ضجت مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية بفعاليات الجمعة الثانية من المسيرة الوطنية الكبرى، وعبر العديد من المسؤولين الإسرائيليين عن مخاوفهم إذا أقدم الفلسطينيون المحتجون على تنفيذ تهديداتهم بإشعال آلاف إطارات السيارات على السياج الفاصل بين قطاع غزة والأرض المحتلة عام 48، واعتبر مسؤولون أمنيون أن إشعال هذه الإطارات سيضر بالبيئة، وسيؤدي إلى تلوثٍ كبيرٍ في المنطقة، وسيلحق ضرراً فادحاً بمستوطنات غلاف قطاع غزة، وذهب بعض المحللين إلى أن السحب السوداء ستغطي سماء الجنوب، وستصل سحب الدخان الأسود إلى بلدات بئر السبع والنقب، وقد تؤدي إلى حالات اختناقٍ كثيرةٍ، خاصةً بين كبار السن ومرضى الرئة والقلب، ممن يشكون من ضيقٍ في التنفس أو من اضطراباتٍ في القلب، ولهذا فقد طلبوا من مستوطنيهم إغلاق نوافذ بيوتهم، وعدم التعرض لسحب الدخان.
ثم استنجد الإسرائيليون بمنظمة الصحة العالمية للحيلولة دون قيام الفلسطينيين بتنفيذ تهديداتهم، بعد أن رصدوا آلاف الإطارات المعدة للحرق على طول الحدود الشرقية، وفي جميع نقاط التماس مع جيشهم ومستوطناتهم، وطلبوا من المنظمة الدولية ممارسة الضغط على الفلسطينيين في قطاع غزة، ومخاطبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس ليصدر أوامره إلى مواطنيه بمنع إشعال الإطارات، وتحذيرهم من مغبة الإقدام على هذه الخطوة المضرة بالبيئة بصورةٍ عامةٍ، لأنها قد تعود بالضرر على الفلسطينيين أنفسهم، وناشدوا مصر وأصدقاء الفلسطينيين في العالم لممارسة الضغط عليهم وتقديم النصح لهم.
ومن جانبٍ آخر هدد مسؤولون أمنيون وعسكريون إسرائيليون حركة حماس في قطاع غزة خصوصاً، والمواطنين الفلسطينيين على وجه العموم من مغبة الاشتراك في هذه الجريمة البيئية الكبيرة، ووجهوا لهم تحذيراً شديد اللهجة بأن جنودهم سيردون على المحتجين بكل قوةٍ، وسيتصدون لمحاولاتهم المس بأمن مستوطنيهم وسلامة صحتهم، وأكد وزير حربهم أفيغودور ليبرمان أن تعليمات وضوابط إطلاق النار على المتظاهرين لم تتغير، ولذا فعلى الفلسطينيين أن يكونوا حذرين من ردة فعل الجيش عليهم.
غريبٌ منطق سلطات الاحتلال الإسرائيلي، يريدون منع الفلسطينيين من الشكوى وإظهار الألم، ويطلبون منهم الصمت والسكوت على الوجع، ويضغطون عليهم للامتناع عن الاحتجاج والتوقف عن التعبير عن الغضب، في الوقت الذي يحصدون فيه أرواح عشرات الشبان الفلسطينيين، ويصيبون بنيران بنادقهم الرشاشة مئات الشبان والشابات، ثم يريدون من الفلسطينيين أن يسكتوا على الظلم، وأن يرضوا بالضيم، وأن يسلموا أقدراهم للجزار يذبحهم، وللطاغي يبطش بهم، ولجنود جيشهم الذباح أن يحصد أرواحهم ويمزق أجسادهم، وكأنهم لا يرتكبون جريمةً تستحق الاحتجاج، ولا يقترفون فعلاً يستوجب الغضب.
