بومة البيت الأبيض

بقلم: الأسير كميل أبو حنيش

في أثينا القديمة وفي عصرٍ كان يعج بالفلاسفة والمفكرين, كان ثمة مثلٍ دارج في العالم القديم يقول: (إن بومة أثينا لا تطير إلا عند الغسق), فالبومة في أثينا القديمة كانت رمزاً للحكمة, ومعني هذا المثل أن الحِكم وأفكار الفلاسفة كانت تنطلق وتتولد من عقولهم وقت الغسق قبل الغروب بقليل, فانتقلت البومة كرمزية للحكمة من أثينا إلى الغرب, بينما لدينا في الثقافة العربية وفي الشرق عموماً، البومة كانت ولا تزال رمزاً للشؤم.

واليوم الولايات المتحدة صاحبة التأثير الهائل على العالم, وفي البيت الأبيض وفي قلب العاصمة واشنطن تصنع السياسات الداخلية والخارجية, وتتخذ القرارات الهامة التي تترك تأثيرها على كافة أرجاء المعمورة, بوصفها الإمبراطورية العظمى في التاريخ كما صممها الآباء المؤسسون وخططوا لها أن تكون قائدةً للعالم.

فهذه الإمبراطورية العاتية التي قامت على أنقاض وجثث عشرات الملايين من السكان الأصليين الذين أُطلق عليهم "الهنود الحمر", وعلى عذابات ومشقات ملايين الزنوج (الأمريكيين السود) الذين كان يجري استعبادهم في بناء أمريكا والعمل الشاق في مزارعها الشاسعة, وعلى عرق وشقاء مليارات البشر في الوقت الحالي.

وهذه الإمبراطورية منذ تأسيس أول مستوطنة فيها مثلت النموذج اليهودي التوراتي في إبادة السكان الأصليين, فقد اُعتبرت هذه البلاد المكتشفة حديثاً بمثابة أرض الميعاد, أما المهاجرون "الأنجلو ساكسون-البروتستانت" الذين أخذوا باستيطانها اعتبروا أنفسهم شعب الله المختار, أما السكان الأصليين الذين جرت إبادتهم بالتدريج فقد جرى تشبيههم بالكنعانيين.

إن هذه هي الأيديولوجية التي قامت عليها الولايات المتحدة منذ تأسيسها بوصفها دولة الرب وشعبهم هو شعب الله المختار, و"جورج واشنطن" ليس مؤسس الولايات المتحدة ورئيسها الأول وحسب بل كان معروفاً بجرائمه الفظيعة بحق السكان الأصليين, كان يأمر قائده العام في الحرب على هنود الأروكوا بأن يدمر كل ما يجده على وجه الأرض، وكان يعزي هذه المذابح لإرادة الله, ففي خطابه الافتتاحي كرئيس للولايات المتحدة قال: (إن كل خطوة تخطوها الولايات المتحدة تحمل علامة تدخُل العناية الإلهية), حسب هذا المنطق فإن العناية الإلهية هي من أتاحت لأمريكا الظهور، وهذه العناية الإلهية هي من ترسم قدرها وسياساتها وممارساتها.

سنجد خليفته "جون آدمز" الرئيس الثاني يغزل على ذات المنوال, حيث كان قد كتب عام 1765 العبارة التالية (لقد أوجدت العناية الإلهية أمريكا لتكون مسرحاً يحقق فيه الإنسان مكانته الخاصة), و "آدمز" لا يختلف دمويةً عن "واشنطن" بحق السكان الأصليين، فقد عزى للعناية الإلهية رعايتها للولايات المتحدة في كل ما يصدر عنها من ممارسات كما بارك المذابح الرهيبة بحق السكان الأصليين.

أما الرئيس الثالث "توماس جفرسون" فقد صرح علانيةً أن الشعب الأمريكي هو شعب الله المختار, آمن بهذا الشعار وتمثل النموذج التوراتي بما فيها معالم "يشوع" الأسطورية, كان يأمر وزير دفاعه بسحق كل هندي يرفض التوسع الأمريكي, وأن يستخدم "البلطة" وكان يقول: (لن نرفع هذه البلطة عن رؤوسهم حتى يبادوا عن بكرة أبيهم أو يرحلوا إلى ما وراء نهر المسيسبي), وهذا ما حدث خلال قرون قليلة حيث جرت عملية إبادة لعشرات الملايين من السكان الأصليين.

