في الهشيم، ولم يخلُ بيت للعائلات أو منتدى للشباب أو ديوان للشيوخ إلا كانت أخبار هذه العشيرة وما جرى فيها من تكرار جرائم القتل على يد مجهول تسيطر على أحاديث أسمارهم، فيقطع عليهم هذا الهاجس المرعب كل الطرق إلى الأمان والاطمئنان، فجاءوا فرادى وجماعات من العشائر البدوية من أجل المواساة وحباً في معرفة الحكاية وخفاياها، فتناثرت كلماتهم المعبِّرة عن مشاركتهم الشيخ جابر أحزانه، وارتفعت آيات الترحم على الفقيد والدعاء لأهله وذويه بالصبر والسلوان وأن يعوضهم الله عنه خيراً، وأبدى بعضهم جاهزيتهم بالمال والسلاح إذا طُلب منهم ذلك، وتتابعوا في الانصراف إلى مضاربهم قبيل غروب الشمس. وبعد وداع آخر رجل من مشايخ العرب في ذلك المساء، وبعد أن استقر رجال الحي في أماكنهم، إذا بشاب يدخل عليهم ناشراً السلام بطريقة لفتت انتباههم، قعد الشاب والعيون تلاحقه، ولما استوى في مقعده أنصت لأحاديث الشيوخ وأبنائهم وأبناء عمومتهم، فقال قائل منهم:
- إذا طوينا هذه الصفحة كسابقاتها، فانتظروا ليلة قادمة تحمل معها حدثاً جديداً مفجعاً للعشيرة كلها.
ردَّ أحد الحاضرين بشيء من الأسى قائلا:
- هَبْ أنا لا نطويها، فمَن غريمنا؟.
- نبحث عنه حتى نعرفه، وبعدها لكل حادثة حديثها.
وتعالت أصوات الحاضرين الذين انقسموا إلى فريقين، كل منهما يؤيد أحد الرأييْن. والشاب يستمع لهؤلاء ولهؤلاء، وأيقن أنه سيُحْدِث بما جاء به زوبعة قد لا تنتهي حدتها الليل كله. وعزم أمره وقال بادئاً كلامه بما يسكت الجميع:
- يا قوم ! تعلمون أني تغيبت عن مضارب العشيرة بسبب تجارتي ما يزيد على الشهر، فلم أعلم بما حدث من كارثة إلا من رجل كهل قد استوقفني في وادي غزة منذ عشرة أيام، وعندما طلب مني أن أنتسب انتسبتُ، ولما عرف أني من هذه العشيرة، أجلسني بقربه رغبة منه في محادثتي، فنقل إليَّ أخبارها، وحمَّلني رسالة إلى الشيخ جابر يقول فيها: " الآباء يأكلون الحِصْرِم والأبناء يضرسون ". وتوقَّف الشاب عن الكلام، فالرسالة قد انتهت ووصلت إلى صاحبها، ونظر في وجه الشيخ جابر ثم طاف بنظره في وجه الشيخ سلامة وسائر الرجال يستنطقهم، فرآهم في وجوم لم يرهم فيه من قبل. ولكن الشيخ سلامة كان أول مَن تكلم:
- قل لي يا فارس، مَن هذا الرجل الذي حمَّلك هذه الرسالة، وأين دياره؟.
لوى فارس شفته اليسرى وقال:
- لم يعرِّفني بنفسه ولا بقبيلته ولا بعشيرته الأقربين.
- أين تلاقيتما؟.
- بعد خروجي من وادي غزة متجهاً بجِمالي إلى الشرق وأنا في طريق عودتي إلى الديار.
- هل كنتَ وحدك؟.
- معي راعيان.
- أكنتم عُزلا أم مسلحين؟.
- أحدهما يحمل سيفاً والآخر يحمل شبريِّة.
- وأنت؟.
- كنتُ أحمل شبريِّة وأُخفي فرداً تحت سترتي من الخلف.
- هل سبق أن رأيتَ هذا الرجل يا فارس؟.
- أبداً.
- صفه لنا يا فارس.
- رجل كهل تجاوز الأربعين بقليل، طويل نحيف يرتدي قمبازاً كالحاً، يحمل بيده بندقية،
وشبريَّته تتدلى من حزامه، وشبَّابة مغروزة تحت الحزام من الخاصرة الأخرى.
- في أي ساعة كان لقاؤكما؟.
- كان الوقت عصراً.
- ألم تلمح في وجهه علامة فارقة؟.
- كلا!.
- هل ساومك على جِمالك؟.
- ماذا تريد أن تقول يا عمي الشيخ؟.
- هل هو قاطع طريق؟.
