تكاد لا تخلو شوارع قطاع غزة من الموائد الرمضانية التي تقدمها الجمهورية الإسلامية في إيران، باسم لجنة إمداد الإمام الخميني تارةً، وباسم الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة تارةً أخرى، دعماً لأهل غزة، وتمكيناً لهم في محنتهم، ومساهمةً معهم في مسيرتهم الوطنية الكبرى، فقد انتشرت السرادقات العامة والخيام الكبيرة والمطابخ المحلية، التي تقدم فيها وجبات الطعام لعشرات آلاف الفلسطينيين من سكان القطاع، الذين يعانون من ويلات الحصار وقسوة الظروف، وتجوب حاملةً اسمهم وشعارهم، وعبارات التأييد للفلسطينيين، عشراتُ الشاحنات الكبيرة التي تحمل المؤن والمساعدات وتوزعها على المحتاجين والمعوزين، الذين أضنتهم ظروف القطاع القاسية وأحواله السيئة، ومعاناة أهله التي لا تنقطع.
تتوزع موائد الإفطار الرمضانية الإيرانية في كل أنحاء القطاع، وتكاد تصل إلى كل بيتٍ، حيث أعلن منظمو الحملة عن خطتهم لإيصال الوجبات إلى أكثر من ربع مليون فلسطيني من سكان غزة، وهي وجباتٌ كريمةٌ سخيةٌ، فيها ما يكفي الصائمين، ويسد حاجة الجائعين، ويرضى نفوس المتعففين، الذين لا يُردون عن الموائد، ولا يُطردون من أمام المراكز، ولا يمنعون من حاجتهم، ولا يهانون في وقوفهم، ولا ينهرون بسؤالهم.
مبالغٌ كبيرةٌ رصدها الإيرانيون لمساعدة قطاع غزة خلال أيام مسيرة العودة الوطنية الكبرى، قبل أن تنصب الموائد وتفتح البيوت وتقام السرادقات لوجبات الإفطار في شهر رمضان الفضيل، فكانت الموائد الكريمة تُمَدُ على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة، للصامدين على الحدود، وللمرابطين على الثغور، وللمقاتلين في المواقع، والمقاومين في المعسكرات والمراكز، ولولا ظروف الحصار القاسية، والبعد الجغرافي الفاصل، لكان حضورهم أكبر، ومساهمتهم أوسع، وأثرهم أبلغ، وعطاؤهم أشمل.
لا تقتصر المساعدات الإيرانية اليومية خلال شهر رمضان المبارك على وجبات الإفطار اليومية، ولا على السلة الغذائية الغنية، بل اتسعت لتشمل تقديم مساعداتٍ ماديةٍ للمحتاجين، ومساهمةً مالية للمعوزين والمدينين، وتعهدٍ بعلاج الجرحى والمرضى والمصابين، والتزاماً بالوفاء للفلسطينيين استجابةً للتكليف الديني والأخلاقي، وإيماناً منهم بالواجب الملقى على عاتقهم كمسلمين تجاه إخوانهم دون منةٍ منهم أو أذى لهم، حيث يشعر الإيرانيون بالفخر لما يقدمون، والشرف بما يساهمون، والسعادة فيما يعطون، ويتطلعون للمزيد ويتمنون الأكثر، ولا ينتظرون جراء ما يقدمون شكراً أو تقديراً، ولا يشترطون لما يقدمون اعترافاً وإقراراً، أو إعلاناً وبياناً، إنما قصدهم المؤازرة، ونيتهم المناصرة، وغايتهم نصرة الحق وتمكين الفلسطينيين.