هكذا كانت آراء ومواقف الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الذين تمسحوا بالدين والعناية الإلهية لتبرير أفعالهم الشريرة والدموية, تمهيداً لمن سيأتي بعدهم، لتكون هذه الأيديولوجية هي من تحكم سياسات وممارسات الولايات المتحدة عبر التاريخ.

أما "ثيودور روزفلت" فقال: (الأنجلو ساكسون هو ابن كل مناخ, إنه رسول السماء إلى كل بقعة من بقاع الأرض), بما أنهم يتمثلون النموذج التوراتي، فإن الأنجلو ساكسون أي الأمريكي الأبيض هو رسول الحروب في كل بقعة من بقاع الأرض, فــ "روزفلت" يمثل حقبة مهمة في التاريخ الأمريكي, فبعد أن أنهت الولايات المتحدة إبادتها للسكان الأصليين وسيطرت على أراضيهم الشاسعة أخذت تتطلع لخارج حدودها في بدايات القرن العشرين, وهي الحقبة التي افتتحها الرئيس "ثيودور روزفلت" كانت بمثابة بدايات المرحلة الإمبريالية التي خرجت فيها الولايات المتحدة خارج حدودها, وأطلقت عنانها لنهب خيرات الشعوب.

ويقول "روزفلت" أيضاُ مدشناً هذا العهد الجديد: (إن انتشار الأنجلو ساكسون في الأرض هو توسيع لمملكة الله, وإذا اقتضى الأمر فليكن على جثث الأعراق الضعيفة), إن هذا النص الذي تفوح منه رائحة الفكر النازي يفتتح الحقبة الإمبريالية للولايات المتحدة بوصفها مملكة الله؛ لأن الأنجلو ساكسون هم شعب الله المختار تصبح كافة الشعوب الأُخرى مجرد كنعانيين وأعراق متخلفة وبدائية ويحق له إبادتها, لأنهم يشكلون حجر عثرة أمام توسع وجشع مملكة العم "سام" التي تدعي نسبها للسماء, وأن هذا الإله الذي تعتنقه وتؤمن به هو رب النموذج التوراتي المتعصب لشعبه, أَلم يَقُل الرئيس "جيمي كارتر" عام 1979 من على منصة الكنيست (إننا نتقاسم وإياكم الإرث المشترك في التوراة), فما هو هذا الإرث المشترك ؟! إنه الشعب المختار وثقافة الإبادات التوراتية والنسب إلى رب النموذج التوراتي.

أما الرئيس "وودرو ويلسون" 97 الذي جاء بعد "ثيودور روزفلت" وفي ظل التوسع الأمريكي الخارجي فقد زعم أن الله تحدث معه في ردهات البيت الأبيض, وأمره باحتلال جزر الفلبين, وهو ما يذكرنا بمعتقدات الرئيس "جورج بوش" الابن الذي كان يزعم أنه بسياساته كانت تطبق قرارات إلهية، تأتيه على شكل وحي بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر، كانت تحثه على احتلال أفغانستان والعراق وشن حرب على كل بقعة في العالم باسم الحرب على الإرهاب.

وإذا تأملنا تاريخ الولايات المتحدة وتصريحات رؤسائها سنجد أنها كلها تنطلق من أساس هذه الأيديولوجية التي تتمسح بالدين لشرعنة حروبها وإباداتها للشعوب وامتصاص ثرواتها, متمثلين النموذج التوراتي اليهودي, فهذا "باراك أوباما" في لقاءٍ صحفي عام 2008 قبل دخوله البيت الأبيض, تحدث عن عمق الفكرة الصهيونية والأخلاق اليهودية في تربيته وثقافته ومشاعره, وعن التزامهم بهذه الفكرة التزاماً تام.

