(تأتي هذه الورقة ضمن إنتاج المشاركين/ات في البرنامج التدريبي "إعداد السياسات العامة والتفكير الإستراتيجي" 2018 الذي ينفذه مركز مسارات).
مقدمة
شكل إعلان رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب الاعتراف بالقدس "عاصمة لدولة إسرائيل" بتاريخ 6/12/2017، نقطة تحوّل في الموقف الأميركي تجاه القضية الفلسطينية. ورفضت القيادة الفلسطينية القرار، وسعت للبحث عن رعاية دولية بديلة للولايات المتحدة لعملية السلام.
تتجه بعض أنظار السياسيين الفلسطينيين إلى دور روسي جديد في عملية التسوية. ويبقى التساؤل الرئيس عن قدرة روسيا الاتحادية وواقعيتها ورغبتها في لعب هذا الدور، خاصة في ظل تشابكات ملفات المنطقة، والدور الروسي فيها، لا سيما في سوريا؟
رابط مباشر للقراءة أو التحميل
روسيا وعملية السلام
دعم الاتحاد السوفيتي السابق منظمة التحرير الفلسطينية في مساعي الحصول على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، وإثر اعتراف المنظمة بتلك القرارات افتُتحت سفارة فلسطين في موسكو العام 1988. وفي العام 1995، بدأ عمل ممثلية روسيا الاتحادية لدى السلطة الوطنية الفلسطينية.
بعد إقامة السلطة، وتنفيذًا للرؤية الروسية بمحاولة لعب دور أكبر في الشرق الأوسط، وسعيها لأن تكون شريكًا وراعيًا لعملية التسوية، عَيَّنت موسكو مبعوثًا خاصًا لعملية السلام في الشرق الأوسط، وأُدرجت عضوًا في اللجنة الرباعية الدولية التي تشكلت العام 2002، التي فقدت صلاحيتها نتيجة الهيمنة الأميركية على عملية التسوية، وعدم التجاوب الإسرائيلي.
تتعاطى روسيا مع الفصائل الفلسطينية، وتسعى لتقريب وجهات النظر لإنهاء الانقسام الفلسطيني، إذ أكد سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، في مؤتمر صحفي مع نظيره السعودي عادل الجبير بجدة، بتاريخ 10/9/2017، أن روسيا مع دول عربية على اتصال وثيق بحركتي فتح وحماس، بغية إقناعهما بالعودة إلى اتفاق المصالحة، مشيرًا إلى اهتمام روسيا بالحفاظ على عمل الرباعية الدولية للسلام.[1]
في ذات السياق، تهتم روسيا بتطورات القضية الفلسطينية ومسار التسوية السياسية، ويتضح ذلك من زيارات الرئيس محمود عباس إلى موسكو باستمرار، خاصة زيارته في العام 2010، التي سعت من خلالها روسيا إلى استئناف المفاوضات بعد توقفها نهاية العام 2008، وأكد - حينها - أندريه نيستيرينكو ،الناطق الرسمي باسم الخارجية الروسية، أن هدف الزيارة استئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية على أساس المبادئ المعترف بها دوليًا، وتقريب وجهات نظر الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.[2]
زار القادة الروس منذ قيام السلطة الوطنية فلسطين ثلاث مرات، بما يظهر قوة العلاقات الروسية-الفلسطينية، حيث زار الرئيس فلاديمير بوتين رام الله في نيسان 2005 وحزيران 2012، في حين زار سلفه ديمتري ميدفيديف أريحا في العام 2011.[3]
تحاول السياسة الخارجية الروسية أن تكون طرفًا نزيهًا إزاء القضية الفلسطينية، حيث تتمتع بعلاقات ثنائية قوية مع كافة أطراف الصراع: الفلسطينيين من جانب، والدول العربية وإسرائيل من جانب آخر.