- كلا! ليس في مظهره المتواضع ما يدل على أنه حرامي أو قاطع طريق.
- وما دليلك يا فارس؟.
- دليلي أنه لم يسألني كم أحمل من اللـيـرات بعـد أن عـرف مني أني تاجــر جِمال، وعــنــدما
عرضتُ عليه بعضها لاتقاء شره رفض، وتركني سالماً في مالي وفي جِمالي رغم قدرته على السلب والنهب لو كان يريد، ولكنه لم يفعل أكثر مما فعل، وفارقته في سلام بعد أن حمَّلني الرسالة للشيخ جابر.
- ولكنك قلت إنه أخبرك بالحادث المؤسف الذي وقع في القبيلة.
- صحيح.
- ألم تسأله عن الفاعل أو إن كان يعرف الفاعل؟.
- طبعاً سألته، ولكنه لم يقل شيئاً.
- وهل خطر لك أن تسأله عن السبب؟.
فأومأ فارس برأسه، وقال:
- لمَّا سألته السبب لاحت على وجهه علامات الغضب، وحمَّلني الرسالة التي نقلتها لكم، وامتطى صهوة فرسه ومضى .
- إلى أين مضى؟.
- لا أعلم، لأن اهتمامي في ذلك الوقت كان في النجاة بجِمالي.
تطلَّع الشيخ سلامة في وجوه القوم ثم ثبَّت وجهه في وجه الشيخ جابر وقال له:
- ماذا فهمتَ يا شيخ جابر من الرسالة، وما تعقيبكَ على ما سمعتَ من حديث فارس؟.
- هناك في سلة تاريخنا أمرٌ أجهله، فهل مِن امرئ يقرؤه عليَّ؟.
- ومن أين لنا ذياك الإنسان الذي يعي التاريخ حقاً؟.
- وأنت يا شيخ سلامة ألا تحفظ شيئاً يفك طلاسم الرسالة المجهولة؟.
- ما عاصرتُه أنا عاصرتَه أنت، فكلانا من جيل متقارب، وإن كنتُ أكبركَ ببضعة شهور.
- إذاً لا فائدة.
- فلنبحث عمَّن تختبئ عنده الفائدة.
وعلت همهمات القوم وهم يقلبون الأمر بينهم في يأس مفزع، وهنا تدارك الشيخ سلامة أن الوقت دخل في العشاء، فصاح فيهم وأسكت بصوته همهماتهم، وقال:
- يا قوم، منذ الليلة أريدكم أن تفتحوا عيونكم وتسهروا على أمن وسلامة العشيرة من الدخلاء والمجرمين، عسى أن يقع القاتل في أيديكم قبل أن يرتكب حماقة جديدة لا سمح الله ، فكونوا متيقظين وعلى قدر المسئولية.
وما إن أنهى الشيخ سلامة كلامه حتى جاء رجل من أقصى الحي يسعى وهو يصيح بلهوجة إلى أن دخل " الشِّق":
- يا شيخ جابر، يا شيخ سلامة، يا قوم، إلحقوا النار...النار!.
- أيُّ نار يا ولد؟.
- النار في زروع الشيخ جابر.
وهُرع الناس إلى حقل من القمح والشعير يحترق، ولم تسلم زروع العدس المجاورة، فـقـد مالت عليها ألسنة النيران فالتهمتها، ولم يفلح أهل الحي في إطفائها. وينظر الشيخ جابر إلى النار الأكولة وهو يقول همساً:" الحمد لله، في المال ولا في العيال". ثم يستدير ليسمع الشيخ سالم يقول:
- إنها النار الثالثة أيضاً.
* * * * *
ظلت المياه راكدة بضعة أيام بلا جديد، يأتي القوم يجتمعون ويتسامرون على مرأى ومسمع من شيوخ العشيرة، يحسبون أن الشيخ جابر وابن عمه الشيخ سلامة وآخرين قد نسوا المصائب التي حلت بالحي كله، ولكنهم لو دخلوا إلى قلب الشيخ جابر لرأوْه معموراً بالحزن، ولو أنصتوا لسمعوا هدير الألم الذي يُدوي في جنباته فتتنادى له سائر أعضائه وجوارحه، وحين يسرح بخياله يغيب عن نفسه فيعضُّ على شفته السفلى أو يقرض أسنانه أو يعض سبابته وهو ذاهل عن نفسه لا يدري ماذا يفعل إلا أن ينبهه أحد من الأقربين. وهكذا يمضي الوقت من كل ليلة على هذا المنوال ثم ينصرفون، ولا يبقى في جفن الليل يسهر سوى هذا الشيخ المكلوم مع آلامه ودموعه التي تتحجر في وجود رجال العشيرة، وتبقى عصية حتى ينفرد بأحزانه في عتمة الليل، فتسح دموعه سح المطر تغسل أشواقه وحنينه ويتطهر بها من أكدار الزمن ونواقضه.