وإذا تفحصنا سياسات كل رئيس من رؤساء الولايات المتحدة سنجدها متطابقة ومنطلقة من هذا الأساس الأيديولوجي, فالآباء المؤسسين رسموا هوية هذه الدولة, وشقوا طريق الإبادات والحروب لهيمنتها على العالم, والرئيس الحالي "دونالد ترامب" يمثل حلقة أُخرى في ذات السلسلة, فخلال عام ونيف من حكمه فاجئ العالم بعدد من القرارات الغريبة والغير مألوفة التي تنطلق من أساس تصورات الولايات المتحدة لذاتها, بوصفها شعباً مختاراً يسير في عين الرعاية الإلهية.

ومع أن "ترامب" لا ينتمي لتيار المحافظين ولا يستخدم العبارات الدينية والديباجة التوراتية المعهودة لدى الرؤساء السابقين, إلا أن قراراته تنطوي على نتائج خطيرة, فالرئيس الحالي يتصرف كإله وليس بحاجة إلى وحي يهبط عليه, أو إله يحدثه في ردهات البيت الأبيض بعد أن بات هو ذاته الإله وتصريحاته وأقواله يتعين التعامل معها كوحي يصدر عنه.

وما أكثرها هي البومات التي باتت تطير من الرب الجالس على عرش البيت الأبيض, وطوال تاريخ الولايات المتحدة طارت أعداد هائلة من البومات الشريرة من دهاليز البيت الأبيض على شكل سياسات وقرارات شريرة من إبادات وحروب وانقلابات ومؤامرات تركت العالم ينوء تحت وطئتها لعقود طويلة, وإدارة "ترامب" هي حلقة أُخرى في سلسلة النموذج الأمريكي الاستعلائي المعادي للشعوب, والذي يضع العرق الأنجلو ساكسوني في قمة الهرم الإنساني, فكم من بومةٍ طارت من البيت الأبيض خلال عام ونيف من تربع "ترامب" على عرشه؟!

فمن فكرة بناء جدار على الحدود مع المكسيك وإجبار المكسيك على دفع تكاليف بنائه, ومن التهديد بطرد ملايين اللاجئين من الأراضي الأمريكية, إلى التهديد بتدمير كوريا الشمالية, إلى التهديد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران والتلويح بشن حرب جديدة, إلى الانسحاب من اتفاقية المناخ والبيئة, إلى خطة صفقة القرن, إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل, إلى عشرات القرارات الداخلية والخارجية والتصريحات التي تنطوي على عقلية مريضة, ومؤخراً طارت بومة جديدة في الغسق, وهي إعلان الحرب التجارية على روسيا والصين, وكلها قرارات لا تبشر العالم بخير وإنما تفتح عهد جديد من الحروب وربما تبشر بالتدمير الشامل للبشرية.

فبومة البيت الأبيض باتت تطير في كل وقت, في الأصباح وفي الأماسي، ووقت الفجر، وفي الظهيرة وعند الغسق, بومات على شكل قنابل نووية وصواريخ "توماهوك كروز" والقنابل الذكية وطائرات "الشبح" التدميرية, بومات على شكل حروب وانقلابات ومؤامرات وسياسات اقتصادية وتجارية كارثية, لقد تحولت البومة من رمز للحكمة والعلم والفلسفة في أثينا القديمة إلى رمزٍ للبلطة في عهد "واشنطن" و"آدمز" و"جفرسون", وتطورت إلى القنبلة النووية في عهد "ترومان" إلى الأسلحة الذكية بأنواعها في عهد "ترامب".

إن بومة أثينا القديمة كانت تطير على شكل فلسفات وأفكار تنويرية, أما بومة البيت الأبيض فلا تطير إلا على شكل كوارث تزرعها في كل مكان, وإذا كان ثمة اختلاف بين الثقافتين الغربية والشرقية حول البومة بوصفها رمزاً للحكمة في الأولى وللشؤم في الثانية, فلا شك أن ثمة اتفاق في العالم بأن الغراب هو رمزٌ للشؤم والخراب, ويتطير البشر من نعيقه, لننتظر ونرى ونسمع المزيد من نعيق الغراب المتربع على عرش البيت الأبيض, وما يحمل من بشارات كارثية للعالم أجمع, مع الاعتذار الشديد للبومة والغراب.­

 

بقلم الأسير كميل أبو حنيش