مضت أسابيع على الوعد الذي قدمه الرئيس محمود عباس بعظمة لسانه بصرف رواتب الموظفين في قطاع غزة، وذلك في ختام أعمال المجلس الوطني عازيًا التأخر لخلل فني، ولم ينفذ وعده. وعندما حُمِّل رئيس الحكومة ووزير المالية المسؤولية عن هذا الخلل وعدم تنفيذ قرار الرئيس، أصدرت وزارة المالية توضيحًا بأنها التزمت بالتعليمات الصادرة إليها.
وعلى الرغم من هدوء موجة الغضب العارمة على عدم صرف الرواتب، إلا أن النار لا تزال تحت الرماد، ويمكن أن تشتعل بشكل أكبر من السابق. ووصلت ذروة هذه الموجة بتوقيع أكثر من 100 من أعضاء المجلس الوطني على عريضة تطالب بصرف الرواتب (والغالبية الساحقة من أعضاء المجلس الوطني موافقون على ما جاء فيها، بدليل إقرار فقرة في البيان الختامي الصادر عن المجلس تطالب برفع الإجراءات عن غزة، رغم أنها أُسقطت عند نشره، ما يدل على أن النية كانت مبيتة لعدم تنفيذ هذا القرار، ما يؤكد مجددًا أن أعلى سلطة في المنظمة تصادر سلطاتها لصالح صانع القرار).
ومن التطورات اللافتة على حجم الغضب استقالة ناصر القدوة من اللجنة المركزية لحركة فتح لأسباب عدة، على رأسها كيفية تعامل السلطة مع غزة، ما يدل على أن الأمور وصلت إلى مرحلة عدم القدرة على الاحتمال، فضلًا عن استقالة طلعت الصفدي، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب، من عضوية المجلسين الوطني والمركزي على نفس الخلفية.
ووصل الأمر إلى حالة لا عقلانية تمثلت باستمرار عدم صرف الرواتب، رغم شلال الدم الذي سال مدرارًا على أيدي المجرمين المحتلين في غزة، ورغم دخول شهر رمضان بأعبائه المالية الإضافية.
نستطيع أن نجد تفسيرًا لعناد السلطة في الرسالة التي رفعها القيادي الفتحاوي زكريا الآغا، للرئيس عباس، والتي جاء فيها "أخاطبك بكل الحب والاحترام لكي تأخذ قرارك الحكيم بوقف كل الإجراءات التي تم اتخاذها بخصوص ما يجري في غزة، ومع احترامنا لكل الدوافع التي كانت وراء هذا القرار إلا أن الواقع أثبت أنه لم يحقق الغرض المنشود، بل كان له أثر عكسي تمامًا، فقد زاد من معاناة المواطنين هنا وسط حالة الحصار والأوضاع المعيشية السيئة التي يمرون بها".
إضافة إلى ما ذكره الآغا حول تأكيده لمسؤولية الرئيس عما يجري، نشير إلى ضرورة الأخذ بالحسبان أن النظام السياسي الفلسطيني نظام رئاسي وأن الحكومة تعتبر حكومة الرئيس، لذا هي ملتزمة بتنفيذ برنامجه وتعليماته، وأن الممارسة السياسية في ظل الاحتلال والانقسام وغياب وتغييب المؤسسات، وخصوصًا المجلس التشريعي الذي من المفترض أن يمنح الثقة للحكومة، ويضعها تحت المساءلة والمراقبة، ويملك حق سحب الثقة منها، أو من وزير بعينه؛ أظهرت أن كل السلطات تمركزت في يد السلطة التنفيذية بصورة عامة، ويد الرئيس بصورة خاصة.
بناء على ما سبق، فإن رواية أن الحكومة لم تلتزم بقرار الرئيس لا تصمد أمام الواقع، وخصوصًا بعد مضي أسابيع عدة على صدوره. وهذا يثبت أن الخلل سياسيٌ وليس فنيًا، وإنما يعود إلى سياسة السلطة المعتمدة منذ أكثر من عام، التي تراهن على أن فرض الإجراءات العقابية وزيادتها باستمرار سيؤدي إلى استسلام "حماس" وقبولها لتمكين الحكومة بالكامل من الباب إلى المحراب وتحت الأرض وفوقها، أو قيام الشعب في غزة بالثورة على سلطة الأمر الواقع وإسقاطها.