في المقابل، تتسم العلاقات الإسرائيلية-الروسية بالمتانة والحرص على المصالح المشتركة، ورُسمت على اعتبارات عدة من الصعب تجاهلها، خاصة في ظل حكم بوتين، الذي سعى لتحسين العلاقات مع إسرائيل منذ تبوئه السلطة في آذار 2000. ووطدت الدولتان علاقاتهما في جبهات عدة، سياسيًا وعسكريًا وتكنولوجيًا. والعامل الأهم هو تحسن العلاقات الاقتصادية بشكل لافت، لتتخطى قيمتها 3 مليارات دولار في العام 2014.[4]
إن الاهتمام الروسي بالقضية الفلسطينية يأتي انسجامًا مع رؤيتها الديبلوماسية بضرورة أن تكون لاعبًا مؤثرًا في القضايا الدولية، خاصة قضايا المنطقة العربية. وفي ذات السياق، تسعى القيادة الفلسطينية لعلاقات قوية مع روسيا، لتضمن تأييد حل الدولتين ودعمه في المؤسسات الدولية، بعد تعنت إسرائيل ورفضها تطبيق حل الدولتين، والانحياز الأميركي لها، لذلك سعت الديبلوماسية الفلسطينية لأن يكون لروسيا دور أكبر في عملية التسوية وفقًا لقرارات الشرعية الدولية وعضويتها في اللجنة الرباعية.
الموقف الروسي بعد قرار ترامب
عبرت روسيا عن رفضها لقرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأكدت موقفها الثابت بالاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، ودعم تسوية فلسطينية إسرائيلية تفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وأشارت وزارة الخارجية الروسية إلى أن قرار ترامب من شأنه أن يعقد الأوضاع في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، وأنه قرار أحُادي لم يجر تنسيقه مع أحد، وأن ما يقوم به الشركاء الأميركيون يتعارض مع موقف المجتمع الدولي.[5]
وفي هذا السياق، قال فاسيلي نيبينزيا، مندوب روسيا في مجلس الأمن، خلال جلسة مخصصة لمناقشة قرار ترامب، بتاريخ 8/12/2017، إنّ التسوية العادلة في النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا بد أن تستند إلى القرارات الدولية، بما في ذلك المسألة الحساسة الخاصة بالقدس عبر مفاوضات بين الطرفين مباشرة.
روسيا والرعاية البديلة ... حدود المسموح
ردًا على قرار ترامب بشأن القدس، رفضت القيادة السياسية الفلسطينية، الرعاية الأميركية لعملية السلام بشكل منفرد، وبدأت بالانتقال نحو محاولة إيجاد رعاية دولية تضم أطرافًا عدة، من ضمنها روسيا. وهذا ما بحثه عباس مع بوتين خلال زيارته إلى موسكو يوم 12/2/2018.
صرح عبد الحفيظ نوفل، السفير الفلسطيني في روسيا، لوكالة "وفا"، أن زيارة الرئيس عباس إلى موسكو تأتي "في إطار المساعي الفلسطينية لإيجاد وسيط نزيه في المفاوضات مع إسرائيل، ونأمل بدور روسي أكبر في بناء منظومة وآلية جديدة تتمثل عمليًا برؤية دولية أوسع تكون الولايات المتحدة جزءًا منها وليست رئيسية لها".[6]
ويؤكد أحمد مجدلاني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الذي رافق الرئيس في زيارته إلى موسكو بأن بوتين أكد موافقته على "أن تكون روسيا جزءًا من آلية دولية متعددة الأطراف لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي".[7] أما لافروف فقد أعلن أنّ بلاده ستواصل بذل الجهود من أجل إطلاق مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفقًا لمبادئ الشرعية الدولية.[8]
بعد مسيرات العودة التي انطلقت من قطاع غزة باتجاه حدود الأراضي المحتلة العام 1948، في نهاية آذار 2018، وما رافقها من توتر وخسائر فلسطينية بشرية عالية، وتطورات في المشهد السياسي الفلسطيني؛ عرضت روسيا بتاريخ 31/3/2018 استعدادها لاستضافة قمة فلسطينية-إسرائيلية على أراضيها، مؤكدة ضرورة إجراء مفاوضات مباشرة بين طرفي الصراع حول كافة قضايا الوضع النهائي، بما فيها القدس.[9]
تدرك روسيا أن دورها في الصراع لن يتعدى محاولات تقريب وجهات النظر وطرحها لاستضافة لقاءات وحوارات على أراضيها، دون التدخل بشكل مباشر، وطرح حلول أو مبادرات سياسية لحل الصراع، وهو حدود ما تسمح به علاقاتها التنافسية مع الدول الكبرى في المنطقة العربية.
ثمة عدة عوامل جوهرية تمنع روسيا من لعب دور أكبر في التسوية السياسية، أو أن تحل محل الولايات المتحدة: أولها، العلاقة العضوية التي تربط بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وثانيها، علاقاتها بالدول العربية وتدخلها في الأزمة السورية، وثالثها، علاقاتها السياسية والاقتصادية مع إسرائيل، فضلًا عن رفض إسرائيل أن تلعب روسيا دورًا أكبر في عملية التسوية السياسية.
توازن السياسة الخارجية الروسية ما بين ضمان وجودها في الصراع من جهة، وما بين محاولة إيجاد حلول توافقية بين طرفي الصراع من جهة أخرى، شريطة ألا تتضرر علاقاتها ومصالحها في المنطقة العربية.
لا يمكن لروسيا، التي دخلت الشرق الأوسط بقوة من البوابة السورية، لعب دور أكبر من المسموح به في التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، إذ شكل التدخل الروسي ثورةً في الشؤون العالمية، فللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، تُعمِل دولةٌ ما - بخلاف الولايات المتحدة - القوة العسكرية بعيدًا عن حدودها، دون استشارة واشنطن أو إشراكها في اتخاذ القرار.[10]
تسعى روسيا لتكون لاعبًا رئيسيًا في المنطقة العربية، لذلك تبدي اهتمامًا لكافة القضايا بما يضمن تحقيق مصالحها الإستراتيجية.
موقف الأطراف من الرعاية البديلة
أسست الولايات المتحدة منظومة تفاوضية قائمة على مفاوضات ثنائية برعايتها، في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أساسها الانحياز الكامل لإسرائيل، وتبني روايتها والدفاع عنها، ومنع المساس بها، واحتكار المرجعيات التفاوضية وحصرها بها، رغم إنشاء الرباعية الدولية لإحياء العملية السلمية، التي تضم القوى الدولية الكبرى: روسيا، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة. وبالتالي، لن تسمح لروسيا، أو غيرها، لعب دور أكبر في العملية السلمية.
وأفشلت إسرائيل محاولات روسية عدة للعب دور أكبر في التسوية، ففي العام 2007 رفضت إسرائيل دعوة روسيا لعقد مؤتمر دولي للسلام على أراضيها، بذريعة أن لا هدف منه، ولن يقدم جديدًا من شأنه دفع عملية السلام. وجاء الرد الروسي على لسان لافروف "موقفنا من التسوية في الشرق الأوسط يتسم بالحياد".[11]
في ذات السياق، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للصحفيين بموسكو في حزيران 2016 بأن "ليس هناك بديل عن الولايات المتحدة، وأنا لا أبحث عن بديل لها، لكنَّ سياستي تقضي بالبحث عن شراكات أخرى مع قوى عظمى، مثل: الصين، والهند، وروسيا".[12] وتَهَرَّبَ نتنياهو من دعوة روسية للقاء عباس في موسكو في أيلول 2017.[13]
تسعى إسرائيل لبناء علاقات اقتصادية قوية مع الدول الكبرى، في المقابل تعمل ديبلوماسيتها لرفض قاطع لأي رعاية بديلة عن الولايات المتحدة، حتى لو كانت الرعاية البديلة متعددة الأطراف برئاسة واشنطن.
