جملة وفكرة تنتشر انتشار النار في الهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لست أدري من أطلقها بداية، ولكن كثيرًا من الناس يرددونها بطريقة صارت منفرة ومزعجة، ويحسب كل من يكتبها على حسابه في فيسبوك أو تويتر أو يرسلها عبر واتساب وغيرها في هذا الفضاء الإلكتروني بأنه قد جاء بما لم تأت به الأوائل، وأنه قد ظفر بأصل مشكلات الأمة، ووضع يده على موضع الجرح، وفاز بحظ وافر من الحكمة والعلم النافع، وإن كان اللوم أو الامتعاض ممن أطلق لها العنان بداية هو الأصل، فإن تكرارها ونقلها ونشرها في زمن النسخ واللصق، ممن تطوع لهذا لهو أمر أكثر إثارة للانزعاج والاستياء.
الفكرة تقول: في بلدي/ مدينتي مستشفى واحد لعلاجك إذا مرضت، وعشرات المساجد للصلاة عليك حين تموت! هذه الفكرة – إذا جاز أن نقول إنها فكرة – منتشرة بحيث إنني شخصيًا منذ مدة لا تقل عن العام يوميًا أراها مرة على الأقل، مع بعض الإضافات أو التحوير في الكلمات بما لا يغير من المضمون والمغزى مثل القول (مستشفى واحد متهالك مهترئ) أو (مساجد فخمة أو فاخرة) أو غير ذلك.
الفكرة – بافتراض حسن النية – هي نوع من الاحتجاج على ضعف وتراجع الخدمات عمومًا والصحية منها خصوصًا، ولكنها لجأت إلى مقارنة غير منصفة إطلاقًا، وأوحت باحتجاج مواز على وجود بيوت الله، ولو من حيث عددها، وتقول ضمنًا إن الإنفاق على عمارة المساجد هو على حساب إنشاء المشافي والمرافق الصحية، وتهافت الفكرة، وسخف الطرح يحتاج إلى تسليط الضوء على عدة زوايا للنظر، لإثبات أن المقارنة غير عادلة وباطلة، وكان يمكن صياغة عبارة أخرى لا تستحضر بيوت الله، للاحتجاج على تراجع/ ضعف أو تردي الخدمات العلاجية:
1) الحديث ظاهرًا يبدو عن صلاة الجنازة على الميت، وأن الاهتمام بالجسد الذي خرجت منه الروح أكثر من الاهتمام بالجسد الذي حلّ به السقم والألم؛ وهذا لا يستقيم فصلاة الجنازة فرض على الكفاية (إذا قام به بعض المسلمين يجزئ عن الباقين) ويمكن تأدية صلاة الجنازة في أي مكان وليس في المسجد فقط، ولعلنا جميعًا رأينا أن بعض الموتى تمت الصلاة عليهم في ساحة أو مقبرة مثلًا؛ فالمساجد لم تبنَ لتأدية صلاة الجنازة أساسًا، بل لأداء فرض العين وهي الصلوات الخمس، إضافة إلى خطبة وصلاة الجمعة، وأمور أخرى كتدريس العلوم الشرعية، وتدارس القرآن الكريم، ويمكن أن تقام في المساجد بعض الأنشطة الأخرى كاجتماع الناس لتباحث في أمر عام أو ما شابه، بينما ظاهر الفكرة المتهافتة بأن المساجد مبنية للصلاة على الموتى فقط!
2) طبعًا بناء المساجد وتباعدها عن بعضها البعض له ضوابط شرعية تكلم بها الفقهاء في القرون الخوالي حين كان أطباء العرب والمسلمين يتفوقون تفوقًا كبيرًا على نظرائهم في أوروبا، وهي الفترة التي توصف بأنها عصور الظلام عندهم، حيث كان بعضهم يتداوى عند الأطباء المسلمين، وكان الطب عند الأوروبيين عبارة عن خزعبلات وخرافات، مثل ما ذكره الأمير أسامة بن منقذ الشيزري أن طبيبًا عربيًا قد عالج ساق فارس صليبي أصابها دمل فبرأت فجاء الطبيب الصليبي محتجًا على نظيره العربي زاعمًا أنه أعلم بالطب منه، وخيرّ الفارس الصليبي بين العيش برجل واحدة أو الموت برجلين! فأخذ فأسًا وضرب بها ساق الفارس فمات من فوره.
