هل الحقائق صادمة إلى هذا الحد؟
وهل هناك مجال إحداث تغيير واختراق للفكر السياسي الإسرائيلي المناهض للمنطق والتاريخ والإنسانية؟
لا بد أن القراء والقارئات سيندهشون حينما يتعرفون إلى حقية "أن الفلسطينيين هم من سلالة اليهود الأوائل وبعضهم اعتنق المسيحية وبعضهم اعتنق الإسلام فيما بعد"، بينما أن جزءا كبيرا ممن يدعون أنهم يهود ليسوا كذلك، بل إنهم من سلالات أخرى تهودت، ولربما ستخف الدهشة حين يطلعون على كتب التاريخ الموضوعية المكتوبة من قبل مؤرخين جزء منهم يهودا، وحين نذكرهم بما تم نشره خلال الفترة الأخيرة عما قاله علم الجينات عن الأصول اليهودية.
هو النضج الفكري في فهم التاريخ واختيار الشكل الأمثل لمخاطبة العالم والاحتلال أيضا.
"أثر الفراشة لا يزول"..
هنا في رحاب الشاعر الفيلسوف والمفكر محمود درويش، وفي متحفه بالذات، أراني أتذكر تلك العبارة، التي تأتي في سياق فهم الحقيقة المتأخر، والذي ينطبق على المدعين بملكية المكان والأزمنة؛ فلم يزل أبدا أثر الشاعر، بل إنه يظهر في ردود فعل العارفين الجدد بالوهم الذي عاشه العالم عن الجماعة الخاصة-العائلة، والمكان الخاص بها.
ذكرنا الكاتب الفلسطيني عبد الغني سلامة في كتابه "فلسطين في الأسر الصهيوني: دراسة تاريخية في نشأة اليهودية وعلاقتها بتاريخ فلسطين"، بالحوار العميق الذي ورد في قصيدة الزنابق البيضاء لمحمود درويش من جهة، وبعدد من الدراسات التي فندت الوهم بوجود الشعب الواحد صاحب المكان الواحد.
كتاب سلامة كان محاولة بحثية جادة وعميقة، يهدف من خلالها إلى توضيح فكرة مركزية، وهي أن وجود اليهودية وبني إسرائيل في فلسطين لم يكن سوى وجود عادي في سياق الوجود التاريخي لبقية الشعوب التي سكنت أرض كنعان، مثل عشرات القبائل التي مرت قبلهم وبعدهم، ويحاول أيضا إثبات أن التوراة لا علاقة لها بتاريخ فلسطين القديم، مستندا في ذلك إلى ما أثبتته الأبحاث الأركيولوجية أي أبحاث علم الآثار التي لم تستطع أن تجد أي رابط بين ما ورد في التوراة وبين أرض الواقع أو كما يقول: كانوا يحاولون تحويل الخيال إلى تاريخ. جاء من أربعة فصول، يتحدث الأول منها عن "الأسطورة التوراتية وتاريخ ما قبل اليهودية"، والثاني عن "إرهاصات نشأة الديانة اليهودية"، والثالث عن "تعاقب الفاتحين ووالي الغزاة"، والرابع عن "اليهودية والصهيونية".
وقد نقد الكاتب البعد الديني في تثبيت الرواية الصهيونية، باعتبار أن العهد القديم مصدر مطعون به من المؤرخين، وصولا إلى تأكيد ما زعمه مؤرخون آخرون بأن مكان التوراة هو جنوب الجزيرة العربية وليس فلسطين، اعتمادا على التحليل اللغوي والأماكن.
وقع الكتاب في 216 صفحة من القطع المتوسط، وصدر عن مكتبة "كل شيء" في حيفا، المدينة التي احتضنت حوار شاعرنا الكبير قبل نصف قرن مع جندي إسرائيلي يتحول لمؤرخ كبير يكشف زيف الأسطورة.
"أثر الفراشة لا يزول"..
سنعود قليلا إلى بعض الفقرات الشعرية في "الزنابق البيضاء"، وهي من ديوان "آخر الليل" الذي صدر عام 1967 ثم ننتقل إلى د. شلومو ساند الذي كتب ثلاثية: اختراع الشعب اليهودي، واختراع أرض إسرائيل، وكيف لم أعد يهوديا،التي صدرت في السنوات الأربع الأخيرة وتم ترجمتها من خلال مركز مدار للدراسات الإسرائيلية برام الله.
