يمكن القول، بغير تحفظ، أن العرب قد خرجوا من الزمن عائدين قرناً كاملاً إلى الخلف، مع فقدان الهمة، بل والرغبة احياناً في التقدم لولوج القرن الحادي والعشرين.. مع فارق مهم: انهم في بدايات القرن العشرين قد استقبلوا القوات الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا اساساً) بوصفها “حلفاء” ما سمي مجازا، “الثورة العربية الكبرى”، في حين انهم الآن يذهبون اليها ـ بملياراتهم ـ طالبين بل راجين منها أن تتولى رعاية شؤونهم الامنية والاقتصادية والاجتماعية لكي يعرفوا الطريق إلى التقدم ودخول العصر في ظل أوضاع عسكرية قوية تمكنهم من فرض سيطرتهم على المحيط… مستظلين الراية الاميركية الخفاقة.
لقد اسقطت رايات الثورة العربية، بل أن اية محاولة للتغيير صارت تدمغ، على الفور، بالإرهاب، بينما يصور استدعاء القوات الاجنبية (اميركية بالأساس، وبريطانية ـ فرنسية بالتبعية) على أنه من اجل حماية الاستقلال والقرار الوطني الحر..
بالمقابل، عاد العرب إلى انقساماتهم السابقة على الاسلام واللاحقة به: العرب العاربة والعرب المستعربة… واضيف إليهم فريق جديد استغنى عن عروبته بطائفيته وخرج منها وعليها ملتحقاً بالغرب، لا سيما في اوساط الاقليات العرقية او الدينية والتي وجدت “حاضنة” اجنبية تأخذها بعيداً عن أهلها وأرضها إلى الغرب بعنوان اسرائيل.
أسُكتت الهتافات المطالبة بالتغيير، بوصفها دعوات هدامة، وتركزت السخرية على الهتاف الذي رددته الجماهير العربية، في مختلف ديارها، ذات يوم: “من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبيك عبد الناصر..”.
انفصل اغنياء النفط والغاز العرب في الجزيرة والخليج بثرواتهم عن اخوتهم الفقراء، وأنشأوا مجلساً مذهباً نسف اساس “جامعة الدول العربية” وجعلها مؤسسة عاجزة لفقراء العرب، (بعد “طرد” سوريا منها باقتراح قطري).
وانتبهت دول النفط والغاز إلى خلو موقع القيادة والمرجعية العربية فتصدت لان تتولاه، متخطية مصر والجزائر وسوريا والعراق، وقد كانت كل دولة منها غارقة في فقرها ومشكلاتها الداخلية او مع محاولات الاستعمار القديم العودة بواجهة عصرية براقة، تموه الشراكة مع إسرائيل.
وتوالت الفواجع: احتلال صدام حسين العراق للكويت في 2 آب (اغسطس) عام 1990، ثم اندفاع القوات الاميركية إلى احتلاله، في ظل تواطؤ عربي معلن ومغلف بالعمل “لتحرير الكويت” ولو بارتهان القرار العربي، ومحاولة طمس حقيقة العجز العربي عن ردع قيادة بلد عربي (صدام حسين) عن احتلال بلد عربي آخر (الكويت)، مما كلف ارتهان الارادة العربية ـ منفردة او مجتمعة ـ للقرار الاجنبي باحتلال دولة عربية كبرة بقرار عربي شكلاً، اميركي (اسرائيلي) ضمنا.
بعد احتلال العراق في (20 اذار 2003) بدأ تاريخ جديد لهذه المنطقة: صار الاميركي شريكا مقررا في أي قرار عربي. ومن نافل القول إن العدو الاسرائيلي كان ضمن الشريك الاميركي، قبل أن يستقل فيصبح طرفاً مقررا في القرار الاميركي.
وكان بديهيا أن تعتبر دول الخليج انها شريك في هذا القرار، لأسباب عملية، وان تفتح ارضها، كما لم يحدث في أي يوم مضى للقواعد الاجنبية، الاميركية بالأساس، ثم بريطانية وفرنسية بعد احتلال العراق.
كذلك كان بديهيا أن تتفجر الارض العربية بالغضب، فكانت انتفاضة تونس (وخلع زين العابدين بن علي في 2011/1/14)، ثم انتفاضة مصر في (2011/1/25) واستقالة الرئيس حسني مبارك، وقفزة الاخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، ثم سقوطهم عبر انتفاضة شعبية عارمة، وعودة الجيش إلى السلطة ممثلاً بالمشير عبد الفتاح السيسي.
أما في سوريا فقد بدأ نوع من التململ الشعبي عبرت عنه مجموعات من الشباب في درعا، فتمت معالجته بعنف غير مقبول، مما حرك قوى الاعتراض الداخلي معززة بدعم خارجي مفتوح، فتفجرت سوريا بحرب اهلية اسهمت في اشعالها بعض الدول العربية بتشجيج اميركي معلن وتأييد اسرائيلي أكيد وقد تمثل بالإغارات المتكررة على المطارات والمواقع العسكرية والسورية.