أليست احتجاجات الفلسطينيين سلمية، بل حضارية وإنسانية، وتتسم بالوعي والإدراك، والفهم والتعقل، وليس فيها شيءٌ من ضروب الجنون، ولا مشاهد عنف ولا محاولات اشتباكٍ أو عمليات استفزازٍ، بل إن تعليمات قادة المسيرة واضحة وصريحة، ومعلنة ومكشوفة، فهم لا يريدون الاحتكاك بجيش الاحتلال، ويمنعون المحتجين من الاقتراب من السياج، ويصرون عليهم عدم القيام بأي أفعالٍ قد يفهم منها أنها محاولة اقتحام، أو فيها شبهة زرع عبواتٍ أو إلقاء حجارة، فقط لنزع الذرائع من الاحتلال، ونفي الاشتباه ومنع اللبس.
ألا يلاحظ الإسرائيليون ومعهم المجتمع الدولي أن أحداً من المحتجين لا يحمل سكيناً أو بندقية، وأنهم لا يحملون عصا ولا حجراً، ولا يزرعون عبوةً ولا يلقون قنبلة، وكل الوسائل التي يعتمدونها إنما هي سلمية وغير عنفية، وقوانين العالم كلها تجيزها وتقبل بها، ولا تصفها بأنها مخالفة للقوانين والأعراف، بل على العكس من ذلك فإنها تنسجم مع موروثات الشعوب ووسائل الأمم، وقد اعتادت عليها الشعوب الثائرة، وعرفتها الأنظمة الكولونالية الاستعمارية.
إشعال إطارات السيارات ما هو إلا وسيلة للتعبير عن الاحتجاج، وأحد أشكال إظهار الغضب، علَ العالم ينتبه إلى معاناة الفلسطينيين، ويتعرف على مأساتهم، فلا ينزعنها العدو من بين أيدينا، ولا يحاول إظهار مظلمته أمام دول العالم، وكأن مستوطنيه سيختنقون، وسكان بلداته سيموتون، جراء دخانٍ أسودٍ قد لا يصلهم، ومخلفاتٍ إطاراتٍ قد لا تضرهم، بينما يجيزون لأنفسهم إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، وقنابل الغاز الخانق، والتي تحمل ذرات الفلفل الحار وغيرها، وهو يعلم أن قنابله تخنق الرجال قبل الأطفال، وتتسبب في مقتل الأصحاء قبل المرضى، ويتعمد جنوده إطلاقها على الفلسطينيين في الأماكن الضيقة والمغلقة، وباتجاه الرياح التي تحمل الدخان إليهم، ثم يرفعون أصواتهم إلى المجتمع الدولي بالشكوى من إطارات شعبٍ مظلوم، وسحاب دخانٍ قد يرتد عليهم وإن كان يحمل رسائلهم وينقل معاناتهم.
وإذا اشتكى رياض منصور سفير فلسطين في الأمم المتحدة من ممارسات جيش الاحتلال ضد فلسطينيي قطاع غزة، يصب عليه مندوبهم جام غضبه، ويتهمه بالتضليل والكذب، وبتشويه الحقائق وتزوير الوقائع، وأنه يتعمد تشويه حكومة كيانه وتحريض المجتمع الدولي عليها، رغم أن حكومته لا تعاقب قطاع غزة، بل تسعى بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي لتخفيف الأعباء ورفع الحصار جزئياً عنه، والمساهمة في حل بعض مشاكله، ولكن رئيس سلطته هو الذي يعاقب القطاع وسكانه.
نحن شعبٌ متحضر، وننتمي إلى أمةٍ عظيمةٍ، ثقافتنا عالية ووعينا كبير، وفهمنا ناضج وعقولنا مستنيرة، نعرف ما يضر وما ينفع، وندرك ما يفسد وما يفيد، ولسنا بحاجةٍ إلى نصح عدو ولا إلى توجيه صديقٍ، ولا تعنينا تهديدات أركان حرب جيشهم ولا تحذيرات قادة كيانهم، فغاية شعبنا الحرية والكرامة، ورفع الظلم ووقف العدوان، وإزالة الحصار والعودة إلى الديار، وهذا حقنا العادل، وغايتنا المرجوة، وأهدافنا المشروعة، فلا يَصًدَّنا عنها أحد، ولا يردعنا عدو، ولا يستخف بعقلنا مغرورٌ، ولا يستقوي علينا ظالمٌ، ولا يستقل قدراتنا جاهلٌ، ولا يحرض علينا أحمق.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يتبع ...
بيروت في 5/4/2018
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi