تعتبر القضية الفلسطينية بمكوناتها قضية أمن قومي عربي مصري، تتعامل القيادة المصرية معها انطلاقاً من منطلق واجبها القومي والوطني في إدارة قضايا الأمن القومي العربي؛ ونظراً لأن الجبهة الشرقية لمصر هي أحد دوائر الأمن القومي المصري مباشرة.
ومنذ البداية تعاملت مصر مع القضية الفلسطينية كونها القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية. وبكل شفافية ومصداقية؛ قدمت مصر تضحيات تؤكد هذا الدور التاريخي، إضافة إلى دورها الحيوي في عملية إتمام انسحاب الكيان الصهيوني من قطاع غزة في سبتمبر عام 2005، ودورها الفاعل في الوصول إلى اتفاقية فتح معبر رفح في نوفمبر من نفس العام؛ حيث كانت مصر حاضرة في توقيع اتفاقية المعبر بين السلطة الوطنية الفلسطينية ودولة الكيان الصهيوني وبحضور الاتحاد الأوربي باعتباره الشريان الرئيس بين دولة فلسطين وأرض مصر الحبيبة الذي يربط الحدود الجنوبية لفلسطين متمثلة في قطاع غزة بالعالم الخارجي مما يؤكد أن مصر هي العمق العربي والاستراتيجي لدولة فلسطين. ومما يؤكد ذلك قيام القيادة المصرية بفتح المعبر لمرات عديدة في السنوات الماضية بينما الشعب الفلسطيني يعاني من الانقسام الفلسطيني البغيض. ولاعتبارات إنسانية وفي ظل الظروف الأمنية الصعبة أبقت القيادة المصرية وعلى فترات متقاربة على فتح المعبر رغم الظروف الأمنية الصعبة التي تمر بها مصر في محافظة سيناء من أجل التخفيف على سكان قطاع غزة دون الإخلال بمتطلبات الأمن القومي المصري، وإدراكاً منها لشمولية القضية الفلسطينية بعدم اختزالها في قضية معبر رفح فقط، مع تأكيدها بصفة مستمرة بأن هناك قضايا أهم وأجدر وأعمق من قضية المعبر؛ كقضايا إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية والقدس وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الأبدية وحق اللاجئين بالعودة إلى مدنهم وقراهم بفلسطين المحتلة وخلافه من القضايا الهامة.
وعلية فإن القيادة المصرية وعلى رأسها السيد الرئيس/ عبدالفتاح السيسي قامت باتخاذ إجراءات عملية وفاعلة في ملف المصالحة لإنهاء الانقسام البغيض الذي طال أمده لفترة ليست بالقصيرة لترسيخ الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد، ورعت من أجل ذلك عدة اجتماعات وحوارات للفصائل الفلسطينية وخاصة بين حركتي فتح وحماس، وسارعت بإرسال قيادات مصرية من جهاز المخابرات العامة وعلى رأسها سعادة الوزير السابق خالد فوزي، ومازالت هذه الجهود والمساعي المخلصة مستمرة حتى الأن برئاسة سعادة الوزير/ عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة؛ حيث بادر شخصياً بالذهاب إلى رام الله والتقى بقيادة حركتي فتح في رام الله وحماس بالقاهرة لمرات عديدة من أجل إتمام إجراءات المصالحة وإجراء حوارات ثنائية بينهما لإنهاء الانقسام البغيض وغلق هذا الملف؛ واستمرت القيادة المصرية بالحوار مع حركة حماس في القاهرة للتوصل إلى تفاهمات معها بتحميلها مسؤولية أكبر من التنسيق الأمني من خلال الحفاظ على الأمن على الحدود المصرية الفلسطينية ومنع تسلل الإرهابيين من قطاع غزة للأراضي المصرية مقابل تقديم مصر دعماً لوجستياً لأبناء الشعب الفلسطيني بقطاع غزة في المسائل الإغاثية والإنسانية والاقتصادية؛ حيث وظفت مصر رغبة الإمارات العربية بدفع ورقة النائب في المجلس التشريعي محمد دحلان في تطبيق هذه المبادئ، وبذلك تكون القيادة المصرية قد أكدت للجميع على مكانتها في مباشرة دورها بشكل واضح وصريح مع إعلان اتفاق القاهرة في أكتوبر2017م بين حركتي فتح وحماس والفصائل الفلسطينية الأخرى؛ وظهر الاتفاق تحت رعاية مصرية بقيادة المخابرات العامة للدلالة على استئناف الدور المصري بدرجة عالية من الفاعلية، حيث اتفقت الحركتان على تنفيذ إجراءات المصالحة من خلال قيام حركة حماس بحل اللجنة الإدارية في قطاع غزة وتمكين حكومة الوفاق الوطني من ممارسة مهامها والقيام بمسؤولياتها الكاملة في إدارة شؤون قطاع غزة كما في الضفة الغربية بحد أقصى يوم 1 ديسمبر2017م؛ مع العمل على إزالة كل العراقيل الناجمة عن الانقسام وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني؛ حيث دفعت المرونة التي أبدتها حركة حماس إلى نجاح الوساطة المصرية في دخول مجموعة النائب محمد دحلان إلى ملف المصالحة، من خلال مشاركته في أحد جلسات المجلس التشريعي في قطاع غزة ما ثبت بالدليل القاطع الذي لا يدع مجالاً للشك القدرة المصرية في إحداث تغييرات جوهرية في خريطة المشهد السياسي الفلسطيني. كل هذه العوامل أدت إلى تعزيز مكانة الدور المصري في الملف الفلسطيني بشكل عام.