ودهشت حين تابعت القراءة.. فقد كانت القصيدة ثمرة حوار مع جندي إسرائيلي، قد يكون حقيقيا أو مفترضا، على طريقة القدماء في استحضار الرفيق: “قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل…”..حتى أن اسم الشاعر يظهر في الحوار الشعري على لسان الجندي” أجابني مقاطعا يا صاحبي محمود”..
في الفقرة التالية، يبدأ الحوار بسؤال الشاعر البسيط العميق والساخر المكتشف والفاضح عن الأرض، بمعنى الوطن، فيظهر اغتراب الجندي، بل يظهر أنه هو الآخر وقع تحت تأثير التهجير عن بلده الأصلية، ليصبح غازيا هنا، فليست حقيقية شعوره كما تقول الشعارات الصهيونية، بل أنه هنا ينفي هذا الوطن الجديد المصنوع:
"سألته: و الأرض؟
قال: لا أعرفها
و لا أحس أنها جلدي و نبضي
مثلما يقال في القصائد
و فجأة، رأيتها
كما أرى الحانوت..و الشارع.. و الجرائد"
إنها إذن المحبة العابرة، المرتبطة بالتربية الموجهة المجبور عليها، وليست اختياره الشخصي، والمحبة هنا ليست قادمة من داخل نفسه،” لم أشم العشب، و الجذور، و الغصون..” حيث يرى أن وجوده هنا غير طبيعي:
"سألته: تحبها
أجاب: حبي نزهة قصيرة
أو كأس خمر.. أو مغامرة
-من أجلها تموت ؟
_كلا!
و كل ما يربطني بالأرض من أواصر
مقالة نارية.. محاضرة!
قد علّموني أن أحب حبّها
و لم أحس أن قلبها قلبي،
و لم أشم العشب، و الجذور، و الغصون..
و كيف كان حبّها
يلسع كالشموس ..كالحنين؟
أجابني مواجها:
_و سيلتي للحب بندقية
وعودة الأعياد من خرائب قديمة
و صمت تمثال قديم
ضائع الزمان و الهوية!"
اختراع الشعب الواحد
ننتقل الآن إلى رحلة المؤرخ من الجندية إلى اكتشاف الحقائق كانت في وعي شلومو ساند، واستغرقت تلك الرحلة 4 عقود وأكثر، حين كانت البداية مع كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، حيث قام بدراسة تاريخية موثقة تثبت أن هناك دينا يهوديا ولكن ليس هناك ما يسمى بالشعب اليهودي، وأن الزعم هو لتكريس فلسطين أرض لليهود، واستمرارة الدولة، حيث يقول: "أنا مثل بقية الإسرائيليين اعتقدت بأن اليهود كانوا شعبا يعيشون في يهودا وأن الرومان نفوهم عام سبعين ميلادي. ولكن عندما بدأت أنظر إلى الأدلة اكتشفت بأن النفي هو أسطورة حيث لم أجد أي كتاب تاريخي يصف أحداث النفي، والسبب لأن الرومان لم ينفوا شعبا... وفي الحقيقة معظم اليهود في فلسطين كانوا فلاحين وكل الأدلة تشير إلى أنهم مكثوا على أراضيهم، لافتا إلى أن معظم اليهود اليوم لا علاقة لهم بالأرض التي يسمونها إسرائيل، وبأن الفلسطينيين هم من سلالة اليهود الأوائل وبعضهم اعتنق المسيحية وبعضهم اعتنق الإسلام فيما بعد.
اختراع المكان
يشير بريفسور ساند إلى أنه عندما كان شاباً فإن مصطلح "أرض إسرائيل" شكّل جزءاً من قاموسه على الرغم من كونه يسارياً، وكان واثقاً من أنه مصطلح تناخي، وفجأة تبين له أنه لا توجد "أرض إسرائيل" في "التناخ" بعد أن دقق في مكانتها فيه وفي الأدبيات اليهودية القديمة. ويقول إن كلمة "وطن" تظهر تسع عشرة مرة في جميع أسفار "التناخ" نصفها في سفر التكوين، لكن هذا المصطلح يتعلق بمسقط الرأس أو المكان الذي يدل على أصل عائلة، لا بإقليم جيو – سياسي مثلما كانت الحال لدى اليونان أو الرومان. وليس هذا وحسب بل أيضاً لم يخرج أبطال "التناخ" بتاتاً للدفاع عن وطنهم كي يحظوا بالحرية أو بدافع وطنية سياسية. ويشدّد على أن النصوص التناخية تشير إلى أن "الديانة اليهودية"- نسبة إلى يهوه- لم تنم في أرض كنعان، وأن نشوء التوحيد حدث خارج "أرض الميعاد".