صار المشرق العربي مفتوحاً امام الغزو الغربي الذي يجد الآن من يدعوه إلى احتلال الارض والارادة، مرة بذريعة مواجهة “الغزو الفارسي”، ومرة بذريعة “مواجهة داعش”، ومرة ثالثة بذريعة الالتفاف على التدخل الروسي واتخاذه من المطارات في طرطوس واللاذقية وحميميم قواعد عسكرية..
في هذه الأثناء تفجرت ليبيا بالثورة، وتم اسقاط معمر القذافي الذي عجز عن تفهم اسباب الغضب الشعبي عبر تفرده بالسلطة لأكثر من اربعين سنة طويلة، فكانت النتيجة أن قُتل بطريقة بشعة اتهم بالإشراف عليها الفرنسيون.. وبعدها زالت الدولة الليبية التي كان القذافي قد فتتتها وأعادها قبائل مصطرعة، فتناهبتها قوى الغزو الاستعماري (اميركا وفرنسا و…) مع مشاركة عربية غير مفهومة وغير مقبولة من بعض دول الخليج التي اغوتها ثروتها بطلب المعالي (دولة الامارات العربية المتحدة والدولة المن غاز قطر..).
*****
ها نحن امام خريطة جديدة لما كان يسمى الوطن العربي، تكاد تشابه خريطته قبل قرن مضى، من خلال توزع قوى التدخل الاجنبي (الاستعماري) على مختلف اقطاره من أقصى الخليج العربي إلى أدنى: المشرق القواعد العسكرية الاجنبية الاميركي اساسا، ومعها قوات بريطانية وفرنسية في بعض انحاء الخليج والعراق، وصولاً إلى سوريا حيث تعسكر قوات اميركية في منطقة دير الزور ـ الرقة، اضافة إلى القوات الروسية عند الشاطئ فإلى لبنان حيث يتحدث العارفون عن قاعدة عسكرية اميركية في حامات على شاطئ كسروان جبيل.
بالكاد يمكن أن تعثر على بلد عربي مستقل فعلاً، فمن لم يرتهن بالقواعد العسكرية، ارتهن باقتصاده عبر القروض و”مساعدات” البنك الدولي وصندوق النقد الدولي او “القروض الميسرة” من بعض عواصم النفوذ: واشنطن وباريس وبرلين ولندن، فضلاً عن موسكو للدول التي تراها صديقة.
على أن الاستعمار ” قد جاء ويجيء، ويبني قواعده العسكرية في البر والبحر ويحتل السماء العربية بطلب من اصحابها العرب.. وبذريعة “حماية استقلالها” من التدخل الاجنبي والضغوط الدولية لارتهان ارادتها.
ويمكن القول، براحة ضمير، أن ليس ثمة دولة عربية مستقلة وارادتها حرة.. فالدول التي ليس فيها قواعد عسكرية اجنبية (وهي قليلة) مرتهنة في اقتصادها واسباب حياتها.
وتشهد أروقة الامم المتحدة ومجلس الامن فيها بغياب العرب عن القرار فضلاً عن اقفال ابواب الجامعة العربية بالثرثرة الفارغة، وهكذا تتبدى فلسطين يتيمة ومتروك مصيرها للريح، برغم بسالة شعبها، ممثلاً بجيله الجديد من شبان وصبايا، بين رموزه المضيئة “عهد التميمي” الذين يرفضون الخروج من الشارع، برغم القمع الوحشي الاسرائيلي والتخلي العربي والتجاهل الدولي في مواجهة التعنت والشراسة الاسرائيلية في القمع.
أما المثل الاكثر فجاجة فهو أن يقترح الرئيس الفرنسي ويلبي نداءه الرئيس الاميركي ترامب والحكومة البريطانية، فتشترك هذه الدول في شن عدوان ثلاثي جديد على سوريا، بذريعة تدمير مواقع تخزين “الكيماوي” الذي يستخدمه النظام ضد معارضيه بحسب مزاعمهم.
ولقد مر هذا العدوان بصمت عربي شبه شامل يستبطن تأييداً له، بينما تعلو الاصوات العربية المتلفعة بالكوفية والعقال استنكاراً “للعدوان الايراني” على اليمن، بينما الطائرات الحربية والمدفعية الثقيلة التي تقصف المدن العريقة في منشأ الحضارة العربية، اليمن، تحمل شعارات “لا اله الا الله، محمد رسول الله”.. او علم الامارات العربية المتحدة العظمى، التي تفاخر بأن فيها قواعد فرنسية اضافة إلى القواعد الاميركية والحضور البريطاني الدائم..
“بلادُ العرب أوطاني من الشــام لبغدان
ومن نجدٍ إلى يمــــنٍ إلى مصر فتطوان”
تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية
طلال سلمان