إلا أن هذا النجاح في ملف المصالحة كان بمثابة نجاح مؤقت رغم الاتفاق بين الأطراف الفلسطينية على أن تقوم حركة حماس بحل اللجنة الإدارية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني وتمكينها من ممارسة أعمالها في قطاع غزة والضفة، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسيه وانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني؛ إلاَّ أن هذه التفاهمات لم تحسم الخلافات حول النقاط المفصلية في الخلاف بين حركتي فتح وحماس وعلى رأس ذلك ملف سلاح المقاومة الذي ترفض حركة حماس تضمينه ضمن ملف المصالحة، وكذلك ملف الموظفين في القطاع وعلاقتهم بالحكومة الجديدة ما يدفعنا إلى القول بأن هذه التفاهمات نتجت عن بعض المصالح التكتيكية المؤقتة لدى بعض الأطراف.
وفي خضم الوساطة المصرية في الملف الفلسطيني توقفت مباحثات المصالحة على خلفية وقف حركة حماس تحويل الجباية الداخلية للضرائب إلى وزارة المالية في حكومة الوفاق الوطني، ثم عملية محاولة اغتيال رئيس حكومة الوفاق الوطني الدكتور رامي الحمد لله، ورئيس جهاز المخابرات الفلسطينية اللواء ماجد فرج، وإصدار الرئيس الأمريكي ترامب قراره السافر بنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس المحتلة؛ مما دفع بالقيادة المصرية لممارسة دوراً سياسياً مؤثراً في إدارة هذه الأزمة في ظل تصاعد المواجهات بالأراضي الفلسطينية المحتلة ضد القرار الأمريكي.
إنًّ أزمة نقل السفارة الأمريكية ألقت بظلالها على الدور المصري تجاه القضية الفلسطينية؛ حيث تعرض ملف المصالحة للانهيار على خلفية اشتعال الأوضاع في غزة، وغموض مستقبل موظفي حركة حماس بغزة، حيث قررت حكومة الوفاق الوطني استيعاب عشرين ألف موظف منهم.
إنَّ القيادة المصرية تؤكد دائماً على دورها الإقليمي بصفتها الراعي للسلام في المنطقة بطرح سيادة الرئيس/ عبدالفتاح السيسي مبادرة للسلام الإقليمي، وأن مصر تتطلع إلى دورٍ رائدٍ في هذه المباحثات خصوصاً في ظل الانخراط العسكري الأمريكي والروسي في الإقليم ما يدفع القيادة المصرية إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع هذه القوى، واعتبار القضية الفلسطينية أهم القضايا التي يجب أن تحل لكي يسود الأمن والاستقرار ربوع المنطقة.