ويلتئم الجمع في أول المساء من إحدى الليالي، فيقصُّ الشيخ جابر على الملأ من قومه ما رآه في الليلة الفائتة في منامه من حلم أزعجه وبلبلَ حاله:
- رأيت فيما يراه النائم أني أقف وحدي في صحراء عريضة واسعة أصرخ فيضيع صراخي بين الكثبان الرملية المرتفعة كالجبال، وأنظر فإذا أصابع يدي اليمنى يقطر منها الدم فألعقه بلساني، ولكن الدم لا ينقطع، ثم أرى من فوقي سيفاً بتَّاراً يتوهج في عين الشمس يهوي على يدي اليسرى فيضربها، فصرخت ثم أفقت.
وسكت الشيخ جابر عن الكلام، وأخذ ينظر حواليه يستقرئ الوجوه التي اعتراها الوجوم، ثم استأنف: - أما من أحد منكم يفتيني في رؤياي، أو يدلُّني على أحد يقدر على ذلك؟.
فيقول أحد الرجال بصوت ينمُّ عن العجز المصحوب بالهمِّ والقلق:
- هذا حلم يحتاج إلى عرَّاف حتى ينبئنا بتأويله، فلو كان لنا أن نصل إلى الحقيقة لهان علينا نصف ما ابتُلينا به، ولكن أن نظل معلَّقين بين مطرقة المجهول وسنديانة الترقُّب فهو أمر فظيع.
فيجيبه آخر من طرف قصي:
- وماذا بيدنا أن نفعل، لـقـد اسـتـقـصينا الأخبار من كبار السن في أحياء العشيرة كلها ومن
أنسبائنا ومعارفنا في العشائر الأخرى من القبيلة فلم نسمع كلمة تبلُّ الريق.
فانبرى حسان متوجهاً بحديثه إلى الشيخ سلامة، قائلا :
- يا شيخنا! لقد نُمي إليَّ- خلال استقصائي- أن امرأة عجوزاً كانت تخدم في بيت الشيخ
عواد أبي الشيخ جابر منذ خمسين عاماً، فهي بلا شك تحفظ تاريخ العشيرة بأحيائها في ذلك الزمان، فما رأيكم أن نستدعيها ونسألها، لعل وعسى أن نجد في جعبتها الخبر اليقين الذي نحن فيه حائرون.
تنبَّه الشيخ جابر واستيقظ كل ما فيه، وسبق ابن عمه الشيخ سلامة وسأل حسان بلهفة:
- مَن هي؟.
- الحاجة عيشة بنت سويلم الأخرس.
فمدَّ الشيخ جابر يده ولوى كفَّه إلى حسان وسأله:
- نعم... نعم! إني أذكرها، فقد كانت في بيتنا قبل مولدي، وعاصرتها منذ طفولتي حتى شبابي، ولكن أين نلقاها وقد غابت عن حينا منذ عقدين من الزمان؟.
- يقولون إنها تسكن في أطراف عشيرة السنابك.
التفت الشيخ جابر إلى الشيخ سلامة وكأنه يستشيره الرأي، فأشار الثاني قائلا:
- اسمع يا حسان.
- نعم يا عمي.
- اذهب ومعك اثنان ممن تختار من شباب عشيرتنا إلى عشيرة السنابك غداً صباحاً، واقصدوا ديوان الشيخ جبريل، واقرئوه مني ومن الشيخ جابر السلام، واسألوه أن يأذن لكم في اصطحاب المرأة العجوز، فهي في جواره، ولن يتردد الرجل في تلبية طلبكم.
* * * * *
مضى يومان على خروج حسان وقبيل غروب شمس اليوم الثالث كانت عودته وصحبه، وكانت ترافقهم الحاجة عيشة في هودج خُصص لها على ظهر بعير، وما إن وصلوا حتى أنزلوها في ضيافة الشيخ جابر. وفي المساء اُحضرت المرأة العجوز وأعدوا لها مقعداُ في مكان قريب من الشيخين، وقد هالها ما وجدت من حفاوة وهي لا تدري سبباً لاستقدامها غير أن الشيخ جابر بن الشيخ عواد يستزيرها لأمر لا تعرفه. التأم شمل المجلس وضج الديوان بالحضور، كلٌ جاء يرغب في سماع هذه العجوز وما تخرجه من مكنونات التاريخ الذي تحفظه وتتحفظ عليه.
