لن أتوقف أمام ماذا حققت مسيرة العودة، لأن هذا الأمر بات واضحًا جدًا وأُشبِع بحثًا، ويكاد أن يكون مُجمَعًا عليه، فما حققته المسيرة حتى الآن مهم جدًا، فيكفي أنها أعادت الأمور إلى نصابها، وأعادت الصراع إلى حقيقته من خلال وضع حق العودة أصل وأساس الصراع على الأجندة المحلية والعربية والدولية، وهذا يَصْبّ في مواجهة المخططات الأميركية الصهيونية.
ويكفي مسيرة العودة أنها طرحت مسألة الحصار الإسرائيلي الجائر على قطاع غزة، وحركت الجهود الرامية لإلغاء الإجراءات العقابية ضده، لدرجة مشاركة إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا والمجتمع الدولي فيها.
وعلى الرغم من تراجع السلطة خطوة إلى الوراء من خلال الإعلان عن صرف الرواتب، وعدم استكمالها، ما يدل على أنها مصرّة على المضي في سياستها، التي تعتقد من خلالها أنها ستتمكن من إخضاع "حماس" لشروطها، والقبول بتمكين حكومة الرئيس من السيطرة الكاملة على القطاع من الباب إلى المحراب، أو مواجهة ثورة شعبية ضدها، أو حصول انهيار الوضع في غزة وانفجاره، غير مدركة أن شعبنا بات أكثر وأكثر يحمل السلطة مسؤولية ما يعانيه أكثر ما يحمل "حماس".
وبدا ذلك واضحًا بعد الشروع في تنفيذ الإجراءات العقابية، وتواصل بعد موافقة "حماس" المشروطة على تمكين الحكومة. فلا بد من البناء على ذلك وفق معادلة تمكين الحكومة، شرط أن تكون حكومة وحدة أو وفاق وطني تقود أجهزة مهنية بعيدة كليًا عن الحزبية تمثل الفلسطينيين جميعًا، وضمن رزمة شاملة تتخلى فيها "حماس" عن السلطة في غزة ضمن شراكة كاملة في السلطة والمنظمة.
مسيرة العودة ... العوامل والأسباب
إن المفجر الرئيسي لما يجري في قطاع غزة حاليًا، بما في ذلك مسيرة العودة، هو الحصار الظالم والمتفاقم الذي يتعرض له القطاع، وأوصله إلى العيش في الجحيم، وما فاقم من الأمر الإجراءات العقابية من السلطة التي يجب أن تكون للجميع.
كما هناك عوامل أخرى أدت إلى اندلاع مسيرة العودة، أبرزها أهمية حق العودة عند الشعب الفلسطيني، وما يعانيه اللاجئون، لا سيما بعد الحملة الأميركية الإسرائيلية ضد قضية اللاجئين في سياق تمرير صفقة القرن والاعتراف بالقدس اليهودية عاصمة موحدة لإسرائيل والاستعداد لنقل السفارة الأميركية، والشروع بسرعة أكبر من السابق في تصفية الأونروا وتغيير صفة اللاجئ. فكلها عوامل لعبت دورًا مهمًا في تحريك شعبنا لإحياء حق العودة، ولكن العامل الرئيسي هو ما يعانيه القطاع وإلا لماذا لم يتحرك شعبنا في بقية أماكن تواجده بطريقة مشابهة، وخصوصًا اللاجئين؟
ماذا يمكن أن تحقق مسيرة العودة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى حقيقة باتت مسلمة في الذاكرة والتجربة الفلسطينية، وهي أن الإنجازات المتحققة أقل بكثير من حجم التضحيات والمعاناة، وهذا عامل يساهم في تردد الشعب الفلسطيني في المساهمة بسرعة وقوة كما اعتاد سابقًا في النضالات والموجات الانتفاضية التي تشهدها فلسطين في السنوات الأخيرة، فأخذ لا يتحرك بشكل واسع جدًا، إلا إذا التقت العوامل الدينية مع الوطنية مع الحياتية المصلحية، ولعل هبة القدس في العام الماضي دليل واضح على ذلك، وقبلها الحراك حول الضمان الاجتماعي والمعلمين وبلعين ونعلين ... إلخ. كما ساهم اتفاق أوسلو وما أدى إليه من تقسيم وتجزئة للقضية والشعب والأرض إلى هذا الوضع.
مسألة أخرى يجب أن تؤخذ بالحسبان، وهي أن الشهيد الزعيم الراحل ياسر عرفات حرص على ألا ينتهي عهده قبل إقامة الدولة، وكان يحركه أنه لا يريد أن يكرر تجربة سلفه المفتي أمين الحسيني، ويموت قبل أن يحقق هدفه، لذلك سعى لاستثمار سريع للانتفاضة الأولى من خلال موافقته على أوسلو.