إنَّ الدور المصري تجاه القضية الفلسطينية شهد اهتماماً كبيراً خلال فترة حكم السيد الرئيس/ عبدالفتاح السيسي؛ وقد ظهر ذلك جلياً بالاهتمام بها في محطاتٍ هامة كانت بمثابة تأكيد على الدور الإقليمي لمصر العروبة؛ حيث تركت هذه المحطات بعض المؤشرات عن توجهات القيادة المصرية حيال القضية الفلسطينية، ومدى فاعلية دورها الإقليمي في القضية المركزية للعرب والمسلمين، وأبرز هذه المحطات المبادرة المصرية لعام 2014م بعد عامين تقريباً من موافقة حركة حماس والكيان الصهيوني المحتل على الوساطة المصرية لوقف إطلاق النار حيث كانت هذه المحطة بعد مرور شهر على تولي الرئيس/ عبدالفتاح السيسي لرئاسة مصر، حيث انفجرت الأوضاع مرة أخري في قطاع غزة، وشن الكيان الصهيوني حرباً جوية على قطاع غزة بهدف وقف الاضطرابات من ناحية، ومحاولة مصر التأكيد على استمرار فعالية دورها في القضية الفلسطينية بطرح مصر لمبادرة جديدة لوقف إطلاق النار بين حركات المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وقد جاءت استجابة القيادة المصرية سريعة بتقديمها لمبادرة عاجلة في غضون أسبوع من وقت بدء العمليات العسكرية؛ نصت على وقف الأعمال “العدائية” بين الكيان الصهيوني وفصائل المقاومة الفلسطينية، وفتح المعابر، ورفع الحصار عن قطاع غزة كشرط لاستقرار الأوضاع الأمنية، حيث لاقت المبادرة المصرية ترحيباً من الكيان الصهيوني معتقداً أنها فرصة سانحة للبدء في نزع سلاح المقاومة الفلسطينية؛ في حين أن حركة حماس قد رفضت مبادئ المبادرة المصرية، وطالبت حماس بالعودة لنصوص المبادرة المصرية عام 2012م، خاصةً فيما يتعلق بفتح المعابر ورفع الحصار عن القطاع دون التقيد بأي شروط، وكذلك الإفراج عن بعض المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني. وفي النهاية توقفت الحرب بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار بين الطرفين، مما أكد بالدليل القاطع الذي لا يدع مجالاً للشك على دور مصر الإقليمي الرئيس والفاعل بعد حرب غزة 2014م.
إنَّ القيادة المصرية لعبت دوراً أساسياً ورئيساً بين الأطراف الفصائل الفلسطينية والكيان الصهيوني؛ باستمرار واقع التهدئة على ما هو عليه، وأن الضامن لذلك هو الميدان وما يجري من أحداث على أرض الواقع، كما أن التفاهمات التي أجرتها القيادة المصرية بين الأطراف تمحورت حول توقف الكيان الصهيوني عن المعادلة التي انتهجها أخيراً والمتمثلة في قصف قطاع غزة بالطيران الحربي مقابل أي خرق للحدود ضمن فعاليات مسيرة العودة أو غيرها من إطلاق الصواريخ، وتجنب الكيان الصهيوني محاولة اغتيال عناصر من قيادة المقاومة داخل القطاع دون مبرر، لكن القاهرة لم تؤكد ضمانتها لأي من الأطراف باستمرار الواقع على ما هو عليه مشدداً على أن الضامن هو الميدان، وما يجري على الأرض من أحداث ووقائع، في المقابل أكدت قيادة حركة حماس للقيادة المصرية أنها مع عدم التصعيد، أو الذهاب إلى حرب جديدة، لكنها لن تتوانى عن الرد على أي اعتداء من الكيان الصهيوني بصورة أكبر وأوسع في المرات المقبلة، لكن القيادة المصرية أكدت للحركة أن الكيان الصهيوني لا يرغب في تدهور الأوضاع التي من شأنها أن تذهب إلى عملية عسكرية موسعة في حال استمر تساقط الصواريخ من غزة، وعلية تم إيقاف التدهور لإتاحة المجال للحلول السياسية والإنسانية التي بدأت تتشكل.
إذن يمكن وصف ما حدث بأنه تفاهمات شفهية على التهدئة أكثر منه اتفاق تهدئة، وهذا ما أوحت به تصريحات قادة الكيان الصهيوني؛ التي تشير إلى أنه لا هدنة صامده حالياً، لكن محاولات التثبيت استمرت أمس باتصالات من القيادة المصرية وعلى رأسها الوزير عباس كامل رئيس المخابرات العامة مع قيادة المقاومة بالقطاع، حيث نتج عن هذه الاتصالات أن التهدئة دخلت إلى حيز التنفيذ تحت قاعدة التزام تفاهمات وقف اطلاق النار التي عقدت عام 2014م، وهذا سيكون له ما بعده بتهيئة الأوضاع مستقبلاً إلى بداية التحرك السياسي دولياً واقليمياً، ومن المتوقع أن يقود ذلك لعقد مؤتمراً اقليمياً في مصر العروبة، والخروج بتوصيات لإنقاذ الوضع الإنساني والإغاثي والاقتصادي، وإنشاء عدداً من المشاريع في قطاع غزة تحت إشراف وإدارة لجنة دولية عربية فلسطينية.
بقلم/ د.عبد الكريم كامل شبير - الخبير في القانون الدولي