قلق المبادرات وصفقة القرن

بقلم: علي بدوان

يناقش الكاتب الفلسطيني، عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية (القيادة العامة) رامز مصطفى جبارين، جملة التطورات السياسية التي ضَرَبَت المنطقة منذ العام 2014 بعد العدوان "الإسرائيلي" على قطاع غزة في العام المذكور، وصولاً للحظة الراهنة، رابطاً بينها وبين مُجمل الإعتمالات التي طَفَت على السطح منذ التحوّلات الدولية العميقة التي حَدَثَت نهاية ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته.

فالمادة السياسية التي يُناقشها ويُقدم لها الكاتب الفلسطيني رامز جبارين، تَعبُر  بنا  للمشهد السياسي الحالي الذي نراه الآن بأُمِ أعيننا، حيث صمود الشعب العربي الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1967 وفي مناطق العام 1948، ومواصلته للعمل الكفاحي بأشكاله المختلفة والمتاحة، وكل ذلك في مواجهة مشروع ما بات يُعرف بــ "صفقة القرن" الأميركية الإسرائيلية، التي تنوي الإدارة الأميركية فرضها على الفلسطينيين وعموم المنطقة العربية.

المناقشات التي يطرحها الكتاب رامز مصطفى جبارين، تم تنهيجها وبنائها بكتابٍ زاخمٍ وغني، عنوانه "ألق الصمود وقلق المبادرات". وقد صدر في بيروت عن دار بيسان للدراسات والنشر. مُعتمداً في تقديمِ رؤيتهِ على أدوات التحليل العلمية التي تستند الى لغة المعطيات، والوقائع الموثّقةِ، والأرقام، والإحصائيات، وصولاً لتحليلها، وتقريرِ مخرجاتها، وبالتالي الوصول للإستنتاجات، ووضعها بيد القارىء العربي، وبيدٍ أصحاب القرار.

الأهمية التي تكتسيها المواد المطروحة بين دفتي الكتاب، أولاً  أنها جائت على لسان ابن المرحلة، وأحد الفاعلين في ميدانٍ فاعلٍ من ميادينها، وبالتحديد في ساحة العمل الوطني الفلسطيني اللبناني، فضلاً عن كونه كاتب ومحلل سياسي. وثانياً أنها جائت خلاصة واقع التجربة السياسية التي عاشها الكاتب، حيث دارت مساريب واسعة من تلك الفصول في ساحات العمل اللبناني السوري الفلسطيني بين دمشق وبيروت. وثالثاً ماتضمنته من تقديمٍ بقلم الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات الموجود في سجون ومعتقلات الإحتلال، وهو الرجل المعروف بعفويته وصدقيته العالية، وجرأته الوطنية في طرح المواقف والرأي دون حساباتٍ خاصة أو فصائلية. ورابعاً مجموعة الوثائق المُلحقة بمادة الكتاب، والتي تساعد على توضيح وإسناد الرأي والتحليل والإستنتاجات، ومنها تقارير للأمم المتحدة، ووكالة الأونروا، إضافة لملحق يتضمن خرائط تفصيلية. وخامساً الشهادات الميدانية المباشرة من الناس والشخصيات الفاعلة على الأرض من قوى سياسية ومجتمعية.

يُقدم الكاتب السياسي رامز مصطفى جبارين، في مستهل المادة السياسية في دراسته إياها، دراسة لواقع قطاع غزة، من الناحية الجغرافية والسكانية، هذا القطاع المحصور والمحاصر منذ صيف العام 2007، والذي يُعتبر المنطقة الأكثر كثافة سكانية على وجه المعمورة، مع قراءة ملموسة لأوضاع القطاع منذ أن تم وضعهِ تحت الإدارة المصرية بُعيد النكبة الكبرى التي ألمّت بالشعب العربي الفلسطيني عام 1948. وصولاً للوقت الراهن، حيث يتصدر القطاع، رأس الحربة في كفاح المقاومة الفلسطينية الموجهةِ ضد الإحتلال "الإسرائيلي".