لم ينس الإيرانيون من مكرمتهم الرمضانية أسر الأسرى والمعتقلين، ولا عائلات الجرحى والمصابين، ولا أهل الشهداء المكرمين، ولا أصحاب البيوت المدمرة والمساكن المهدمة، بل أغدقوا على الجميع حباً وأعطوهم وفاءً، وتكاد لا تنقطع توصيات القائمين على موائد الرحمن وحملات الدعم والإمداد الإيرانية، بوجوب إكرام عائلات الشهداء والأسرى والمعتقلين، والتواضع أمامهم، والانحناء أمام تضحياتهم، والإسراع بتلبية حاجاتهم، حرصاً على كرامتهم، وصوناً لتعففهم، فهم الذين تفخر بهم الأمة وتزهو، وبتضحياتهم تكبر وتسمو، وبدمائهم الزكية تنتصر، فالدم دوماً أقوى من السيف، وهو الذي يعبد الطريق إلى النصر الكبير والمستقبل الكريم.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يهب فيها الإيرانيون نصرةً لغزةً، بل هذه هي طبيعتهم وعادتهم، وهي سيرتهم معنا منذ عقودٍ لم تنقطع ولم تتغير، تعاهد عليها قادتُهم، وورثها عن مفجر ثورتهم أئمتُهم، والتزمت بها حكوماتُهم ومرجعياتُهم، وتنافست في تقديم الخدمات مؤسساتُهم، وتسابقت في الوصول إلى ذوي الحاجات الملحة، وأصحاب الحقوق من أهل الفضل والمكانة.
اعتاد الإيرانيون على الوفاء بواجبهم دون تأخيرٍ بسبب المعوقات والصعوبات، أو إبطاءٍ بسبب الظروف والعجز وقسوة الحصار، فحاجة الفلسطينيين في وعيهم أولى وخدمتهم مقدمةٌ، ومساعدتهم لها الأولية في السبق والقدر والقيمة على شعبهم وأبناء وطنهم، وزاد هذا الفهم لديهم وعززه، مسيرةُ العودة الوطنية الكبرى، ملحمة الفلسطينيين الجديدة، ومفخرة نضالهم الكبيرة.
أما الفلسطينيون في قطاع غزة وأنا أحدهم، وأفتخر بأنني منهم، أنتسب لهم وأنتمي إليهم، فإنهم يشكرون الجمهورية الإسلامية في إيران وقائد ثورتها السيد الخامنئي، ويحفظون فضلها قيادة وحكومةً وشعباً، ويقدرون عطاءها، ولا ينسون تضحياتها، ولا يقللون من حجم مساعدتها، ولا يستخفون بما تقدمه لهم على كل المستويات الإنسانية والسياسية، والعسكرية والمادية، فهذه إيران التي نعرف، وهي التي نتطلع إلى دورها ومساهمتها في معركتنا ضد الكيان الصهيوني الغاصب، الذي يخشى وجودها، ويخاف من دورها، ويعمل على إبعادها، ويسعى لمنعها من المشاركة وحرمانها من المقاومة، ليقينه التام أنها صادقة فيما تقول، وحازمة فيما تقرر، وقادرة على تنفيذ تهديداتها في حال المواجهة.
لعلها الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم هي الدولة الأكثر حرصاً، إن لم تكن الوحيدة على المستويين الرسمي والشعبي، على مساعدة الفلسطينيين، والوقوف إلى جانبهم، ومساندتهم في نضالهم، ودعمهم في مقاومتهم، ومناصرتهم في حقهم، وتثبيت صمودهم في أرضهم، وضمان حقوقهم في وطنهم، والإصرار على تحرير أرضهم وتطهير مقدساتهم، وعودتهم إلى ديارهم، وبناء دولتهم المستقلة ذات السيادة التامة على كامل ترابهم الوطني، ومن أجل هذه الأهداف السامية تنفق، وفي سبيلها تعطي وتغدق.
وهي الدولة التي تتصدى بمؤسساتها الرسمية السياسية والدينية لمحاولات الاستفراد بالفلسطينيين والتآمر عليهم، ولا تتردد في فضح المؤامرات التي تحاك ضدهم، وكشف الخطط التي تعد لتصفية قضيتهم، والالتفاف على حقوقهم.
وهي الدولة التي تجاهر بمساعدتها، ولا تخفي مساهمتها، ولا تتردد في الإعلان عن دعمها، ولا تخشى تبعات مواقفها المناصرة، وسياستها المؤيدة، ولو كانت حصاراً لها وتضييقاً عليها، وإعلاناً للحرب ضدها وسعياً لتقويض الحكم فيها، وإشاعة الفوضى في بلادها، وتهديداً للاستقرار في مجتمعاتها، إلا تصبر وتحتمل، لأنها تعتبر أن تبنيها لقضية فلسطين شرفٌ، وأن الدفاع عنها تكليفٌ وواجبٌ، والتخلي عنها خيانةٌ وتفريطٌ.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 11/6/2018
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]