نعم لقد عاش هذا الطبيب العربي في زمن كانت هناك المساجد التي تبنى وتقام فيها حلقات العلم والذكر وحفظ المتون والإجازة وغيرها، ولا تناقض بين تقدم الطب وعمارة المساجد، وقد قال الفقهاء إنه لا يجوز بناء مسجد قريب من آخر إلا لحاجة مثل عدم الاتساع، وإلا هدم الثاني كما قال بذلك ابن تيمية؛ فبناء المساجد مرهون ومرتبط بحاجة الناس وفق كل منطقة أو حي سكني، وليست مرتبطة عضويًا بعدد المشافي والمراكز الطبية بتاتًا.
3) في النقطة السابقة تطرقت إلى ما كان عليه حال الطب عند الأوروبيين مقارنة مع حالته المزدهرة عندنا، ولكن انقلبت الأحوال وصار القوم متقدمين في الطب والعلوم؛ ولكن لو أخذنا (إسرائيل) مثلًا وهي متقدمة كثيرًا في المجال الطبي والخدمات والرعاية الصحية؛ فهل عدد الكنس اليهودية فيها أقل من عدد المشافي؟ وهل المخططون والقائمون على إنشاء المباني والمرافق الصحية ورعايتها يضعون معيارًا يكون فيه عدد الكنس أقل أو أكثر أو يساوي عدد المشافي؟ أليس من يطرح الفكرة يستدعي هذه المقارنة غير السوية؟!
4) وإن ما يمكن تسميتها مجازًا بالكلفة التشغيلية للمسجد أقل بكثير من نظيرتها للمشفى، وبالتالي التفكير بأن عدم بناء المساجد يعني بالضرورة زيادة عدد المشافي وازدهار الخدمات الطبية تفكير بعيد عن المنطق؛ فراتب طبيب في مشفى هو راتب إمام وخطيب المسجد مضافًا له راتب المؤذن والخادم مضروبًا باثنين أو ربما ثلاثة، وكلفة غرفة علاج في المشفى في شهر ربما ضعفا كلفة نفقات مسجد واسع المساحة في سنة كاملة بلا مبالغة.
5) الأساس والأصل في مجتمع مسلم أن المسجد يصلي فيه الطبيب والمهندس والعامل والحرفي والطالب والعاطل عن العمل؛ بينما يدخل المشفى لتلقي العلاج من به سقم يستدعي مكوثه في المشفى، ومدة المكوث في المشفى لإجراء فحوصات وتلقي علاج وإجراء عملية أطول زمنيًا من وقت المكوث في المسجد لأداء الصلاة، والأصل الأهم أن من يحتاجون العلاج في المشفى من حيث العدد أقل بكثير بل لا مقارنة بينهم وبين من يرتادون المساجد، وبالتالي يبدو لي من يقارن هذه المقارنة العوجاء وكأنه يقول: لماذا عدد شعرات رأسي أكثر من عدد أطرافي؟ أو لماذا لي قلب واحد ويدان اثنتان؟!
قد يحتج أحدهم بأن هذا خلق الله، والمباني والمنشآت الإنسان مخير فيها؛ صحيح ولكن الله أعطى العقل للإنسان للتمييز وما أنشأ الإنسان وبنى شيئًا وطوره ومده بالمرافق والأثاث والرياش واهتم به إلا لحاجة إليه وعلى كل دعونا نتخيل أن الصورة مقلوبة ومكان كل مسجد مشفى وبالعكس، ألا يعني هذا أننا أمام شعب/ شعوب كلها مريضة وتحتاج إلى عمليات وعلاجات طويلة نسبيًا، أي أن الحياة فعليًا متوقفة؟ ما لكم كيف تفكرون؟
وأخيرًا وليس آخرًا أنا مع تطوير وزيادة الخدمات الطبية بحيث لا نحتاج إلى أن يتداوى أي مريض خارج وطنه ليس من قلة بل لأن في الوطن أطباء ومشافٍ يعتنون به ويعالجونه بمثل ما يعالج المرضى وراء البحار، ولكن الاحتجاج على تراجع أو تدني الخدمات الصحية، لا يكون بالغمز واللمز تجاه بيوت الله، التي أثنى الله – جل وعلا – على من يعمرها وحضّ على ذلك، ناهيك عما تضمنته السنة المطهرة من حض على ذلك، وليعلم من يطرح هذه الفكرة ألا تعارض بين السعي لزيادة المؤسسات الطبية كمًا ونوعًا، ووجود المساجد والعناية بها، وإلا فليراجع إيمانه وليتفحص عقله ومنطقه، وأقولها بلا طلب للمعذرة سائلًا الله الشفاء للمرضى والقبول والأجر المضاعف من المصلين الذين يعمرون مساجد الله.
بقلم/ سري سمور