كما يُقَدِم قراءة في التقديرات والحسابات "الإسرائيلية" لوضع القطاع، حيث تَعتَبر دولة الإحتلال بأن قطاع غزة وبكثافتهِ السكانيةِ العاليةِ، ووجودِ نسبةٍ مرتفعةٍ من سكانهِ من لاجئي العام  1948، وهي نسبة تُقارب نحو 65% من المجموع العام للمواطنين الفلسطينيين في القطاع، تَعتَبِرَهُ شوكة يجب إقتلاعها وإزالتها، وكم تمنى أحد قادة الكيان الصهيوني وهو الجنرال إسحق رابين عام 1994، وبلغةٍ ساديةٍ عاليةٍ "أن يصحو ذات يوم ليرى البحر وقد إبتلع قطاع غزة وبمن عليه".

بالفعل، إنَّ القطاع كان ومازال، الشوكة الواقفة في وجه الإحتلال، لذلك كانت جولات الحرب المُتتاليةِ عليه خلال العقدين الأخيرين، والتي يَرصُدَها الكاتب السياسي الفلسطيني رامز مصطفى جبارين، ويُقدم المُعطيات التي رافقتها (أرقام تتعلق بالخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالفلسطينيين)، وخسائر جيش الإحتلال، والتفاعلات الدولية، ونتائجها، والتي يَضَعها جميعها تحت مِبضَع الدراسةِ والتحليل، كاشفاً مُبتغاها ومسعاها "الإسرائيلي"، الهادف لتدمير الحقوق الوطنية الفلسطينية عبر انهاء وجود المقاومة العسكرية الفدائية وغير العسكرية في القطاع، وتدمير بناها، ليصل الى الإستنتاج القائل بأن كل تلك الحروب والجولات الدموية "الإسرائيليةِ" على القطاع فَشِلت، وقد دفع الفلسطينيون أثمانها الباهظة بصمودهم اليومي، ولم تنكسر روح المقاومة عندهم، حيث نعيش الآن  فصولاً رائعةٍ منها، فصولاً مُتجددة من المقاومة الحية، المدنية السلمية، عبر مسيرات العودة الجارية في القطاع وعلى الخط الفاصل بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة عام 1948.

في الإستخلاصات النهائية، يقودنا الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني رامز مصطفى جبارين، باتجاه القول بأن تلك الحروب العدوانية التي شُنَّت على القطاع، وأخرها حرب 2014، والعدوانية العالية التي يواجه بها جيش الإحتلال المدنيين الفلسطينيين في مسيرات العودة في القطاع حيث إطلاق الرصاص الحي وقنابل الغاز المُدمِع على المدنيين السلميين، كلها تأتي في ظلِ أحداثٍ هي الأخطر على المنطقة العربيةِ برمتها، ففي خضم تلك  الحروب التي شُنت على القطاع، كانت العديد من الدول العربية وشعوبها مُنشغلة، بل ومازالت  منشغلة في أحداث ما يُسمى بـ "الربيع العربي" من وجهةِ نظرهِ،  والتي يُراد منها إعادة رسم خريطة المنطقة جغرافياً، وسياسياً، في ظلٍ صراعٍ مُحتدم، أختيرت عناوينه بدقة متناهية، لإسقاط دول وتحطيم مؤسساتها وتركيبِ أنظمةٍ جديدةٍ، وفق رؤى تتوافق والمشروع المضاد للعرب عموماً وللقضيةِ الفلسطينية بشكلٍ خاص.

مادة الكتاب السياسية، مادة طازجة، وحية، عندما يتم ربطها بالمسارات الجارية الآن في فلسطين وسوريا وعموم المنطقة، حيث التلويح الأميركي المُستمر بالسعي لفرض الحلول على الفلسطينية عبر "صفقة القرن" العتيدة، وهي التي كَثُرَ الحديث عنها، تلك المبادرة أو الصفقة التي تعيش الآن قلقها مع تنامي قدرات الرفض الفلسطينية لها على كل المستويات، بما في ذلك رفض السلطة الوطنية الفلسطينية الكامل لها، حيث أطلق عليها الرئيس محمود عباس مُسمى "صفعة القرن". فلمن سيكون القرار في النهاية، للشعب العربي الفلسطيني صاحب الحق، أم لحق القوة الذي تلوّح به دولة الإحتلال وداعميها للضغط على الفلسطينيين وتركيعهم ...؟

علي بدوان

كاتب فلسطيني

دمشق/اليرموك