تختصر قضية الأسرى في سجون الاحتلال سيرة النضال الفلسطيني بمضامين الكفاح والصمود والضغط على الجراح حتى أبعد مدى، بل يتعداه ذلك إلى امتصاص الأسرى الكم الأكبر من مرارة القهر والظلم واستفراد الاحتلال بالضحية في زمن عربي متخم بالهزائم والانتكاسات.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل باتت الحركة الأسيرة التي تضم الآلاف من الأسرى تمثل بوصلةً ترشد المناضل الفلسطيني حين تتيه به الدروب، وتعيده إلى مسارات الكفاح الأصيل، والحقيقي، بل إن هذه الحركة تقدم برنامجاً نضالياً يلخص الاحتياجات والمحددات للحفاظ على الثوابت الوطنية، وكيفية التمسك بها حتى في أحلك الظروف.
يظهر ذلك بشكل واضح أمام حالة التراجع السياسي الفلسطيني في مسيرة النضال من أجل التحرر، والذي يعتبر جزءاً وانعكاساً لحالة الضعف والانتكاس العربي تجاه القضايا السياسية الجوهرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
فللأسرى كلمتهم الفصل في مرحلة "الارتخاء" النضالي من جانب قطاعات فلسطينية وعربية، حيث يؤكدون في أكثر من مناسبة على أهمية الالتفات إلى تضحيات الشعب الفلسطيني، وما قدمه من شهداء وجرحى ومعاقين ومشردين، يضاف إلى ذلك معاناتهم المستمرة التي تعتبر أيقونة لتجرع مرارة الاحتلال، وتراكم للعذابات والقهر، وضياع العمر خلف قضبان الزنازين، وفقد الأهل والأحبة، وكافة متع الحياة الكريمة.
وهم بذلك يقومون بالتذكير بعدالة القضية الفلسطينية، والصبر أكثر على الملمات، ويقولون لكافة الطيف السياسي الفلسطيني بأن من خاض غمار النضال ضد الاحتلال لا يمكن له أن ينظر إلى الخلف، أو يتأوه من طول الطريق ووعورتها، فمعركة تثبيت الكيان والهوية والحقوق مضنية، والصمود حتى النهاية هو تكليف رباني، وواجب أخلاقي وإنساني، تمليه السليقة والفطرة، وما سواه هو الاندثار إلى الأبد.
يعبر عن هذه الروح الصلبة التي انهزمت أمامها كل حيل ومكائد الاحتلال وجبروته في أكثر من جولة، أناس مؤمنون بالحق وبالعدل، وبأن جوهر الإنسان وما يشكل كينونته يكمن في كرامته، التي لا تنازل عنها، يتحلّون من أجل ذلك بالإرادة القوية التي لم تكسرها معتقلات الاحتلال، ولا حتى خططه الماكرة، أو أسلحته المتطورة.
يحدث ذلك على الرغم من امتلاء جسد الحركة الأسيرة من جراح، سيما مع ما يوثقه "نادي الأسير" مؤخراً، من معطيات تؤكد بأن الاعتقالات التي نفذتها سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيين وصلت إلى مليون حالة اعتقال، بينما تبلغ أعداد المعتقلين الأسرى اليوم "قرابة 6500 فلسطيني، من بينهم 350 طفلا و62 امرأة من بينهن 21 أمًّا، وثماني فتيات قاصرات، إضافة إلى ستة نواب في المجلس التشريعي الفلسطيني".
ويضيف النادي في تقريره الصادر حديثاً بأن "من بين الأسرى 48 أسيرا مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاما بشكل متواصل، منهم 25 مضى على اعتقالهم أكثر من ربع قرن، فيما مضى على اعتقال 12 منهم أكثر من ثلاثين عاما"، ويفيد بأن "في عام 2018 ارتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة إلى 215 شهيدا، منهم 77 أسيرا استشهدوا بعد قرار بتصفيتهم وإعدامهم بعد الاعتقال، و72 استشهدوا نتيجة التعذيب، و61 استشهدوا نتيجة الإهمال الطبي، وسبعة أسرى استشهدوا نتيجة إطلاق النار مباشرة عليهم من قبل جنود وحراس داخل المعتقلات".
ويذوق الأسرى بشكل يومي مرارات ممارسات القهر والابتزاز والتدمير النفسي والجسدي التي يمارسها السجان بحقهم، حيث تستمر "سياسة الاعتقال الإداري دون محاكمة، إضافة للإهمال الطبي المتعمد والذي أدى لمئات الإصابات بالأمراض المزمنة، وممن هم بحاجة لعلاج ومتابعة صحية حثيثة، وتشير الأرقام إلى أن 26 أسيراً يعانون في هذه الأثناء بسبب مرض السرطان".
وبقيت الحركة الأسيرة متماسكة طيلة عقود من الزمن، تقدم الصورة النموذجية التي من المفترض أن تقوم عليها الحالة السياسية الفلسطينية من توحد لكافة الفصائل الفلسطينية تحت راية وهدف التحرير واسترداد الحقوق، لتخوض على أساس ذلك نضالاتها التي تواصلت داخل الزنازين، حيث خاض الأسرى أكثر من 28 إضراباً مفتوحاً عن الطعام في سجون الاحتلال على مدى 50 عاماً، فضلاً عن الإضرابات الفردية التي خاضها عدد من الأسرى.
على الرغم من ضخامة حجم هذه التضحيات، كان الهم الوطني حاضراً في ذهن الأسرى الفلسطينيين، حيث كانوا بمثابة "الترمومتر" الذي يقيس مخاطر تداعيات الانقسام الفلسطيني على مسار القضية، وهو ما دعاهم إلى إصدار (وثيقة الوفاق الوطني الفلسطيني) عام 2006، حقناً للدماء الزكية، وصوناً للركائز التي يقوم عليها البيت الفلسطيني.
وتستمر مطالبات الأسرى إلى كافة الساسة والقيادات والفصائل الفلسطينية بأهمية تجسيد الوحدة الوطنية، باعتبارها سبيلاً لصون هوية النضال الفلسطيني، وحمايتها من تردي المرحلة، واسترداد زمام المبادرة في استعادة حالة الكفاح الوطني الفلسطيني إلى طريقها الصحيح، عبر مختلف أساليب النضال، والتي يعتبر النضال الشعبي اليوم جزءً منها، والمتجسد في هذا الأوان بمسيرات العودة التي تفتح فصلاً جديداً من فصول التضحية والفداء الفلسطيني.
في يوم الأسير الفلسطيني، نضم صوتنا إلى أصوات الداعين لاسترداد الزخم النضالي الفلسطيني بمختلف صيغه وأشكاله، وتفعيل أدواته، وضرورة تعزيز رواية الحق الفلسطيني في كافة أرجاء العالم، والتذكير بعدالة القضية، وإعادتها إلى رأس قائمة الاهتمام العربي والإقليمي والعالمي، وعدم التفريط بالثوابت الوطنية، وذلك من أبسط أشكال الوفاء للتضحيات التاريخية التي قدمها ولا يزال أبناء الشعب الفلسطيني، من شهداء وجرحى ومعاقين وأيتام وأرامل.. وأسرى.
بقلم: الدكتور عصام يوسف
رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة