مسيرة العودة ... الهدف الناظم والمخاطر

بقلم: هاني المصري

ما زالت مسيرة العودة مستمرة ومرشحة للاستمرار، مع أنّ هناك مخاطر تتعاظم تهددها، ويمكن التغلب عليها، ناجمة من ضغوط عربية ودولية تهدف إلى وقفها، خشية من أن تقود الأمور إلى مواجهة عسكرية جراء تداعيات المجزرة التي ترتكبها إسرائيل وتهدد بتوسيعها، كما يظهر بتهديدات قادتها بضرب العمق الغزي لإنهاء مسيرة العودة، وما يمكن أن يقود إليه ذلك من عدوان إسرائيلي يجب عمل كل ما يلزم لقطع الطريق عليه، كونه يحرف المسار عن المسيرة، وما حققته من إرسال رسالة قوية.

مسيرة العودة توصل رسالتها

أعادت المسيرة العالم كله إلى أصل الحكاية، ووضعت الحقوق الفلسطينية، وحق العودة تحديدًا، مجددًا في صدارة الأحداث والاهتمامات الدولية. كما تضغط باتجاه التحرك العاجل لرفع الحصار الإجرامي عن قطاع غزة، أو تخفيفه،  الذي وصل إلى حافة الانهيار والانفجار الذي سيكون ضد إسرائيل وليس داخليًا ولا ضد مصر.

كما أكدت المسيرة في الجمعة الثانية سلميتها وجماهيريتها ووحدتها، وهذا عزز الانتصارات التي حققتها، ومع ذلك شهدت المسيرة محاولات لاستخدامها فصائليًا وفئويًا، وهذا الأمر خطير، فهي ستنتصر بقدر الحفاظ على وحدتها رغم الخلافات التي يجب أن تبقى في إطار الوحدة.

استمرت التباينات على الشعارات والأشكال والأهداف التي يمكن أن تعتمدها، فكان هناك خلاف على استخدام "الكوشوك" بحجة أنه مضر بالبيئة ويعطي قوات الاحتلال عذرًا لعمليات قتل وإصابات أكثر. ومع ذلك، مضت الجمعة الماضية بسلام مع أن حرق الكوشوك أثر على حجم المشاركة ونوع المشاركين، إذ كان الشباب هم الأكثر حضورًا، وتراجع حضور كبار السن والنساء والأطفال.

خلاف على المسميات

كان هناك خلاف حول تسمية الجمعة الماضية، هل تحمل اسم "جمعة الكوشوك" أم "جمعة تأبين الشهداء"، مثلما يوجد خلاف حول تسمية الجمعة القادمة، وهل تكون "جمعة العلم الفلسطيني"، أم "جمعة حرق العلم الإسرائيلي"، أم "جمعة المولوتوف" أم "جمعة الصرامي"؟

إن الحسم في هذا الأمر يكون نحو الاسم القادر على التوحيد، فلا يحق لكل مجموعة أن تعمل ما يحلو لها. فهناك مجالات واسعة للتنوع والإبداع والتنافس، وهناك ما لا يمكن قبوله مثل جعل الجمعة القادمة "جمعة المولوتوف"، لأن ذلك يعني تحويل المعركة إلى مواجهة عسكرية باهظة الثمن، وتحرف المسيرة عن أهدافها.

من المهم الحفاظ على التنوع والتعددية والمنافسة، ولكن في إطار الوحدة، وبما لا يضر بسلمية المسيرة التي هي مصدر قوتها، ومن دونها لا يمكن أن تكون جماهيرية أو لا يمكن أن تحقق شيئًا. فحذار حذار من استخدام المولوتوف لأنه وصفة للقضاء على المسيرة من دون أن تحقق أهدافها الكبرى ولا أية أهداف ملموسة.

خلاف على الأهداف

إن الخلاف الأهم يتمثل حول ما الذي يمكن أن تحققه، وما هدفها الناظم؟

هناك من ينفي أي صلة للمسيرة بالعقوبات المفروضة على القطاع وبالحصار المحكم عليه - وهو جريمة حرب وفق القانون الدولي - أو بالمحاولات الرامية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.

وهناك من يبالغ بالربط بينها وبين هذين الأمرين وغيرهما من المسائل.

وهناك من يتصور أن المسيرة مفترض أن تتواصل حتى تتحقق العودة قريبًا أو بعد خمس سنوات.

وهناك من يضع لها أهدافًا لا تبدأ بتجسيد الاستقلال وسيادة الدولة على حدود 67، ولا تنتهي بتحقيق حق العودة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني أينما تواجد.

قبل بدء المسيرة، حُلَّ هذا الخلاف بشكل معقول من خلال الاتفاق على أن الإطار العام للمسيرة هو إبراز حق العودة، ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك مسارات أخرى فرعية تسير بشكل متوازٍ، إذ يمكن ويجب توظيف المسيرة كذلك لرفع الحصار، فلا يعقل أن يقال للمحاصر والجائع والمريض والعاطل عن العمل لا تحرف المسيرة عن مسارها.