كانت الحاجة عيشة (أم منصور) قد أحنى الزمن ظهرها وأضعف ساقيها واستلَّل البريق من عينيها. يا سبحان الله! مَن كان يُصدِّق أن عجوز اليوم كانت شابة جميلة تقهر الرجال وتستفز رجولتهم بلحظ عينيها الكحيلتين، وبجمال وجهها وشفتيها المتوردتين، وبنهديها المتحفزين، وبرقة حديثها الطروب؟. مَن كان يصدق أن هذه القامة المنحنية كانت قائمة كعود الخيزران يستعصي على الزمن ليَّه وثنيه؟. مَن كان يصدق أن هذا الفم كان عامراً بعقدين من اللؤلؤ، فأغار عليه الزمن وأطاح بذخائره، فأصبح الآن كالمغارة المتروكة منذ مئات السنين؟. يا إلهي كم كان مشهدها آية لمن يغفل عن حقيقة المصير الذي حتماً سيؤول إليه كل مُعَمَّر كما آلت إليه الحاجة عيشة حين دخلت تجرجر قدميها وتتوكأ بيدها اليمنى على عصاها وتتكئ على ذراع سرداح حتى استوت على فروة خروف بيضاء ناعمة، فتنفست الصعداء تعبيراً عن ارتياحها بعد تجشمها هذا النَّصَب في مشوارها الطويل. مال سرداح يجذعه وصَّبَ لها فنجاناً من القهوة العربية أُعدَّت خصِّيصاً لها طمعاً في تنشيط ذاكرتها، فرشفته وطلبت المزيد فزِيدت، وحمدت الله، ثم مدت يدها المرتعشة برعاية عينيها الضعيفتين تتحسس مكاناً تضع فيه الفنجان، فأسعفها أحد الرجال وتناوله منها. وأخذت تتلمظ بلسان تختلط فيه الزرقة بالحمرة يجول في مغارة فارغة، وبدت منها التفاتة ذات اليمين وذات الشمال فلم تتبين أحداً تعرفه، فسألت: " أين الشيخ جابر، أهو من الغائبين؟". حينها بدأت العيون تتطلع إليها عندما بدأ الشيخ جابر يرد عليها بصوت واه ضعيف:
- أنا هنا يا حاجة. أنا جابر.
لم تسمع جواب الشيخ جابر لثقل في سمعها، وعادت تسأل بتقرير النفي:
- ليس حاضراً؟.
ورفع الشيخ جابر صوته:
- أنا هنا يا حاجة، أنا جابر ولد الشيخ عواد.
- سقى الله تلك الأيام يا جابر، أتذكرها وتذكرني معها حين كنت موكلة من أبيك برعايتك وبخدمة أمك.( ثم رفعت رأسها ويديها المرتعشتين وتمتمت): رحمة الله عليهما!.
- تعيشي يا حاجة عيشة!.
وانتهز الشيخ سلامة فرصة صمتها، وسألها:
- وأنا يا حاجة أتذكرينني؟.
فالتفتت جهة الصوت وردت السؤال بسؤال:
- ماذا تقول؟. أنا لا أسمع جيداً.
فانبرى حسان يخاطب الحاضرين:
- الحاجة عيشة سَمْعُها ثقيل، فارفعوا أصواتكم عند مساءلتها، فإن عمرها المديد ( قد أحوجَ سَمْعَها إلى تَرجُمان). .
فقرَّب الشيخ سلامة شفتيه من أُذن العجوز ورفع صوته قائلا:
- أنا يا حاجة عيشة، هل تذكرينني؟.
- ومن أنت يا ولدي؟.
- أنا سلامة ابن عم الشيخ جابر .
- سلامة ابن الفلاحة بيسان!.
وضحكت وأجبرت الحضور على الضحك بمن فيهم الشيخ جابر الذي تبسم، وقالت:
- نعم أذكرك إذ كنتَ صبياً، وأذكر أباك الشيخ هزاع وأمك بيسان، رحمة الله عليهما!.
ولاحقها الشيخ سلامة بالسؤال:
- منذ متى التحقت بخدمة بيت عمي الشيخ عواد يا أم منصور؟.
أخذت تلحوس بلسانها ظاهر شفتيها، وهي تنقب عن زمن استخدامها في بيت الشيخ عواد، ولم يطل بها الوقت حتى قالت وكأنها تفكر بصوت عال:
- من قبل أن يولد جابر.
- وهل تذكرين مولده؟.
- ومولدك يا سلامة، الذي حدث بعد كسرة (هزيمة) تركيا.
- إلى متى؟.
- إلى ما بعد موت الشيخ عواد بعامين، حين ضعفت حيلتي وقدرتي على العمل.
