غزة.. (1)

بقلم: حنين زعبي

"إن أكثر الناس قلقا في السجن هو السجان"

هي غزة التي حركت ما فينا من عنفوان، وأخرجتنا من بلادة قاتلة، هي غزة التي أعطت للمرحلة عنوانها السياسي: لا لتصفية القضية، ونعم للعودة لجذورها حتى في أحلك الأوقات، ليس أقوى ما فعلته غزة أنها باتت تطالبنا بإعادة النظر في حدود عملنا السياسي إلى حد الإحراج، بل إن أقوى ما فعلته وتفعله غزة، أنها أحرجتنا بحصار، اتضح أن حدوده أوسع منا، الأقوى أنها سخرت من ضعفنا بحنان.

أقوى ما تفعله غزة، أنها تقول لنا إن قضيتنا ليست في ضعفنا، بل هي في قراءتنا للقوة. إن لا شيء محسوم، إن القوة ليست قوية في الحسم، كما هي قوية في القمع. وإنه لا يعول على قوة ليس بوسعها أن تحسم، إن قوتنا الآن بالتأكيد غير قادرة على قيادتا نحو انتصارات، لكنها بالتأكيد أيضا، لا توصل الآخر لانتصار نهائي. وطالما لا يستطيع الانتصار تماما رغم قوته العسكرية وسيطرته السياسية، ولا يستطيع التصرف، وكأن لا قضية فلسطينية جاثية على صدره، فهو قابل للهزيمة حتما.

وهي غزة التي أعادت تذكيرنا بأن "أكثر الناس خوفا في السجن هو السجان" إسرائيل تخشى الفلسطيني، وتخشى الطفل وتخشى الصحفي، وتخشى الباحث، وتخشى الحقيقة وتخشى المظاهرة وتخشى تجمع الأفراد، وتخشى الحراك السياسي، وتخشى المواجهة وتخشى الحراك الشعبي وتخشى النضال وتخشى المقاومة، وتخشى الحراك الدولي، وتخشى المقاطعة، وتخشى من حرية الآخرين، إنها خائفة، وأكثر ما تخشاه إسرائيل هو تدحرج البدايات إلى ما لا تستطيع السيطرة عليه.

وهي غزة العزة التي جعلتنا نعيد التأكيد، ونذكر إسرائيل والعالم وأنفسنا: نحن نرفض التسليم بتجزئتنا كشعب، نحن نرفض تفكيك قضيتنا لقضايا مواطنة، واحتلال، وحصار، وتهويد. كقضايا منفصلة عن بعضها. تلك ليست قضايا نضالية مستقلة، تلك سياقات. سياقات نضالية ضمن قضية تحرر لشعب واحد، ولا نحملها بتناقض أو انفصام، وأن نناضل من أجل مواطنة متساوية ليس فقط مهما، بل نحن نقول إنه لا مجال لنا في الداخل أن نُناضل من أجل حقوقنا كفلسطينيين أصحاب وطن، من خلال القفز عن سياق المواطنة. لكن ليس تلك المواطنة كما يعرضها المشروع الصهيوني، بل تلك المواطنة التي أعرضها أنا عليه، فالأخيرة تؤكد وتستوعب المشترك مع أبناء شعبي، وترفض المركبات الاستعمارية من المواطنة الحالية التي فصلتني عن شعبي.

صحيح أن هنالك خطورة في خطاب المواطنة، خطورة أن نحول المواطنة من مشروع متصارع مع الواقع القائم إلى تذويت لسقف ما يمثل أفضل ما قد تعرضه المواطنة الصهيونية في نقطة زمنية مثالية ما. هنالك خطورة من أن تبلعنا المواطنة إلى درجة التصديق، أي إلى درجة الاستغراب من كل استعداء إسرائيلي لنا. هنالك خطورة من أن يطور خطاب المواطنة لدينا رضى "بالتمييز" الإسرائيلي وبين سائر شعبنا بسبب تلك المواطنة.

هنالك خطورة من أن يطور خطاب المساواة بيننا وبين الإسرائيليين، خطاب لا مساواة داخلي/ نفسي، بيننا وبين سائر الشعب الفلسطيني، فنقبل أو على الأقل لا نحتج ولا نستغرب على معاملة إسرائيل لشعبنا كعدو، لكن نحتج ونستغرب على تعاملها معنا (المواطنين) كأعداء، أو على الأقل لا نرفض الأول قدر ما نرفض الثاني، ولا نتحمل ثمن رفضنا للأمرين بنفس النسبة.

هنالك خطر من أن يطور خطاب المواطنة داخلنا علاقة محاسبة تجاه إسرائيل، مبنية فقط على أساس تعامل إسرائيل معنا، وليس على أساس تعاملها أيضا وبنفس النسبة، مع شعبنا وقضيتنا الوطنية العامة. هنالك فعلا خطورة تذويت نفسي لهرمية مكانة سياسية تعكس هرمية مراتب حقوقية، فنشهد القتل في غزة بغضب لكن بـ"فهم" لواقع احتلال، ثم نستغرب من قمع الشرطة وعنفها تجاهنا في حيفا، ونسكت على الأول لكن نرفض الثاني. لكن المواطنة التي نريدها والتي نبنيها هي تلك المناقضة للأسرلة، هي تلك التي لا تجعل نفسها بديلا لهوية فلسطينية واحدة أو نقيضا لها، هي تلك التي ترفض الجرائم والقتل في غزة بنفس الحدة والأهم بنفس المنطق، الذي ترفض بها الجرائم وعنف الشرطة في الداخل، وهي تلك التي تجعلنا نناضل من موقع هويتنا الفلسطينية كأصحاب وطن ضد اثنيهما، بصفتهما تعبيرين مختلفين موجهين لذات الضحية من قبل ذات النظام.

هي غزة ..

هي غزة العزة ..

مستمرون ..

بقلم/ حنين زعبي