قدم وزير خارجية هولندا "زايلستر" استقالته أمام البرلمان بعدما اعترف بكذبة عمرها اثني عشر عاماً، حيث ادعى بأنه استمع شخصياً للرئيس الروسي بوتين وهو يتحدث عن روسيا العظمى خلال لقاء جمعه به في منتجعه عام 2006، الحقيقة أن الوزير لم يكن في ضيافة الرئيس بل استمع لما قاله الرئيس من صديقه مدير شركة شل الذي حل ضيفاً حينها على الرئيس في منتجعه، لم تكن كذبة الوزير بذلك القدر الذي يمس الحقيقة ذاتها، ولم يحجب بها معلومة عن شعبه وإن كانت لا تقع ضمن اهتماماته، قالوا لنا أن السياسة هي فن الكذب، والحقيقة أن المجتمعات المتحضرة تثبت لنا بالممارسة عدم صحة ذلك، وأن السياسة المرتبطة بالكذب هي فقط في المجتمعات التي لا تملك من العمل المؤسساتي شيئاً ويسيطر عليها حكم الفرد، ولعل هذا ما مكن وزير الدعاية النازي "جوزيف جوبلز" إطلاق مقولته الشهيرة "اكذب حتى يصدقك الناس ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك".
المصيبة لدينا أن الحكومة تكذب علينا وتواصل كذبها في محاولة منها لأن نصدق ما تقول، كنا نتمنى أن يكون كذب الحكومة حول ما يتعلق بعدم صرف رواتب الموظفين في قطاع غزة يقع ضمن منظومة كذبة أبريل سيما وأنها جاءت أولاً مرافقة لموعدها وثانياً لأن المبرر الذي ساقته وزارة المالية لا يحمل من الجدية ما يدفعنا لتصديقها، لكن من الواضح أن الحكومة تكذب ولا تعرف كيف تجمل كذبها، وزارة المالية عللت ذلك كما جرت العادة بكل القرارات المشابهة التي تتعلق بقطاع غزة بأسباب فنية، قد نصدق الكذبة من كثرة تكرارها لكن الشيئ الذي لا يمكن لنا هضمه فيها أن الأسباب الفنية تصيب قطاع غزة دون سواه، يبدو أن حاسوب وزارة المالية أصابه فيروس الانقسام فبات هو الآخر يتحسس من كلمة غزة، والمثير للدهشة أنه يتوقف عن العمل كلما تعلق الأمر بمصرفات لها علاقة بغزة أما الإيرادات منها يتقبلها بصدر رحب.
لماذا تكذب الحكومة؟، وما الذي يدفعها لحجب الحقيقة عن شعبها سيما في الأمور التي تمس بشكل كبير حياة المواطن؟، ولماذا يسقط من بيان الحكومة الذي يعقب اجتماعها الأسبوعي كل القرارات المرتبطة بالموظفين؟، وهل تتخذ الحكومة قراراتها في اجتماعها الأسبوعي أم أن القرارات تهبط عليها والوزراء هم من فرقة "شاهد ما شافش حاجة"؟، البيان الأسبوعي للحكومة والذي من المفترض أن يتضمن كل قراراتها يخرج بشكل يثير السخرية، فهو أشبه ما يكون إلى بيان لحزب يبحث له عن موطيء قدم في الحياة السياسية بالاستناد على عبارات الشجب والادانة والاستنكار تارة والشكر والثمين والترحيب تارة أخرى، كأن الحكومة تحولت إلى معلق على الأحداث ونسيت أن واجبها أن تكون الصانع لها.
بيان الحكومة عقب اجتماعها الأخير في جلستها رقم "199" بتاريخ 10/4/2018 لم يخرج عن النموذج المعتمد الذي يبدأ بالادانة والاستنكار قبل أن ينتقل للترحيب والتهنئة، فيما ذيل البيان ذهب إلى إحالة بعض القوانين للدراسة والتصديق على البعض الآخر وكأن الحكومة أنجزت مهامها التنفيذية على خير ما يرام ولم يعد أمامها سوى أن تقوم بواجبات السلطة التشريعية المغيبة عن قصد، هل يعقل أن ينفض اجتماع مجلس الوزراء الأخير دون مناقشة موضوع عدم صرف رواتب موظفي قطاع غزة؟، ولماذا لم يطالب الوزراء على الأقل ممن هم من قطاع غزة إدراج الموضوع على جدول الأعمال؟، وهل تعي الحكومة حجم الأزمة الناجمة عن تأخر صرف المرتبات وما يمكن أن تسفر عنه وبالتحديد في ظل اللوحة المشرقة التي يجسدها أبناء القطاع بمقاومتهم الشعبية السلمية التي نادى الجميع بها؟، وإن أرادت الحكومة أن تواصل الكذب فيما يتعلق برواتب الموظفين وإحالة الآلالف منهم إلى التقاعد المبكر فعليها قبل ذلك أن تعي أن الكذب "الغير مقبول جملة وتفصيلاً" يتطلب قدراً من الفن كي يتجرعه المواطن المغلوب على أمره دون أن يسبب له انتكاسة في مفهومه لجغرافية الوطن.
د. أسامه الفرا