واستجمع الشيخ سلامة بضعة أسئلة، فكان أولها:
- هل علمتِ بما جرى لهذه العشيرة من مصائب؟.
فهزت رأسها يمنة ويسرة، فهي لم تحدد مصدر الصوت، فقالت بصوت ضعيف:
- نعم.
- ماذا علمتِ؟.
- ما تناقلته الرُّكبان من أخبار.
- وماذا تناقلت الركبان؟.
- أتقصد القتل الذي بدأ ولم ينته في حفدة الشيخ عواد.
تنبه الحاضرون واستيقظ الشيخ جابر ولد الشيخ عواد من شيء يشبه السبات حين ذكرت القتل الذي بدأ ولم ينته بعد، فأفزعه ذلك وأرعبه.
- نعم هذا قصدي، فَقُصِّيهِ علينا... وفصِّلي تفصيلا.
قالت متأسية:
- يرحمهم الله!.
وهنا سألها الشيخ سلامة بينما عيون القوم مُصَوَّبَة إلى شفتيها، يتأهبون سماع أخبارها.
- ما تفسيرك لهذا القتل يا أم منصور؟.
- وبمَ فسرتموه أنتم؟.
- اجتهدنا فأخفقنا.
- لماذا؟ وفيكم عقلاء وحكماء.
- لم نهتدِ إلى تفسير مُريح، ولكننا اهتدينا إلى إحضارك وسماع ما لديكِ، فأخبرينا اليقين إن كان لديك علم قديم.
فابتسمتْ إذ عـرفتْ أهـميتها عـند قوم استخدموها وأذلُّوها زمناً طويلا، وها هي الآن تتربع على
فراشهم بجوار مشايخهم ومُقدَّمة على علِيَة القوم فيهم. وعادت تتلمظ وكأنها عادة قد استحكمت بمن يخلو فمه من أسنان، وطلبت القهوة ، فأفرغت الفنجان في جوفها وطلبت الثاني وعَبَّتْهُ وهي مُطرِقة تستجمع أحداثاً عفا عليها الزمان، وحين طال انتظارهم حسبوا أنها لم تسمع سؤالهم، فعزموا على إعادته، ولكنهم قبل أن يفعلوا سمعوها تقول:
- كان ذلك منذ أربعين سنة ويزيد.
اتجهـت كل العـيون ترنو إلى هـذه العجـوز الآتية من مجاهل التاريخ، وأُرهـفـت الآذان والعقـول
لالتقاط كلماتها، فطاف طائر الصمت فوق الرءوس التي أثقلها الفكر والتذكر والتخمين الذي وسع كل احتمال ممكن وغير ممكن، فأُرهِفت الأسماع، وكفت الأيدي عن اللعب بالمسابح حتى يمكنهم سماع هذا الصوت الآتي من الزمن الغابر، وقالت بصوت الآمر:
- صُبَّ القهوة يا ولد.
فأسرع سرداح وصَبَّ لها القهوة، فرفعت الفنجان وأفرغتْه دفعة واحدة، وعادت تتلمظ وتلحوس
شفتيها بلسانها الشبيه بحيَّة تطل برأسها من جُحرها، بينما كانت تبدو في إطراقها وكأنها تفتش عن التاريخ في لفائف الذكريات:
- نعم كان ذلك منذ أربعين سنة ويزيد عندما كنت أعمل في خدمة الشيخ عواد " أبي جابر"، كنت أسوس فرسه، وأحلب النوق والغنم، وأقوم على خدمة زوجه أم جابر، وسائر الحرائر من أهل بيته. وكان من بين الخدم شاب يدعى مسعود في أواخر العقد الثاني من عمره، يرعى الغنم ويحطب نهاراً ويشعل النار ليلا، ويقوم على إعداد القهوة وسقاية القوم وهم في ليلهم يتسامرون.
كان مسعود راعياً وخادماً محبوباً من الجميع، كما كان الشيخ عواد يحبه حباً كبيراً لما يتصف به من صفات لا تجتمع في خادم آخر مع كثرتهم. فكان عظيم الوفاء لولي الأمر، شديد الإخلاص في العمل، وهو الوحيد الذي كان يؤتمن جانبه في مخاطبة حرائر البيت من النساء ومن الفتيات اللائي يعملن معه. وإني لأشهد له بأخلاقه العظيمة الكريمة وسيرته العطرة الحميدة. ولكن الشيخ عواد كغيره من مشايخ البدو، لا تخلو نفسه من نوازع الظلم والتسلط، وقد كان الشيخ في مجمله عدواني في مظهره ومخبره، يخافه القاصي ويجفل منه الداني، ويرهبه أحب الناس إليه وأقربهم إلى قلبه مودة، وحين كان يُلام عـلى سلوكه العدواني العـنيف، كان يـرد ساخطاً متجهماً: " الشر سياج أهله ".