وفيما يتعلق بنشوء مصطلح "أرض إسرائيل" يقول إن اسم البلاد في "التناخ" كان كنعان، وفي فترة "الهيكل الثاني" كان المصطلح الشامل هو "أرض يهودا". ومصطلح "أرض إسرائيل" يظهر في الميشناه، لكنه ليس مطابقا لبلاد الوعد الإلهي الذي مُنح إلى إبراهيم. و"أرض إسرائيل’" كاسم ورقعة تظهر في التلمود بصيغ يعدّدها في الكتاب، وفي تقديره فإن المصطلح ظهر بعد أن غير الرومان اسم يهودا إلى سورية – بلسطينا، وعندها بدأوا في التشديد على مصطلح "أرض إسرائيل". لكن وفقا للتلمود فإن هذه منطقة تمتد جغرافياً من جنوب عكا إلى شمال عسقلان، ويظهر المصطلح كفريضة، أي أن "أرض إسرائيل" التلمودية ليست مصطلحاً جيو – سياسياً، وإنما هي مصطلح ثيوقراطي يتطرّق إلى أرض مقدسة تسري على سكانها فرائض خاصة مرتبطة بالبلاد. ويلفت إلى أن قلائل فقط مستعدون لأن يقرّوا بأن "أرض إسرائيل" في أسفار "التناخ" لم تشمل القدس والخليل وبيت لحم، وأن "التناخ" استخدم الاسم الفرعوني للمنطقة وهو "أرض كنعان".
هل الخزر هم الأشكناز اليهود؟
لم يكن المؤرخ د. ساند الأول والوحيد، كما لم يكن الشاب الأديب عبد الغني سلامة الثاني، بل سبقهم آخرون، منهم ماجد الخزعلي، ود. شاكر اللعيبي، ود. خديجة صفوت.
لقد قام د. شاكر اللعيبي بتحقيق رحلة ابن فضلان (دار السويدي، مشروع ارتياد الآفاق 2003)، التي تكشف حقيقة يهود الخزر الذين لم يكون يهودا بل تهودوا فيما بعد.
وقد استمعت لورقة د. خديجة صفوت "قراءة في رحلة ابن فضلان والخزر: أعراب الشتات / ازدهار وخراب الـمدن من يثرب إلى اشبيلية" عام 2009 التي قدمتها في ندوة على هامش توزيع جوائز ابن بطوطة بالرباط، التي حاولت إضاءة منطقة تقع ضمن الـمسكوت عنه في تاريخ قبائل "الخزر" (هم من القبائل التركية بحسب الورقة، التي استوطنت في مراحلها الـمتأخرة شرق أوروبا). حيث رصدت صفوت بداية تشكل "صهيونية مسيحية" لدى الخزر الذين "تحولوا إلى اليهودية في عهد هارون الرشيد". حيث ذكرت الباحثة "ولعل خزاريا كانت سفر تكوين أرض الـميعاد أو/و إسرائيل". ويسوقنا بحث صفوت العميق ولكن الجديد والـمربِك، إلى نتيجة مفادها أن الخزر هم "اليهود الاشكناز"، الغربيون، الذين استولوا على فلسطين بواسطة الإيديولوجيا الصهيونية وأن التكتم على تاريخ الخزر يأتي في صلب تمويه أصولهم البعيدة عن الـمنطقة العربية.
أما الذي دفع الخزر الوثنيين لاختيار اليهودية فلأنه طلب منهم اختيار دين سماويّ، ولما كانت بلادهم تقع بين تركيا المسلمين والمسيحيين، فقد خشوا إن اختاروا أحد الدينين تأليب أصحاب الدين الآخر، فما كان منهم إلا اختيار الدين السماوي الثالث.
لقد تعانق فعلا الأدب والتاريخ في كشف زيف أسطورة الشعب اليهودي!
الآن، وغدا، لا بد فعلا أن ينعكس ذلك على أية مشاريع تسوية أو حلول، لأن المفروض أن الفكر والحقائق هم الأسس التي ترتكز لها الحلول.
حين بدد الشعر والتاريخ الوهم.. وإلى الأبد!
إن ساد الفكر والمنطق والإنسانية، سيكون هناك متسع للتفاهم، أما إذا ظل كل ذلك محصورا بقوة السلاح ولقاءات العقول العسكرية فسيكون هنا شأن آخر يجلب الخراب للشعوب!
تحسين يقين