كما ليس من الخطأ، بل من الواجب توظيف المسيرة لتعزيز فرص نجاح الجهود لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة التي من دونها أصبح الشعب الفلسطيني أشبه بالتجمعات المنفصلة، حيث تنتفض غزة وحدها، مثلما هبت القدس وحدها، والقرى والمناطق والأراضي المصادرة والمهددة بالاستعمار الاستيطاني تتظاهر أسبوعيًا وحدها، والأسرى أضربوا وحدهم، والشتات متروك لوحده وكذلك شعبنا في أراضي 48. وكل ذلك ناتج عن غياب المشروع الوطني المشترك والمؤسسة الوطنية الجامعة والقيادة الواحدة. فمن دون الوحدة لا يمكن تحقيق حل وطني، يتضمن إنجاز العودة وبقية الحقوق والأهداف الفلسطينية .

إن هذا الجدل العقيم يذكرنا بالجدل القديم الذي كان مطروحًا في زمن النهوض العربي، والذي ساهم عدم حله بشكل صحيح إلى وصول العرب إلى الكارثة التي يعيشونها الآن. وهو الجدل الذي حُسِمَ - بكل أسف – لصالح الفصل بين القضايا الوطنية والتحررية وبين حقوق الإنسان وحرياته وعيشه الكريم بحرية وكرامة وديمقراطية، بحجة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وهذا ما ساعد على سيطرة قادة وأنظمة مستبدة ديكتاتورية فاسدة بمسميات تقدمية رغم إنجازتها التي لم تستطع المحافظة عليها، فلا استطاعت استكمال إنجاز التحرر فعلًا، وأضاعت الديمقراطية وحقوق الإنسان العربي، أو أنظمة ظلت رجعية وتابعة، ومستبدة وفاسدة.

مخاطر تحدق بقضيتنا الوطنية

علينا أن نتذكر أن مسيرة العودة تندلع في ظل أن القضية الفلسطينية تمر بوضع صعب جدًا، وهناك مخاطر متعاظمة تهددها بالتصفية، وأن صفقة ترامب لم تدفن قبل أن تولد كما نسمع من العديد من القيادات التي تضخم من أهمية الموقف الفلسطيني ضدها وتقلل من مخاطرها، فهي جاري تطبيقها من دون طرحها رسميًا، مع وجود إمكانية كبيرة لدفنها إذا أحسنا التصرف من خلال وضع خطة عملية متكاملة لا تكتفي برفضها لفظيًا.

من دون توفير متطلبات الانتصار ستنتهي الوقفة الشجاعة ضد صفقة ترامب ومسيرة العودة الرائعة المبدعة إلى حل سيئ، أو تفاقم الوضع القائم السيئ، مثلما حصل بعد الانتفاضتين الأولى والثانية.

على هذا الأساس، علينا أن نتصرف بأننا لسنا في مرحلة قطف الثمار وتحقيق الانتصارات الكبرى وتجسيد الدولة وحق العودة، بل في مرحلة الدفاع عن النفس، وهذا يعني أن الأولوية والإستراتيجية المعتمدة ينبغي أن تركز على الحفاظ على القضية والشعب والأرض.

وفي مثل هذه المرحلة يكون الإنجاز الأكبر هو الحفاظ على القضية حية وإحباط مخططات تصفيتها، والسعي الدائم لتوفير متطلبات بقاء الشعب متمسكًا بحقوقه وهويته وإصراره على الكفاح من أجلها، وعلى ما تبقى من إنجازاته، والحفاظ على تواجده على أرض وطنه في مواجهة مخططات ودعوات التهجير، والوقوف في وجه الاستعمار الاستيطاني العنصري الهادف إلى مصادرة وابتلاع واستيطان المزيد من الأرض تمهيدًا لفرض الحل الإسرائيلي.

فإسرائيل تتصور في ظل الضعف والانقسام والتوهان الفلسطيني، وفي ضوء التطورات العربية والإقليمية والدولية، خصوصًا بعد تولي دونالد ترامب سدة الرئاسة الأميركية، أنها يمكن أن تنتقل من إدارة الصراع إلى السعي الجاد والمكثف لفرض الحل الإسرائيلي، كما يظهر من خلال رفض قيام دولة فلسطينية، وطرح بدائل متنوعة عنها، واستكمال تهويد القدس وأسرلتها، والعمل على تصفية قضية اللاجئين، والتمهيد لضم الكتل الاستيطانية ومجمل مناطق (ج) التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة، فضلًا عن التشديد على ضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، أي الاعتراف بالرواية الصهيونية ونفي الرواية الفلسطينية للصراع.

إنّ إدراك الوضع الذي نمر فيه على حقيقته نصف العلاج، أما إسقاط التمنيات والينبغيات على الواقع من خلال القول إن إسرائيل في وضع دفاعي وعلى وشك الانهيار، مع أنها فعلًا لديها نقاط ضعف وتناقضات عديدة، وتواجه تحديات كثيرة؛ فلا يلغي أنها وحلفاءها لا يزالون يتحكمون بميزان قوى يميل لصالحها، ولكنه آخذ بالتحرك في اتجاه آخر، فلا يجب أن نقفز عن المراحل حتى لا نتعرض لهزيمة جديدة، فقد دفعنا ثمن حرق المراحل ومحاولات استثمار النضالات والانتفاضات قبل الأوان غاليًا جدًا، ومفترض أن نستفيد من التجربة ولا نكرر الأخطاء.

بقلم/ هاني المصري