- صُبَّ القهوة يا ولد.
وشـربت قهوتها واستأنفت:- لم يكن مسعـود ابن السابعة عشرة مـتـزوجاً، فكان يـقـيـم مع أخـيه
الأكبر- واسمه حمدان- في طرف الحي الغربي من مضارب العشيرة، وكانت أسرة حمدان هذا مكونة من زوجه وابنته البكر وابنه الوحيد " سعيفان". وحدث أن خرج الشيخ عواد في يوم صائف يتفقد زروعه ومواشيه، وينظر كيف تسير الحياة في " مملكته!"، حتى وقف قريباً من الخيمة التي يسكنها حمدان وأسرته، فترجَّل عن فرسه، ونظر حوله فرأى طفلا في العاشرة من عمره يلعب وحده، فناداه الشيخ أن يأتي له بدلو من الماء لتشرب الفرس، فأبى الطفل، ونهره الشيخ ولكنه ظل على عناده ولم يستجب، فكَبُر ذلك عند الشيخ وأغاظه أن طفلا يعصي أمره، فاقترب منه، والطفل واقف ثابت في مكانه، لم يهرب ولم يُعِره ذاك الاهتمام الذي كان يتوقعه، فاحتسب الشيخ هذا الموقف تحدياً له وخروجاً عن طاعته التي لا تَقْدِر ولا تَجْرُؤ على الخروج عنها الفتوات من شباب وكهول القبيلة، ولما أعاد عليه الطلب وأعاد الطفل عليه رفضه، لطمه الشيخ على وجهه، فصاح الطفل من هول اللطمة وجرى على بعد خطوات والتقط حجراً ورمى به سيد البلاد فشَجَّ جبهته وسال منها الدم، وهرب الطفل يلوذ بأهله. هنا خرجت أخلاق أهل الأعراب من مكامنها، فترك الشيخ لجام فرسه، وجرى يتعقب الطفل، والطفل يجري أمامه وهو يملأ الفضاء صياحاً إلى أن دلف في الخيمة، فتلقته أمه تهدئ من روعه وهي لا تدري سبب فزعه، وكاد الأب(حمدان) يسأل ابنه عـما جرى له حـتى دخل عـليهم الشـيخ عـواد بغـتةً هائجاً كـثور بـري، كل ما فـيه ينـفخ ويـزفـر غضباً، ومد يده إلى الطفل يريد أن ينتزعه من أحضان أمه، ولكن هيهات!. وقام الأب في وجه الشيخ الهائج، وخاطبه في رفق رغم دهشته من اقتحام هذا الشيخ حُرمة البيت:
- ماذا حدث يا شيخ عواد حتى تتهجم علينا هكذا؟.
قال الشيخ والدم يقطر من جبهته:
- أريد أن أعاقبه على فعلته.
انتبه الأب فرأى جبهة الشيخ قد انتفخت والدم يسيل من جرح فيها وقال:
- هَوِّنْ عليك يا شيخ! فلا تؤاخذنا على فعله، إنه طفل ونحن نعرف كيف نعاقبه.(وحاول أن يثنيه بلطف واحترام):- تعال أعصب جرحك بمسحوق القهوة.
ولكن الشيخ عواد يأبى أن يستجيب له تحت إلحاح الغضب فـيَكِـرُّ ثانية ويقبض على مجمع ثوب الطفل من الصدر ويجذبه بقوة، فيعلو صياح الطفل من الفزع، وأمام هذا المنظر وبفعل عنجهية الشيخ تستيقظ الحَمِيَّة في صدر حمدان ويرتفع الدم في رأسه، وتشتعل نفسه غضباً وخاصة حين رأى تهجم الشيخ عليهم، وحين رأى الخوف يُلوِّن وجه ابنه الطفل، فناوشه حمدان حتى خلَّص ابنه من قبضته ودفعه إلى خارج الخيمة، وهو يتوعده بمقاضاته على دخوله المحارم دون إذن من أصحابها، وكانت الدفعة قوية أخرجت الشيخ عواد من الخيمة وأطاحت به على ظهره ويقع عقاله عن رأسه. فينهض الشيخ عواد مستشراً وعيناه تتقادحان الشَرَّ، فيستل سيفه من جـرابه ويرفعه ويهــوي به عـلى رقـبة حـمدان، فكانت الضربة القاتلة أمام زوجه وابنته وابنه الطفل
سعيفان الذي شهد مقتل أبيه.