أما الرئيس محمود عباس، فاعتمد مقاربة مختلفة، مفادها أننا لا يمكن أن نحصل على الدولة إلا إذا أقنعنا الإسرائيليين وحلفاءهم الأميركيين أننا سنكون عنصرًا يساعد على توفير الأمن والاستقرار والسلام لهم، وكانت النتيجة أنهم حققوا ما يريدون، ولم يعد هناك ما يستدعي اعترافهم بالدولة العتيدة.
في المقابل، هناك قيادات وأفكار لا تريد استثمار النضالات بتحقيق إنجازات سياسية، وكأنّ النضال من أجل النضال، وليس لتحقيق الأهداف، وكأن الانتصار الفلسطيني العظيم القادم لا محالة في نهاية الأمر يمكن أن يتحقق مرة واحدة، وليس خطوة خطوة وعن طريق التراكم، وهذا الممر إجباري بحكم اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل.
ما لا يمكن أن تحققه مسيرة العودة
لا يمكن تحميل مسيرة العودة ما لا تحتمل، مثلما لا يمكن تحميل قطاع غزة أعباء التحرير والعودة وحده. فلا يمكن أن تحقق المسيرةُ العودةَ الآن، وهذه مسألة على بديهيتها لا يبدو أنها محل اتفاق كامل، أو لم تكن محل اتفاق عشية وبعد اندلاعها، ولكن المسيرة استطاعت فتح طريق العودة التي بحاجة إلى سنوات طويلة، ولكنها لم تعد مستحيلة كما كانت تبدو الأمور عليه قبل اندلاعها.
كما لا يمكن أن ترفع مسيرة العودة الحصار كليًا إلا إذا كانت مقابل إقامة "دويلة" غزة وهدنة طويلة الأمد، لأن العوامل التي فرضته بحاجة إلى تحقيق عوامل أخرى وأكبر، مثل توفر ظروف وإرادة فلسطينية أكبر ومختلفة عما هو قائم الآن، ولا إحباط صفقة القرن كليًا، وخصوصًا نقل السفارة.
لو ولو تفتح عمل الشيطان كانت هناك قيادات فلسطينية بمستوى التحديات ووحدة وطنية ومغادرة حقيقية لنهج أوسلو والرهان على الأميركيين أو المارد العربي أو الإسلامي القادم واعتماد مقاربة جديدة، لكنّا أمام مسيرة عودة في جميع أماكن تواجد الشعب، وخصوصًا في الوطن المحتل. فنحن أمام مسيرة عودة أساسًا في القطاع وحده، وبالتالي ما يمكن أن يتحقق يتناسب مع هذه الحقيقة.
في هذا السياق مفترض العمل والسعي لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، وهو قد لا يكون كافيًا أو مرضيًا، ولكن من الخطأ عدم تحقيقه لكونه كذلك، وأشدد على كلمة أقصى، وليس الممكن، فهناك فرق كبير بين الممكن وبين أفضل الممكنات، الممكن يعني القبول بأي شيء، أما أفضل الممكنات فتعني أقصى ما يمكن تحقيقه.
تأسيسًا على ما سبق، فالذي يمكن أن تحققه مسيرة العودة خطوات ملموسة على طريق تحقيق الأهداف الكبيرة (العودة، الوحدة الوطنية، رفع الحصار والعقوبات، إفشال صفقة القرن)، مداها وحجمها يمكن أن تتفق عليه الهيئة الوطنية المسؤولة عن المسيرة في ضوء تقديرها ومعرفتها لما يجري وما يمكن أن يجري في الميدان، وما يتقدم من عروض واقتراحات، لذا يمكن، بل يجب وضع الهيئة أولًا بأول بصورة المفاوضات والعروض، بل يتوجب أن تقود الهيئة الممثلة للكل الوطني المفاوضات مع الأطراف العربية والدولية والإسرائيلية، حتى لا تحتكرها "حماس" وحدها، وحتى لا تتعرض للضغوط وحدها. وفي ضوء معرفة ما المعروض وما الذي يمكن عرضه، يمكن الموافقة عليه أو مواصلة المسيرة.
ما يمكن تحقيقه يدور ضمن سقف خطوات محددة على طريق تحقيق العودة، مثل التراجع عن تقليص موازنة الأونروا وعن تصفيتها، وخطوات أكبر على طريق كسر الحصار، وعلى طريق تحقيق الوحدة الوطنية، ويمكن أن تحقق مسيرة العودة رفع الإجراءات العقابية كليًا، كما بدأ بالتحقق جزئيًا، وهنا أحذر من التسرع باعتبار ما حدث في المجلس الوطني، وما أعلنه الرئيس عن إعادة الرواتب على أهميته رفعًا للإجراءات العقابية كلها، وتخليًا عن سياسة (إما الحكومة تشيل كل شيء أو "حماس" تشيل كل شيء)، والدليل أنها لم تنفذ كلها، فضلًا عن أن قرار رفع الإجراءات الذي قرره المجلس لم يكن في البيان الختامي الذي نشرته وكالة وفا.