أعاد نتنياهو التأكيد على رفض أي رعاية بديلة خلال لقائه بمايكل بنس، أثناء زيارته لإسرائيل في شباط 2018، إذ قال: "رسالتي للرئيس أبو مازن أنه لا بديل عن الولايات المتحدة لرعاية عملية السلام، ولن تكون هناك عملية سياسية دون القيادة الأميركية لعملية السلام"، مضيفًا "من يرفض الرعاية الأميركية يرفض عملية السلام برمتها".[14]
علاوة على ذلك، هناك تنسيق على أعلى المستويات بين روسيا وإسرائيل في الأزمة السورية، إذ أكد أليكسي دروبينين، نائب السفير الروسي في إسرائيل، "وجود تنسيق جيد بين روسيا وإسرائيل في سوريا، وأن هناك حوارًا روسيًا إسرائيليًا مستمرًا على مدار الساعة تجاه ما يحدث في سوريا، مؤكدًا أن إسرائيل تعهدت لروسيا بعدم المس بجنودها العاملين في سوريا."[15] وهذا يعني أن روسيا توازن بين مصالحها الإستراتيجية وتدخلاتها السياسية في القضية الفلسطينية وقضايا المنطقة العربية.
يقدم الصحفي صموئيل راماني ثلاثة أسباب للتقارب الروسي الإسرائيلي في سوريا: الأول، رؤية إسرائيل أنه بمقدور روسيا تخفيف التهديد الذي يمثله الرئيس السوري بشار الأسد. والثاني، توافق روسي إسرائيلي لبقاء الأسد للمحافظة على استقرار سوريا، أما الثالث، فتريد إسرائيل التنسيق مع روسيا حول وجودها في سوريا.[16]
ثمة أطراف مهمة لا ترغب بقبول رعاية دولية مشتركة. فخلال زيارة الرئيس عباس إلى بروكسل في كانون الثاني 2018، أبلغه المسؤولون الأوروبيون بأنهم غير راضين عن إدارة الولايات المتحدة لملف العملية السياسية، لكنهم لا يستطيعون أن يكونوا بديلًا لها بسبب قربها من إسرائيل.[17]
وفي هذا السياق، ترى المملكة الأردنية الهاشمية التي لها وصاية على القدس، عدم إمكانية وجود حل أو تسوية في الشرق الأوسط دون دور الولايات المتحدة.[18]
ما سبق يعني أن غالبية الأطراف التي قد تشكل الرعاية البديلة، لم تبد استعداها لرعاية عملية السلام، وتبقى الوساطة التي تتطلب رضا طرفي الصراع هي الخيار الواقعي أمام القوى الدولية، لا سيما روسيا.
خاتمة
على الرغم من الانخراط الروسي العسكري والسياسي في قضايا المنطقة العربية بشكل عام، والقضية السورية بشكل خاص، إلا أن روسيا لم تبدِ استعدادًا لتشكل ضغطًا حقيقيًا في عملية التسوية، كما انخرطت في الملف السوري واستعملت نفوذها وقوتها تماشيًا مع إعادة تشكيل التوجهات الروسية، وفقًا لمقاربة الجغرافيا السياسية، وديبلوماسية الطاقة التي من شأنها تعزيز مصالح روسيا الإقليمية والدولية.
سيبقى الموقف الروسي "مترنحًا" ما بين قرارات الشرعية الدولية ومضامين مصالحه القومية في المنطقة العربية. لذا، ستبقى الوساطة الروسية المعروضة على أطراف الصراع هي الخيار الأمثل.
من الممكن أن تسمح الولايات المتحدة لروسيا بلعب دور أكبر في عملية السلام في حدود المسموح به، إذا ما استمرت قوة الدفع الفلسطينية برفض أي دور منفرد للولايات المتحدة، وفي حال اتفقت المصالح الروسية-الأميركية على ذلك.
لقراءة الورقة من موقع مسارات الإلكتروني اضغط/ي هنــــــــــــا
إعداد
أحمد أبو ضلفة
مشارك في البرنامج التدريبي "إعداد السياسات العامة والتفكير الإستراتيجي