وسكـن لسان الحاجـة عــيـشـة ولـم تسكـن جــوارحـهـا وأطـرافـهـا مـن هـَـوْل الـتـذكـر، والحـاضرون
يستـمعـون لها كما لو أنهـم يستـمـعـون لحكاية مـن أساطـيـر الأولـيـن أو حـكاية مـن حـكاوي شعـراء
الربابة.
- القهوة يا ولد.
واستحثَّها الشيخ سلامة:
- أكملي يا أم منصور ، ثم ماذا؟.
- أيام لعينة... والشيطان شاطر.
علَّق الشيخ سالم قائلا كمن يحدِّث نفسه، وهو يمسح على لحيته بقبضة يده:
- لقد انفسر حلمكَ يا شيخ جابر، وبانت الحقيقة.
خَــيَّم الصمـت المرعـب عـلى رءوس القــوم، وإنهـم يَحُــثُّـون العـجــوز بأبصارهـم أن تـفـرغ ما في
جعبتها وتكمل سرد القصة حتى النهاية، وهي ما زالت تتلمظ وكأنها تعد لسانها على مواصلة الحديث، فحامت همهمات بين الرجال وهي لا تسمع منهم شيئاً ولا ترى أبعد من طول ذراعها. وطال بها الصمت أو ربما أعياها التذكر وأتعبتها التفاصيل، وطال بهم الانتظار حتى أرهقهم وأضناهم. وتململت العجوز واستجمعت قواها وقالت:
انقطع مسعود– أخي حمدان – عن العمل في حوش الشيخ عواد، ومكث في بيت أخيه القتيل
يستقبل المواسين دون أن يفتح لأخيه بِرزة ( بيت عزاء)، وانتظر أياماً ثلاثة فلم يأت أحد من طرف الشيخ عواد لمواساته وطلبِ العطوة منه كما هو مُتَّبع، ولم يرسل الشيخ عواد أحداً لأخذ العَمار والشروع في إجراءات العُرف السائدة في بادية العرب، ومضت الأيام الأربعون دون أن تحرك القبيلة ساكناً؛ وكأن القتيل كلب ليس له دِيَّة، ولا لأهله من بعده كرامة. فأُهمل مسعود، وشعر بفداحة هذا التهميل في نفسه بالقدر الذي أحدثه فراق أخيه. وهذا ما نغَّص عليه عيشه وحزَّ في نفسه، وآلمه شديد الألم في تلك الأيام العصيبة التي أورثته الحزن الذي لا تنطفئ جذوته ولا تندمل حُرقته، فالعربي يستعظم ويستفظع أن يُهَمَّل في حق له، بل إنَّ التهميل أجلب للحزن والكآبة، وأهون على المرء الحر من الموت ذاته.
لزمت زوج حمدان بيتها تعكف على تربية ولدها وتُعِدُّه ليوم الثأر لأبيه، فقد تملَّكها الحزن الذي أضناها وغيَّر حالها، ولم يكن يفارقها طيف زوجها الذي قُتل أمام عينيها، ولم تكن تتخلى عن فكرة الثأر لزوجها من قاتله، فكان خزين الثأر والانتقام يتزايد مع الأيام ولا يتناقص، فخلعت عن نفسها بهارج الحياة وزينتها، وحلفت بـعُقْصتها(جديلتها الأمامية) ألا تتطيب بعطر أو تضع الكُحل في جفنيها قبل أن يأخذ ولدها سعيفان بثأر أبيه، وكانت تردد أمام النساء اللائي يترددن عليها بالزيارة:
- النار مشتعلة في صدري ولا تنطفئ إلا بالثأر لزوجي.( ترفع رأسها إلى السماء بمناجاتها قائلة ): " أدعو عليك يا شيخ عواد ألا تفارق الأحزان دارك، ربنا ينتقم منك لزوجي الذي خَّلف لي رحيله الثكل ولأبنائه اليُتم، أدعو عليك يا شيخ عواد بأن يُحَرِّق قلبُك على أبنائك بأن تُحرَم منهم كما حرَّمْتَ أبنائي من أبيهم... متى يا سعيفان تكبر ويشتد ساعدك حتى تنتقم لأبيك، وتشفي غليلي"...
وسكتت الحاجة عيشة، وسكن كل ما فيها. فقد
بدا الإعياء يظهر على وجهها ولسانها، ولكنها فجأة التفتت يميناً وشمالا وقالت:
- وأنت يا جابر... ألا تذكر هذه الواقعة، لقد كنتَ وقتها ابن العشرة تقريباً؟! فلماذا لم تخبرهم؟. ألا تذكر أن نصح الشيخ مزعل أباك أن يتبع العرف ويرسل جاهة لمسعود أخي القتيل " للطَّياب"، فأبى وترفَّع، وأخذته العزة بالإثم، وكان منه ومن العشيرة كلها " التهميل" الذي يبغضه كل عربي مهما علا شأنه أو وَضَع.