كما أحذر من سياسة "إما كل شيء أو لا شيء" والوقوع في خطأ في التقدير، مثل أن اختراق السلك بأعداد كبيرة، وخصوصًا إذا أدى ذلك إلى وقوع الكثير من الشهداء والجرحى والأسرى، يمكن أن يقلب المشهد بصورة دراماتيكية لصالح الفلسطينيين.
لا أعتقد ذلك، بل يمكن أن يحدث العكس ونضيع ما يمكن تحقيقه، والانزلاق إلى حرب لا نريدها، وذلك جراء الوضع الفلسطيني المنقسم والضعيف والتائه، والوضع العربي والإقليمي والعالمي الذي لا يشجع، وشبح الحرب الذي يحلق في المنطقة، والذي يجب الحذر من تصور أن الفلسطينيين يمكن أن يلعبوا فيها دورًا عسكريًا من شأنه أن يؤثر على الحسابات الكلية للحرب.
أي أطالب، بعد التأكيد من أن الموقف الطبيعي للفلسطينيين أن يكونوا في مواجهة المعسكر الذي رأس حربته إسرائيل، بالحذر من المبادرة إلى الدخول في الحرب إذا اندلعت على الجبهة الشمالية، التي يمكن أن يدفع ثمنها الفلسطينيون غاليًا جدًا، في ظل أن التهجير داخل فلسطين وإلى خارجها مطروح بقوة على الأجندة الإسرائيلية.
أما سلاح المقاومة فدوره في هذه المرحلة دفاعي ليس أكثر، ولا يحدث فرقًا كبيرًا في حرب إقليمية قد تتحول إلى حرب دولية.
في ضوء كل ما سبق، يمكن حصول اختراق في ملف الوحدة إذا أعلنت "حماس" عن استعدادها للتخلي عن سلطتها الانفرادية في قطاع غزة مقابل شراكة كاملة، تتضمن وضع سلاح المقاومة تحت مظلة وطنية وفقًا لما جاء في وثيقة الأسرى (وثيقة الوفاق الوطني)، أو من خلال تشكيل جيش وطني، على أن تتضمن أي خطة أو اتفاق تشكيل حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني جديدة موثوقة باعتبارها خطوة أولى وأساسية لا يمكن التنازل عنها.
كما يمكن أن يحدث اختراق إذا أقدم الرئيس و"فتح" على الإعلان بالاستعداد لقبول "حماس" كشريك كامل مقابل تخليها عن السلطة بالقطاع، على أن تقوم سلطة لا تمثل "فتح" وحدها ولا "حماس" وحدها، وإنما تمثل الكل الوطني.
تبقى نقطة أخيرة حول اقتراب الجماهير من السلك واختراقه ميدانيًا. صحيح لا يمكن التحكم في ذلك كليًا، خصوصًا إذا كانت الحشود ضخمة، ولكن يجب الحذر الشديد والسعي الكبير جدًا لإبقاء المسيرة سلمية وجماهيرية ووحدوية، والامتناع عن الإقدام على خطوات ضارة، مثل حرق وتدمير معبر كرم أبو سالم خدمة لأغراض فصائلية، والحرص على تقليل الضحايا والخسائر قدر الإمكان، فقوات الاحتلال مستعدة لارتكاب مجازر كبرى لأنها تعرف معنى التساهل مع الجماهير المقتحمة للسلك، فهذا سيشجع الفلسطينيين الآخرين ليحذو حذو جماهير القطاع، ويشجع إسرائيل على ارتكاب المجازر الحالة العربية والدولية البائسة، بدليل أن العرب غائبين والعالم تعايش مع عمليات القتل اليومية، وجزء منه يعتبرها دفاعًا عن النفس.
كما يجب دراسة مسألة استمرار مسيرة العودة إلى الأبد، فهذا مستحيل، لأنه لا يمكن تحميل شعبنا في القطاع أكثر مما يحتمل، وحتى لو استمرت المسيرة بعد 15 أيار، فالذروة ستكون يوم أمس الإثنين واليوم الثلاثاء. وإذا توفرت إمكانية لتحقيق مطالب معقولة يجب التعاطي معها حتى لا نندم حيث لا ينفع الندم.
لا للاستثمار السريع قبل الأوان ولا لاضاعة فرصة الاستثمار وتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه. ولا بد من التفكير والعمل لكي تصبح مسيرات العودة شكلًا معتمدًا يبلغ ذروته كل عام في ذكرى النكبة إلى أن يأتي يوم الانتصار العظيم، يوم تحقيق العودة.
بقلم/ هاني المصري