لم يكن في حساب السلطة أن الأمور ستسير باتجاه معاكس، فأهلنا في قطاع غزة الذين كان معظمهم يحمّل سلطة الأمر الواقع بقيادة "حماس" المسؤولية عن تدهور الأوضاع الإنسانية قبل فرض الإجراءات، أصبح معظمهم الآن يحمل السلطة هذه المسؤولية، خصوصًا أن الإجراءات التي اتُخذت ضد "حماس" طالت مباشرة الموظفين الموالين للسلطة أولًا، وجماهير القطاع ثانيًا، و"حماس" ثالثًا بوصفها السلطة المسؤولة عن حكم القطاع.
وأكثر من ذلك، جاءت مسيرة العودة وانخراط "حماس" فيها بعد تردد مثل الهدية التي هبطت عليها من السماء. فالمسيرة غيّرت الموقف جوهريًا، وحققت أهدافًا كثيرة فيما يتعلق بإحياء القضية الفلسطينية، وفي القلب منها حق العودة، وأفسدت الاحتفال الأميركي الإسرائيلي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، الذي أريد له أن يكون تتويجًا لانتصار إسرائيلي مزعوم، فجاء عاجزًا عن تزوير التاريخ وقلب الحقيقة، حيث أثبت الشعب الفلسطيني أنه صاحب الأرض والقدس وصوته كان حاضرًا، وأعلى من صوت الاحتفال بنقل السفارة.
لا تزال السلطة "تركب رأسها" رغم اتضاح الخسارة الفادحة، وهذا إذا استمر سيجعل خسارتها كاملة، فحركة حماس عادت لتكون لاعبًا رئيسيًا، كما أن مخاطر انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية عن طريق تحويل الانقسام إلى انفصال ازدادت.
إزاء هذا الواقع، الجميع بانتظار من يعلق الجرس كما كان يحدث دائمًا حين يهب الشعب الفلسطيني لإنقاذ قضيته، وتصحيح مسيرته، من خلال قيام نخب وطلائع ومجموعات بالتحرك للتعبير عن إرادته ومصالحه.
فهناك فراغ كبير يمكن أن يملأه قيام تيار وطني واسع غير أيديولوجي، ويتسع لكل التيارات، يهدف إلى إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وإعادة بناء وإحياء المؤسسة الوطنية الجامعة، عن طريق بلورة رؤية شاملة تنبثق منها إستراتيجية سياسية ونضالية قادرة على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، وخصوصًا إحباط "صفقة ترامب" التي تجدد الحديث عن إمكانية طرحها قريبًا، وتقليل الأضرار والخسائر، وما يتطلبه ذلك من إعطاء الأولوية الحاسمة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، على أسس وطنية، وديمقراطية توافقية، ومشاركة سياسية حقيقية كاملة، بعيدًا عن التفرد والهيمنة والإقصاء والتكفير والتخوين.
قلنا ونكرر وسنكرر، إن مفتاح النجاح في تحقيق الوحدة الوطنية يكمن في الاتفاق على رزمة شاملة تضمن الشراكة الكاملة، علىى أساس تخلي "حماس" عن سيطرتها الانفرادية عن قطاع غزة، إذ لا يكفي مغادرة الحكومة وبقاء السيطرة على مصادر الحكم، فضلًا عن الموافقة على وضع سلاح المقاومة تحت مظلة وطنية، بحيث يكون خاضعًا للمؤسسة الوطنية الجامعة التي من المفترض أن تقوم بعقد مجلس وطني توحيدي جديد تمثيلي حقًا، على أساس إجراء الانتخابات حيثما أمكن ذلك، وعبر التوافق الوطني الحقيقي المستند إلى معايير موضوعية حينما يتعذر إجراء الانتخابات.
في المقابل، على "فتح" التخلي عن هيمنتها على النظام السياسي كله، خصوصًا الأجهزة الأمنية التي يجب أن تكون مهنية ووطنية وبعيدًا عن الحزبية، في سياق تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة وفاق وطني حقيقية، تقوم بإعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها، بحيث تكون تجسيدًا للدولة الفلسطينية، وللتعددية والشراكة.
بقلم/ هاني المصري