ولم يرد جابر، ولكنه زفر زفرة حارقة أحس بها من كان قريباً منه. وضرب جبهته بكفه وقال:
- أذكر ...أذكر ، نعم كنت صغيراً ولكنني أذكر تلك الأيام بلا ملامح كطيف خيال، فلو لم تلقي يا حاجة علينا أحداث تلك الواقعة ما كنتُ تذكرتُها وما كان لها أن تخطر لي ببال.( ثم تأوه وقال محزوناً): رحم الله أبي، لقد فعلها وخلَّف لي الأوجاع والمتاعب، وكراهية الناس.
قالت الحاجة عيشة وهي تمد يدها تطلب القهوة:
يا جابر ... ألا تذكر يا ولدي المثل السائر: الآباء يأكلون الحِصْرِم... والأبناء يَضْرَسُون.
تذكَّر جابر فحوى الرسالة التي نقلها حسان من الغريب المجهول، وقال:
- صدقتِ يا خالة.
اختطف الشيخ سلامة الكلام وقال:
- دعونا من الولولات، فالزمن لا يعاتَب، ولكن كيف يمكن إصلاح ما يمكن إصلاحه.
قال الشيخ سالم:
- يا شيخنا! اسأل الحاجة عيشة إن كان لديها علم بمكان إقامتهم.
قالت العجوز بعد أن أذَّنَ الشيخ سلامة في أُذنها سائلا عن مكان إقامتهم:
- يا ولدي لقد مضى زمن بعيد، وابن البادية لا يستقر في مكان مدة طويلة، ولكن ما أعرفه في ذلك الزمان أن مسعود رحل بأسرة أخيه وقصد ديار بني ملحم في الشمال.
قال الشيخ جابر مستبعداً بقاءهم بين بني ملحم.
- وهل يقيمون هناك إلى اليوم؟!.
قال الشيخ سلامة:
- لا عليك سنبحث عنهم في أرجاء البادية ونواحيها، فإن لم نجدهم عند بني ملحم، فإننا لا
نعدم أن نجد في بني ملحم مَن يعلم علمهم. وغداً تنطلق فرق البحث والتنقيب في كل اتجاه، وعلى كل حال " الذي يسأل يُستَدَل".
* * * * *
شدَّ الرجال رحالهم وتوزَّعوا فرقاً انطلقت كل فرقة إلى جهة معلومة من البوادي المترامية الأطراف، وكان حسان على رأس الفرقة القاصدة صوب قبيلة بني ملحم، ومن هناك تتشكَّل ملامح الأخبار التي توجههم الوجهة الصحيحة، وكلهم أمل أن يستدلوا على مسعود وابن أخيه سعيفان في أقرب وقت.
ومضى على ذلك أيام حتى عادوا جميعاً وكان بجعبة أحدهم الخبر اليقين: إنهم بجوار الشيخ فواز بن مجاهد شيخ قبيلة الحلايمة جنوب الخليل. انشرح صدور القوم وبانت الراحة تعلو الوجوه، وأُزيلت سحابة القتامة عن وجه الشيخين جابر وسلامة اللذيْن تشاورا قليلا ببضع كلمات، وبعدها قال الشيخ سلامة: غداً أتوجَّه مع وفد من رجال العشيرة إلى مضارب صهرنا الشيخ عامر بن عبد السلام، شيخ عشيرة السلمانية المجاورة، وسنحلُّ ضيفاً عليه، ونطلب منه رسمياً تأليف الجاهة المتجهة إلى قبيلة الحلايمة، وأن يكون هو على رأس الجاهة وكبيرها( مسَّاك رسن الهَرج) لأخذ العَمَار بالعطوة التي يراها من مسعود وابن أخيه سعيفان ولد حمدان للقيام بالإجراءات التي تفرضها القواعد والأصول العرفية.
* * * * *
مناشدة:
أيها القضاة العرب، في الحضر والمُدر: هذه قصة قتل وثأر بادية، وقد تتجدد في أي وقـت
وفي أي مكان بنفس الظلم والعنجهية وبنفس المقدار من التعطش لقتل نفوس بريئة ما لها من ذنب غير أن الآباء أكلوا الحِصْرِم وحدهم وانصرفوا؛ وتركوا الأبناء يَضْرَسُون. أيها القضاة: إنَّا نستفتيكم فأفتونا بالحكم الواجب في هذه القضية بما لكل طرف وما عليه حسب القانون العشائري والعُرف السائد عند العرب." فبمَ تحكمون؟.*ا.ه